More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
الأشقياء في الدنيا كثيرٌ، وليس في استطاعة بائسٍ مثلي أن يمحو شيئًا من بؤسهم وشقائهم، فلا أقل من أن أسكب بين أيديهم هذه العبرات، علَّهم يجدون في بكائي عليهم تعزيةً وسلوى.
فظننتُ أنه لمَّا ألمَّ به من تعب الدرس وآلام السهر، قد عَبِئَتْ بجفنيه سِنةٌ من النوم، فأعجلته من الذهاب إلى فراشه، وسقطت به مكانه، فما رُمْتُ مكاني حتى رفع رأسه، فإذا عيناه مخضلَّتان من البكاء، وإذا صفحة دفتره التي كان مكبًّا عليها قد جرى دمعه فوقها، فمحا من كلماتها ما محا، ومشى ببعض مِدادها إلى بعض، ثم لم يلبث أن عاد إلى نفسه،
فأدركني من الوحشة عند دخولها ما يُدرك الواقف على باب قبر، ويحاول أن يهبطه ليودِّع ساكنه الوداع الأخير.
كنت لا أرى لذة العيش إلا بجوارها، ولا أرَى نُورَ السعادة إلا في فجر ابتساماتها، ولا أؤثرُ على ساعة أقضيها بجانبها جميع لذات العيش ومَسَرَّات الحياة، وما كنت أشاء أن أرى خَصْلة من خصال الخير في فتاة من: أدب، أو ذكاءٍ، أو حلمٍ، أو رحمةٍ، أو عفَّةٍ، أو شرفٍ، أو وفاءٍ إلَّا وجدتها فيها.
ولا أعلم هل كان ما كنت أُضْمِرْهُ في نفسي لابنةِ عمي ودًّا وإخاءً، أو حبًّا وغرامًا؟ ولكنني أعلم أنه كان بلا أمل، ولا رجاء،
المتسقِّطون؛ لأني كنت أجلُّها عن أن أنزل بها إلى مثل ذلك، ولا فكرت يومًا أن أستشف من وراء نظراتها خبيئة نفسها لأعلم أي المنزلتين أنزلها من قلبها: أمنزلة الأخ فأقنع منها بذلك، أم منزلة الحبيب،
فما مرت أيام الحداد حتى رأيت وجوهًا غير الوجوه، ونظراتٍ غير النظرات،
وفي هذا العالم طريدًا.
فكأنما عمدتْ إلى سهمٍ رائشٍ فأصْمَتْ به كبدي،
«قد كان كل ما أسعد به في هذه الحياة أن أعيش بجانب ذلك الإنسان الذي أحببته وأحببت نفسي من أجله، وقد حيل بيني وبينه، فلا آسف على شيءٍ بعده.»
لَعَمْرُكَ مَا فَارَقْتُ بَغْدَادَ عَنْ قِلًى لَو انَّا وَجَدْنَا مِنْ فِرَاقٍ لَهَا بُدَّا كَفَى حُزْنًا أَنْ رُحْتُ لَمْ أَسْتَطِعْ لَهَا وَدَاعًا، وَلَمْ أُحْدِثْ بِسَاكِنِهَا عَهْدَا
وغربة لا أجد عليها من أحد من الناس مواسيًا ولا معينًا.
لا أهبط بلدةً حتى تنازعني نفسي إلى أخرى، ولا تطلع عليَّ الشمس في مكانٍ حتى تغرب عني في غيره، حتى شعرت في آخر الأمر بسكونٍ في نفسي يشبه سكون الدمع المعلق في محجر العين، لا يفيض ولا يغيض.
وما على وجه الأرض أحدٌ أذل مني ولا أشقى!
«إنك فارقتني ولم تودعني، فاغتفرتُ لك ذلك، فأما اليوم وقد أصبحتُ على باب القبر، فلا أغتفر لك ألا تأتي إليَّ لتودعني الوداع الأخير.»
كل ما كانت ترجوه في الساعة الأخيرة من ساعات حياتها أن تراك، ففاتها ذلك وسقطت دون أمنيتها،
فعجز عن أن يلبي نداءها حيًّا فلبَّاها ميتًا.
وهكذا اجتمع تحت سقفٍ واحد ذانِكَ الصديقان الوفيان، اللذان ضاق بهما في حياتهما فضاءُ القصر، فوسعتهما بعد موتهما حفرة القبر.
وما أنت بشقيٍّ ما قنعت بما قسم الله لك،
هنالك علم أن تلك البارقة التي لاحت له في سماء السعادة من الأمل يوم المعرض، إنما هي خدعةٌ من خدع الدهر، وأكذوبةٌ من أكاذيبه،
وأصبح في منزلةٍ بين منزلتي الحياة والموت، فلا يفرح ولا يتألم، ولا يذكر الماضي، ولا يرجو المستقبل، ولا يعلم هل هو حجرٌ بين تلك الأحجار، أو قطعةٌ بين قطع الظلام، أو جسدٌ يتحرك، أو خيالٌ يسري، أو وهمٌ من الأوهام، أو عدم من الأعدام؟
لو يعلم الطير الذي مزق جثتك، أو الوحش الذي ولغ دمك، أو القبر الذي ضمك إلى أحشائه، أو البحر الذي طواك في جوفه، أن وراءك أمًّا مسكينة تبكي عليك من بعدك لرحموك من أجلي؟!
ما أسعد الأمهات اللواتي يسبقن أولادهن إلى القبور! وما أشقى الأمهات اللواتي يسبقهن أولادهن إليها!
إن الذي خلقنا وبثَّ أرواحنا في أجسامنا هو الذي خلق لنا هذه القلوب وخلق لنا فيها الحب، فهو يأمرنا أن نحب، وأن نعيش في هذا العالم سعداء هانئين، فما شأنكم والدخول بين المرء وربه، والمرء وقلبه؟
إن كنتم تريدون أن نعيش على وجه الأرض بلا حبٍّ، فانتزعوا من بين جنوبنا هذه القلوب الخفافة ثم اطلبوا منا بعد ذلك ما تشاءون؛ فإننا لا نستطيع أن نعيش بلا حبٍّ ما دامت لنا أفئدة خافقة.
ثم أسبلت فوق تربتها دمعةً كانت هي كل نصيبها من الدنيا!
هذِّبوا رجالكم قبل أن تهذِّبوا نساءكم، فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز!
فوا عجبًا لكم! تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها!
فوق هذه الصخرة المنقطعة أبكي عليهم، وأسأل الله أن يلحقني بهم، فمتي يستجيب الله دعائي؟»
يذرف دموعًا غزارًا، لا يعلم هل هي دموع الذكرى القديمة أو دموع الذكرى الجديدة!
ومتى كان للسعادة في هذه الحياة نهاية محدودة، فلا نجد الراحة إلا إذا وصلنا إلى نهايتها؟»
ما أكثر أيام الحياة وما أقلها؟!
أأعظك، وقد كنت واعظي بالأمس،
«لأن السعادة سماء والشقاء أرض، والنزول إلى الأرض أسهل من الصعود إلى السماء،
فإذا هو إنسانٌ في زي المساكين مستلقٍ على ظهره شاخص ببصره إلى جدار القصر، فذهبت بنظرها حيث يذهب، فإذا عينه عالقة بنافذة غرفتها التي كانت تجلس إليها كل ليلة،
وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لا يَنْفَعُ الوَصْلُ
فإذا قتل الأمير القاتل سُمي عادلًا، وأن يسرق السارق اللقمة يقتات بها أو يُقِيت بها عياله فيُسمى لصًّا! فإذا أمر القاضي بقطع أطرافه والتمثيل به سُمي حازمًّا! وأن تسقط المرأة سقطةً ربما ساقتها إليها خدعةٌ من خداع الرجال أو نزغةٌ من نزغات الشيطان، فيستنكر الناس أمرها، ويستبشعون منظرها، فإذا رأوها مشدودةً إلى بعض الأنصاب عارية تتساقط عليها حجارة من كل صوب، أَنِسوا بمشهدها، وأعجبهم موقفها ومصيرها!
واسأله أن يلحقني بك وشيكًا، فلا شيء يعزيني عنك بعد فراقك إلا الأمل في لقائك!»
ولو أن شخص الموت برز إليَّ في تلك الساعة لكان منظره أهون على نفسي من منظر هؤلاء الصبية، وهم يحدقون في وجهي عند دخولي، ويدورون حولي ليروا هل عدت إليهم بما يسد جوعتهم، وما عدت إليهم إلا باليأس القاتل والكمد الشامل.
فعُوقب السارق على سرقته، ولم يُعاقب القاسي على قسوته، ولولا قسوة القاسي ما كانت سرقة السارق.
ها هم أولاء الأمراء قد خانوا عهد الله وخفروا ذمامه، فأغمدوا السيوف التي وضعها الله في أيديهم لإقامة العدل والحق، وتقلَّدوا سيوفًا غيرها، لا هي إلى الشريعة، ولا إلى الطبيعة، ومشوا بها يفتتحون لأنفسهم طريق شهواتهم ولذائذهم حتى ينالوا منها ما يريدون.
لِتْسقطِ العروش، ولِتُهدمِ المعابد، ولتتقوَّضِ المحاكم، وليعمَّ الخراب المدن والأمصار، والسهول والأوعار، والنجاد والأغوار، ولتغرقِ الأرض في بحرٍ من الدماء يهلك فيه الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، والأخيار والأشرار، والمجرمون والأبرياء، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.»
وأصبحت أبكي لمرضك أكثر مما أبكي لحبك،
لقد أحبَّته من حيث لا تدري؛ فإن الخوف من الحب هو الحب نفسه،