عشت سعيداً من الدراجة إلى الطائرة

by عبد الله بن عبد الكريم السعدون

يقول مثل صيني لتعمر الأرض عليك بالقيام بثلاثة أمور: أن تزرع شجرة، وأن تكوّن أسرة، وأن تكتب كتابًا.

أؤمِن بأن النجاح مثل قمة الجبل، في أحيان كثيرة يحجبها الضباب، واضحة لمن يثابر ويطيل النظر ويرفع بصره عالياً ويكون الصعود إليها ضمن أهدافه، لكن الطريق إليها ليست يسيرة. أكثر الناس يعيش على سفوح الجبال، وبعضهم يجد المنحدر أسهل فيسلكه بدلاً من الطريق الصاعد، فيقوده المنحدر إلى هاوية يصعب الخروج منها. الطريق إلى القمة تعترضه الصخور والأشجار الملتقة، وتهبّ العواصف في فصل الصيف وتتساقط الثلوج في مواسم الشتاء، لكن للقمة حلاوتها وهواؤها النقي. قلّة من الناس جعلوا القمة هدفاً. بعضهم يمشي مكبّاً على وجهه فيصير كل حجر أمامه عثرة، أما الناجح فيرى الحجر أمامه فيقفز فوقه كدرج يؤدي إلى مزيد من الصعود. قلة هم الذين أخذوا بأسباب النجاح ورسموا الأهداف وتحملوا المشاق، لم يأبهوا للتعب بل وجدوا فيه لذة وتحدّياً. عرفوا أن الصبر والأمل سلاح، والوصول للمجد متاح، والعمل الدؤوب هو أقصر الطرق المؤدية إليه. في قمة الجبل ترى بعيدًا، ويطيب الهواء ويرهف الإحساس، وتزورك الطيور ونُسّاك الجبل. من قمة الجبل تحكم على الأمور بشكل أفضل. لكن لا تنسَ أن تمد الجبال الأمل للآخرين، واصرخ بين وقت وآخر لعل الصخور تنقل صداك للآخرين. طريق النجاح بحاجة إلى مؤن من الحب والتسامح والمعرفة والانضباط. ومن يريد النجاح عليه أن ينظر أبعد من موطئ قدميه، عليه برسم الأهداف وقوة العزيمة والإصرار وإتقان ما يعمل وعدم اليأس وألا يستمع لكلام المثبطين.

لم يجاوز الحقيقة رئيس وزراء ألمانيا وموحِّدها بسمارك عندما قال: «الأغبياء فقط هم من يتعلمون من تجاربهم، أما أنا فسأحاول جاهداً أن أتعلم من تجارب الآخرين».

لم يفتك القطار بعد لتركب عربة الناجحين، غيّر فالتغيير هو سرّ هذا الكون، لكنه بحاجة إلى إقناع وشجاعة وتخطيط ورسم أهداف ومثابرة.

أعرف الكثير ممن لا يفتحون أفواههم إلاّ عند الأكل. ويطلبون من الآخرين السكوت. كنا نحتال على الفقر والألم ونحيلهما إلى حبّ وأمل. كان الحب أقوى سلاح نستخدمه ضد العوز والحاجة، ما فائدة القلب بلا دموع وفرح؟ نقتلع جذور البغضاء من داخلنا بنسائم الحب الباردة. ندعها تهب على كل جوانب حياتنا. كان العمى نعمة لا تقدر بثمن، فقد أعطاني مزيداً من الوقت للتأمل والتفكير والتحدي.

تمرّ الليالي الصيف جميلة هانئة، يقدم العشاء بعد صلاة المغرب مباشرة، يبدأ بعدها السمر الذي لا يقطعه سوى توقف العمة لأداء صلاة العشاء، وقبل بدء سرد القصص يتسابق الأولاد والبنات لتنفيذ الطلبات، وهذا شرطها قبل البدء، فواحد يحضر الماء لها ليبرد وتشربه في ما بعد، وواحد يهيئ لها الفراش، ينام الصغار فوق سطح المنزل مع النساء، ويلفهم ليل القرية بهدوئه وسكينته التي لا يوقظها سوى أصوات الجنادب المتواصلة ونباح الكلاب أول الليل وصياح الديكة في آخره. ينام الرجال فوق سطح آخر أو على الرمال الدافئة التي كونتها الرياح في مجاري السيول المجاورة للمزرعة. يكتفي الواحد منهم بحفرة صغيرة يصنعها بيديه تحيطها من كل جانب طبقات من الرمال الحانية، ينام هانئًا تظلله النجوم وتسامره، ويستمتع كثيرًا بالليالي المقمرة. لا وقت لديهم للأرق أو القلق، فلا صفقات لم يكتمل إبرامها، ولا أرصدة لا يعرف أرقامها، كل ما يأكلونه من عرق جبينهم، ليس للحرام طريق إليه، يشكرون الله كثيرًا، فكل شيء نسبي، هم الآن أفضل حالاً من آبائهم. تقول العمة: نحن الآن مرفهون، أجدادنا كانوا يبحثون في الأماكن المهجورة عن عظم قديم يطبخونه ويشربون ماءه، أو جلد قديم يشوونه على النار ويأكلونه. تقول: كان الناس يغير بعضهم على بعض ليأكلوا ما عندهم. القوي يأكل الضعيف. كانت معركة حياة أو موت. حتى جاء الإمام عبد العزيز ومعه جاء الأمن والخير، أمن الخائف وأكل الجائع.

عندما كانت في قمّة نشاطها، كانت تعمل مع والدها في مزرعته صباحًا، وفي المساء تعود إلى بيتها في البلدة على بعد ثلاثة كيلومترات تقريبًا، تسلك طريقًا متعرجًا وفي منتصفه بيت مهجور يقال إن الجن تسكنه وإن من يمر به يسمع أصواتًا ويخيّل إليه أنه يرى أشباحًا تتحرك، لونها أسود بحجم الغنم، هذا البيت لأسرة انقرضت ولم يبق منهم سوى عجوز لها ولد اسمه فيروز. كان الكثير من سكان القرية يتفادون المرور من هذا المكان ليلاً وخاصة صغار السّن، أما العمة فتقول: كلّ شيء هنا وتشير إلى رأسها.

كانت العمة تردد دائمًا: الخوف لا يولد معنا، لكنه نتاج تربيتنا وبيئتنا.

تقول: تخاصمت مع جاري الجاهل الذي طالما نعت النساء بالخوف ونقص العقل، قال لي مرّة: «للمرأة ربع قلب رَجُلٍ مخنّث». فذهبت أشكوه لذلك الشيخ الوقور الذي استقبلني بحضور زوجته. تحدثت معه وشكوت له كثرة ما يقال عن النساء، من جبن وضعف ونقص العقل. وذكرت له ما قال جاري، فتبسم رحمه الله ومسح بيده اليمنى على شعره الذي رسم هالة وقار حول وجهه المضيء وقال: لا تصدقي كل ما يقال يا سارة، الجهل هو المسؤول عن الكثير مما يمارس ويقال. احتقار الآخر المختلف أسوأ ما في ثقافتنا. هل جرّب من يدعي ضعفهن بعضًا مما تقوم به النساء؟ النساء والرجال متساوون عند الله، ليتهم رجعوا إلى سيرة الرسول العطرة في تعامله النساء. لكل دوره في هذه الحياة. الدين نصير المرأة ومعلي شأنها. جاء الدين ليعلي، لا ليحتقر الإنسان، رجلاً كان أم امرأة. لكن المسئول هو الجهل وحب التسلط.

مع ذكريات العمة تذكّرت القول المشهور (لمارتن لوثر كنغ Martin Luther King Jr) داعية الحقوق الأسود: «لا يستطيع أحد الركوب على ظهرك إلاّ إذا كنت منحنيًا». عاشت معه محنية الظهر، تطالبها والدتها بمزيد من الانحناء، ويطالبها والدها بمزيد من الصبر. التعامل مع الظالم بحاجة إلى المواجهة ورفع الظلم سريعًا، وإلا تمادى في ظلمه. الظالم جبان يستغل ضعف الضحية. لذا من السهولة إيقافه بأكثر من وسيلة. للأسف كثير من المجتمعات تربي أبناءها على الانحناء منذ الصغر وتوهمهم أنه الأسلوب الأنسب للعيش بسعادة وسلام.

كان زوجها يردد دائمًا: متعة الحياة في البذل، النخلة التي لا تثمر يهجرها الفلاح وتغادرها العصافير وتجتث ليُزرع مكانها أخرى،

أما الزوج الرابع

‌‌«إذا احتفظت فى قلبي دائماً بغصن أخضر، فإن طائراً ما لا بد أن يقف عليه» مثل قديم

من قال إن الأولين أفضل منكم؟

في الطريق إلى المدرسة ظل المندوب يسدي إليّ النصائح، وكرر مرارًا: «إذا أردت الرفعة فعليك بالعلم، إياك أن تتركه، العلم هو أساس كلّ تقدم وما عداه وسائل مساعدة، من تعب في طلب العلم في صغره ارتاح في كبره». ردد الكثير من الحكم والأبيات التي يحفظها ويكررها دائمًا.

تتسلل إلى قلبي الصغير فالحب لا يقبل المشاركة، نادتني أمي وقالت: أنت تسألني: أي عينيَّ أحب؟ اليمنى أم اليسرى؟ أحب عينيَّ بنفس المقدار. * * * نظرت الأم إلى الزرع، وأخوها منهمكٌ في ريِّه ثم قالت: كلّ حيّ بحاجة إلى الحُبّ والماء وأشعة الشمس لينمو بشكل سليم، ما أحوجنا لمزيد من الحب والتعاون!

ضحك الزوج وقال: مصيبتنا أننا نحاول دائمًا أن نحلّ كل مشكلة بالقوة، وبنفس الطريقة دائمًا.

في مثل تلك الأوقات ينتظر الفلاح الريح بفارغ الصبر،

مثال على اعتماد القدماءالذين اعتمدوا على المفاجئات من الغيب دون محاولة السيطرة واخذ زمام الامور بيدهم. ذلك ما اكسبهم فلسفة ونظرة للحياة باسلوب هادئ ومليئ بالمعاني الجميلة.

بعض رجال القرية لا يتصفون بالحكمة دائمًا، فهم معارضون لكل جديد كما أن فيهم صاحب المزاج المتقلب تجاه الآخرين خاصة الغرباء الذين وفدوا حديثًا، أو الذين يعملون مع الحكومة، وأحيانًا يطلقون على بعضهم أوصافًا غريبة تسبب الكثير من النفور والبغضاء بينهم، وقد تنتقل إلى الأبناء، فهذا يشبه حمار فلان، وذاك رأسه كذا، وذاك بطّة عرجاء، وذاك سارق الدجاج، وذاك يعيره بأمه، وآخر جبان يخاف من زوجته. والغريب أنهم يلقّنونها للصغار من أمثالي وغيري من صبية الحارة وكأنها أنشودة حب، ويطلب منهم أن ينشروها ويرددوها أمام صاحب اللقب غير المستحب، ويجد بعضهم لذة كبيرة في ذلك، وبعضهم يصوغه شعرًا ليسهل حفظه. لكنني وغيري ندفع الثمن، بتسميتنا بأسماء مشابهه من قبل الآخرين، وقد نتعرّض للضرب أحيانًا من الكبار، الغريب أن منهم من يحفظ القرآن الكريم كاملاً ويقرأ ﴿وَلاَ تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ﴾. لم يسمعوا بقصّة رجل شتم آخر بحضور النبي صلى لله عليه وسلم إذ قال له: يا ابن السوداء، فزجره النبي وقال له: «إنك امرؤ فيك جاهلية». العبادة عند بعضهم هي الذهاب إلى المسجد فقط، أما التعامل مع الناس بالمحبة واللطف فشيء آخر لا صلة له بالعبادة، عندما يفقد الاحترام بين الناس، ويختفي بريق الحُبّ من العيون، يصبح العنف وسيلة التفاهم، موروثات من الجاهلية نحتفظ بها منذ قرون عديدة ونورثها لأبنائنا بكلّ أمانة.

في التجارة تسعة أعشار الرزق.

كلّ عمل ناجح يبدأ صغيرًا ثم يكبر وأصعب الأمور بداياتها، مع العزيمة والإصرار يتحول الحلم إلى واقع، رسم الأهداف من أهم المحفزات على الإنجاز.

ذهبت في صباح باكر لذلك النبع، وربما لم أنم تلك الليلة لأنني أريد أن أفاجئ أمي بصيد وفير، أخذت بندقيتي الهوائية وقليلاً من الأكل وعدة الشاي، لم أخبر أمي بوجهتي خشية ألا توافق، وصلت متأخرًا وأخفيت جسمي الصغير في الغار القريب من الماء كي لا يراني الحجل، ما باله اليوم لا يريد أن يشرب؟ ها هو اليمام والحمام يقترب ثم يطير بعيدًا، لقد خسرت الصيد وكسبت بدلاً منه هدوء الطبيعة وجمالها، أشجار كثيرة ملتفة، فهذا العرفج بأزهاره الصفراء الزاهية، والشيح برائحته النفاذة، والحمض يحتضن الصخور، والوادي تكسوه أشجار الطلح والسدر والسلم، تحيط الجبال بالوادي من جانبيه، يتسع حينًا ويضيق أحيانًا، فترسم الطبيعة لوحة فنية تمتد لمسافة عشرة كيلومترات، هي المسافة التي تفصل هذه الجنّة عن البلدة. يسلب خيالي المنظر بجماله وهدوئه، أبقى أطول فترة ممكنة، تمنيت لو أعبّر عن ذلك شعرًا، خاصة عندما سمعت صوت الحجل من بعيد، تمنيت لو كنت شاعرًا، أحب الشعر وأحفظه لكن معظم ما أقول سجع ورصف كلمات، يضحك منها الكبار ويطرب لها الصغار.

هناك علاقة طردية بين الحرمان من الشيء والتعلق به، كلما زاد الحرمان، زاد التعلق المؤلف

قرأت العبقريات للعقاد، والأيام لطه حسين، والعبرات والنظرات للمنفلوطي إضافة إلى كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة.

لم يكن مجتمعًا مثاليًا بل كسائر مجتمعات العالم يحمل الكثير من المتناقضات، الطاقة الجنسية ليس من السهولة إهمالها فتأثيرها على المجتمع كبير، كانت هناك حكايات تتداول عن علاقات تربط رجالا بنساء وهناك الشذوذ حتى أن بعضهم لا يتورع عن استخدام خلوة المسجد لفعله المشين، وهناك حكايات كثيرة عن علاقة بعض الشباب مع الحيوانات. هي الطاقة الهائلة للشباب لا بد من تصريفها بالوسائل المباحة، وإلاّ صرفوها بطرقهم الخاصة، من تجاوز الخمسين عامًا ينسى ماضية، ويريد من صاحب العشرين عامًا أن يتصرّف مثله، لا يريد أن يتذكّر كيف كان سلوكه في تلك السّن، هناك علاقة طرديّة بين الحرمان من الشيء والتعلق به، كلّما زاد الحرمان، زاد التعلق.

عدت إلى بلدتي بوعي أكثر، بدأت أستمع للإذاعة وأناقش بعض الأمور التي لم أسمع بها من قبل، سمعتني إحدى قريباتي وكانت كبيرة السن أقول: - ما أجمل الحرية! التفتت إليّ وقالت: - أتعرف ما هي الحرية؟ ولم تمهلني كي أجيب بل واصلت: - الحرية أن تأتي إلى بيتك وترى نعال رجال غريب عند الباب فلا تدخل حتى يخرج من عند أهلك، بئس الحرية ومن يدعو لها. - لكنني قرأت أن الحرّية تعني: إطلاق ملكات الإنسان ومواهبه، لا غرائزه وأحقاده. وأنها تعني رفع الناس أصواتهم ضد الظلم والكبت والفساد. وتعني عدم الخوف من العقاب عند المطالبة بالحقوق. من مناخ الحرية تهب رياح التسامح ويصبح الجو أكثر ملاءمة للتقدم والنجاح، ويصبح الناس أكثر غنى وسعادة. قرأت أنه مع الحرّية يسود العدل ويعمّ الرخاء وتتقدم الأمم، وفي غيابها ينتشر الفساد والظلم وتكثر الأخطاء ويزداد عدد الفقراء وتتخلّف الأمة. - دعك مما يقولون فالحريّة تعني الفساد. لم آخذ تعريف تلك المرأة مأخذ الجد، ظللت أتذكره كواحد من تعريفات الحرية المفترى عليها.

تردد أمي دائمًا: الإحسان إلى الناس دين يسدد فيما بعد، ها نحن نسدد بعض ما لها من ديون.

ليت التغيير كان جوهريٍّا، ليته في إشاعة الحب والتسامح بين أفراد المجتمع وحسن التعامل والاحترام، في حب العمل وإتقانه، في بناء العقول بتفتيحها وإكسابها مهارات التفكير، لا برمجتها وإغلاقها وتجييشها على الآخر، ليته في كشف قدرات الشباب الهائلة من عقليّة وبدنيّة وروحيّة وعاطفيّة وصقلها والعناية بها، ليته في تشجيع الفن الرفيع الذي يسمو بالذوق وينشر المعرفة، الفن الذي يسهم في نقد المجتمع وإعادة إنتاج الوعي لديه، وإضاءة الطريق أمامه، والإسهام في بنائه، ومحاربة الهابط الذي يثير الغرائز ويدفع للخواء، ليته في بناء الفرد (رجلاً كان أو امرأة) وجعله أساس كلّ تقدم وحفظ حقوقه وتعليمه المهارات اللازمة للعمل ضمن الجماعة، ليته في محاربة الظلم والفقر والفساد وإصلاح القضاء. ليته في في مكافحة الغش والكذب والخداع. كان قادة الصحوة مجتهدين، ورجالاً مخلصين أشداء، لكن ما كلّ مجتهد مصيب. كانت لهم أهداف نبيلة، لكنهم أضاعوا الفرصة في التركيز على المظاهر واللباس والدعاء والتركيز على عبادات معيّنة، وإهمال عبادات تنظّم الحياة بين الإنسان وأخيه، وبين الإنسان وبيئته. عبادات تهذب أخلاق المسلم، وتبرز أفضل ما لديه، وتبيّن الدين على حقيقته، عبادة تجعل شبابنا يقارعون الغرب والشرق فيما تنتجه عقولهم وما تبنيه سواعدهم. صارت المناهج تهتم بالتلقين والحفظ على حساب الفهم والتطبيق، وتهتمّ بالكميّة على حساب النوعية، صارت المناهج منفرة للطالب، فهجر القراءة وصار ينتظر نهاية السنة لإلقائها جانبًا، لكن أخطر عوامل ضعف التعليم وأكثرها تأثيرًا هو المعلّم. جاء للتعليم من يبحث عن الوظيفة فقط دون إيمان برسالة التعليم السامية والمهمّة لنهضة الأمة، وبعض المعلمين لهم مفاهيمهم المختلفة عن التعليم ورسالته. لم تعد المدارس مكانًا لاكتساب ...

التفت الفلاح إليّ وقال: ليس من علاج للجشع والطمع سوى تركه، ثم قال: محاربة الجشع بحاجة إلى شجاعة وقناعة.

العقول كالمظلات لا تعمل إلا إذا فتحت مثل إنجليزي

حاولت أن تأخذنا معك إلى عالم الشاعر وكشف أسراره وسبر أغواره، أخذتنا معك على بساط الخيال المجنّح، لنقابل الشاعر ونسأله ماذا يقصد بذلك النسر؟ هل يقصد نسرًا شاهده في سفح جبل؟ أم يقصد الأمة العربية؟ أم إن الشاعر يصوّر معاناته وما يمرّ به من صعوبات؟ أسئلة تفتّح العقول وتثريها وتبقيها متيقّظة متوقّدة، مبدعة. كان درسك لوحة فنيّة جميلة أشركتنا في رسمها، بطرحك الكثير من الأسئلة. كنّا نبحث عن الجمال في القصيدة، وكأننا نبحث عن زهر الخزامى في روضة معشبة. كنت تطلب منا أن نعيش في الأعالي كما تعيش النسور والصقور لا في السفح كما تعيش بغاث الطير وضعافها. سألته: كيف أبدع وحبب إلينا الأدب، وبيّن لنا أهدافه النبيلة؟ فكان جوابه مختصرًا قال بكل ثقة: (الحُب) أحببت المادة فأحطت بأسرارها، أكثر المبدعين هم من يعشقون ما تحت أيديهم من أعمال. آمنت برسالة التعليم فأديت الرسالة على الوجه المطلوب، عرفت أن الوطن لا يبنيه سوى أبنائه فأحببتهم وأخلصت لهم. جوابه ذكّرني بعاملين يقطعان الحجر، سئل أحدهما: ماذا تعمل؟ أجاب: ماذا ترى؟ أقضي نهاري في شقاء مع الحجر. سُئل الثاني: ماذا تعمل؟ أجاب وكلّه فخر: أسهم في بناء المساجد والمدارس والمستشفيات. تشعّ الحماسة ويظهر الفخر على وجه معلّم يؤمن أن التعليم أعظم رسالة، ويتلبس الكسل والإهمال مدرسًا آخر يرى في التعليم وظيفة مملة ومصدر رزق فقط. أتذكّر كلماته جيّدًا عندما قال: أرى مستقبل الأمة في الطالب الجالس أمامي. أراه وقد صار طبيبًا ناجحًا يعالج المرضى، أراه معلمًا يقف أمام الطلبة، أراه ضابطًا أو قاضيًا، أراه يحنو ويربّي صغاره. أرى فيه أهم مقومات بناء الأمة. أعجبني جوابه عندما قال: فهم المادة وتطبيقها وتحبيب الطلبة فيها أجدى من حفظها. وإثارة الأسئلة أهم من إعطائهم أجوبة جاه...

قرأت (في بيتنا رجل) و(الأم) وروايات (تولستوي) و(مكسيم غوركي). وعلى الجانب الآخر قرأت كتب سيد قطب وخاصة (معالم في الطريق) وكتب محمد قطب ومنها (جاهلية القرن العشرين).

وصلت إلى قناعات استمرت معي في جميع محطات حياتي. أولاها: أن التحزب على أساس ديني أو قومي داء أصيبت به الأمة العربية بصرف النظر عن دوافع الأحزاب المعلنة، فكل حزب وراءه طامع في السلطة، قد تؤسس لهدف نبيل، لكن سرعان ما تتداخل الطموحات الشخصية والأحقاد مع الأهداف النبيلة فتفسدها. القناعة الثانية: ألا آخذ كل ما يقال بالقبول بل لا بد من الشكّ وإثارة الأسئلة والتحليل قبل القبول. فكم من مثاليات أخلّ بها من لم أتصور أنهم سيخلون بها. وكم ردد الناس من خرافات، أخذت صفة الحقائق من كثرة الترديد والاستشهاد بها، كم تمنيت لو تعلمت مبادئ الفلسفة لأفكّر بشكل جيد، ولأكشف زيف كثير مما يقال ويفعل. الأسئلة مفاتيح للمعرفة إذا أجدنا استخدامها. القناعة الثالثة: أن داء الأمة من ثقافتها قبل أن يكون من أعدائها، ولا سبيل إلى أي إصلاح إلاّ بثقافة مختلفة تراجع الكثير من العادات والقيم السائدة والمعتقدات. وما أصدق قول الشاعر: لا يدرك الأعداء من جاهل ما يدرك الجاهل من نفسه القناعة الرابعة: هي أن التعليم بنوعيه الكمي والكيفي، هو الطريق إلى النهوض من مستنقع الجهل والتخلف، والذي أهم عناصر نجاحه المعلم والمربي الناجح، المحب لعمله ثم المنهج الذي يسهم في فتح العقول وشحذها لا برمجتها وتدجينها. لن تنهض الأمة إلاّ بتعليم يقدّس العمل وينبذ الكسل ويؤسس لتربية مختلفة عما نعيشه. حين سُئل وزير التعاليم العالي الياباني عن سرّ تقدم اليابان أجاب: «السبب هو نظام تربيتنا الأخلاقية».

لو كانت هناك دراسة جادة، لتجاوزنا سبب الهزيمة. كان من أهم الأسباب غياب الحريات، وسوء القيادة، ونقص التدريب، وضعف الروح المعنويّة، وغياب النقد الذاتي الذي نتجنبه ولا نتقنه أبدًا، نعتقد بأن النقد يقلل من قيمتنا، لذا سنظل في المستنقع نفسه حتى نبلغ كبرياءنا ونسمح بالنقد الذاتي المبني على حقائق وأرقام ودراسات جادة.

محاولات لم يكتب لها النجاح

زميل آخر شجعته أمه على دخول الطيران، وعندما أشعرها بتخوفه من أنه قد لا يجيد الطيران، أجابته: (من له عيون وراس، يسوي مثل ما يسوون الناس) مثل لو طبّق على أكثر من مستوى لاستفدنا من تجارب الناجحين على مستوى العالم. اختار هذا المثل (العيون) لترى ما يعمل غيرك، وتقرأ تجارب الآخرين الناجحة، واختار (الرأس) مستودع العقل والفكر، ليستوعب ويحلل ويختار.

وضعت لنفسي ثلاثة أهداف: أن أتخرج طيارًا، وأن أحصل على الترتيب الأول مع مرتبة الشرف الأولى، وألا أرتكب خطأً كبيرًا أحاسب عليه.

ألا توجد وسيلة أخرى لتهذيب سلوك الطلبة سوى الجزاءات. يقول المثل: «إذا كان سلاحك الوحيد مطرقة، فلن ترى أمامك سوى مسامير».

سلوك الطلبة ينبئ عن خلفياتهم، فقد أتوا من أسر وبيئات مختلفة، من السهولة معرفة الكثير عنهم من تصرفاتهم. أبناء البادية تبدو عليهم الشدة والصبر، لكنهم يفتقدون سلاسة التعامل، ولديهم عصبية قبلية بغيضة فرضتها ثقافة الصحراء، وتأصلت عبر الأجيال. أبناء القرى تعرفهم من نحافتهم وحاجتهم الشديدة إلى المادة، أحدهم كان قليلاً ما يغادر الكلية في نهاية الأسبوع، سألته عن سبب بقائه، أجاب: المكافأة أربعمئة ريال أسدد منها دينًا على والدي والباقي أحتفظ به لما بعد التخرّج. لا يدفع أجرة السيارة ليذهب إلى أقاربه في الرياض. الآتي من الجنوب أقرب ما يكون لأبناء البادية، إلاّ أنهم أكثر صبرًا ومثابرة. من تربى تربية حسنة تعرفه من سلوكه في الكلية، من دماثة خلقه وحسن حديثه مع الآخرين، واهتمامه بنظافته ومظهره. من تربى في محيط جاهل وإهمال يُعْرَف من تصرّفاته ومن تخاطبه مع الآخرين، يكون مُتْعِبًا لمن هم أحدث منه، لكنه يبقى عادة في أسفل السلم بالنسبة للرتب الشرفية التي تنمح لقدامى الطلبة.

يكتشف أنني لا أعرف شيئًا عن قيادة السيارة. يضحك المدرب ويلومني على إخفاء الحقيقة، قال لي: الأرض مكان الشرح والأسئلة والتوضيح، وفي السماء نطبق ما تعلمناه. ليس العيب أن تسأل، لكن العيب أن تدعي المعرفة.

في بلدتي قليلون من عندهم جهاز تلفزيون وسمعوا النتيجة، مع ذلك كان هذا الحدث حديث البلدة، يتحدثون بفخر أنه صار في البلدة طيار من أبنائها. أما أنا فاستمتعت بهدوء القرية وصفاء جوها، وظلال النخيل وهديل يمامها، بعد أيام وصل من الرياض صديقي محمد الذي أصبح سفيرًا في ما بعد، رآني أرعى الغنم قريبًا من المزرعة، ضحك وكلّه إعجاب وقال: من ينال مرتبة الشرف الأولى في الطيران لا يرعى الغنم. قلت له: نشأت في هذه البيئة وبين هذه الجبال وأوديتها وما ترسمه من لوحات جميلة طالما متّعتني بمنظرها الأخاذ، فيها ومنها تعلمت حب العمل والناس واحترام البيئة، لن أملّ منها ولا من أهلها الطيبين، سأعود إليها أرعى الغنم، وأستمتع بمرأى طيورها كلما سنحت الفرصة. سأكون ناسك جبل، متيمًا بأشجاره وحجارته وطيوره، سأسرق سويعات من وقت المدينة الصاخب، لأمشي وحيدًا بين أوديتها، أتحدث إلى أشجار الطلح والسدر وأصغي لطيور الحجل، أحتسي الشاي على وقع أصواتها. لم تجر العادة

سألت قائد الوحدة: ما الداعي لهذه القسوة؟ أجاب: الكذاب لا يمكن الوثوق به ولا يصلح للقوات الجوية. تذكّرت حديثًا لرسول الله ﷺ معناه أن المسلم يمكن أن يسرق ويزني لكنه لا يكذب. ظللت أستشهد بهذه الحادثة كلما مر عليّ موقف مشابه. مع الفارق الكبير في إصدار الجزاءات.

سألت قائد الوحدة: رأيتك بالأمس مع الطلبة تشرب وتضحك، وكأنك مع زملاء دراسة قدامى، ألا تعتقد بأن هذا سيؤثر في مهابتك وانضباطهم؟ أجاب القائد: بالأمس كان الوقت للترفيه، أما وقت العمل فمختلف تمامًا. لو سألت أحدهم ممن كانوا معي البارحة أن يقفز الآن عاليًا، لن يجيب بالامتناع بل سيسأل: كم الارتفاع؟ كان هذا القائد محبًّا لكرة السلة ومتحمسًا لفريق الجامعة التي تخرّج منها، في تلك السنة لعب هذا الفريق في المباراة النهائية على مستوى الولايات المتحدة، كانت الحماسة في ذروتها أثناء المباراة في نادي الضباط. في اليوم الثاني لم أسمع تعليقًا ولا نقاشًا حول تلك المباراة. حاولت أن أذكّر القائد بروعة أداء فريقه فقال: اسمع يا عبد الله مباراة الأمس صارت من التاريخ، لنتحدث عن الحاضر والمستقبل.

السكن متوافر في القاعدة الجوية (نلِّس Nellis) المشهورة بميادين التدريب الجوية والأرضية التي تحاكي الواقع، والتي كلفت البلايين، لكنها تحاكي أصعب المعارك الجوية ودفاعاتها. العرَق في السلم يوفر الدم في الحرب. السكن متاح للجميع متى ما توافر المكان، بصرف النظر عن الجنسية، ما دمت تحمل بطاقة عسكرية سارية المفعول.

أثناء تسوقي في محل داخل القاعدة ركضت ورائي امرأة في منتصف العمر، سألتني: هل أنت من السعودية؟ زوجي ذهب إلى هناك ويعمل مدرب طيار، هل تمانع في زيارتي في البيت؟ أريد مزيدًا من المعلومات عن المملكة، كانت امرأة فاضلة لها الكثير من النشاطات الخيرية، رغم إصابتها بسرطان الثدي مما اضطر الأطباء لاستئصاله. كانت تشارك بالترفيه عن بعض أبناء الفقراء، وتأخذهم ومعها مجموعة من المتطوعين إلى بعض الحدائق، فيرفهون عنهم بإجراء المسابقات وحلّ الألغاز وتقديم الهدايا للفائزين، لينتهي العرض بغداء مناسب. لم تنس هذه المرأة أن تأخذني معها وتشركني في بعض الألعاب. (ذهبَت فيما بعد إلى زوجها في المملكة). تقول هذه المرأة: لم يكن الأطباء متأكدين من شفائي، بل إن أحدهم قال لي: لم يبق لي سوى أشهر معدودة في الحياة، ضحكت منه وقلت: سأزورك بعد سنوات. كنت واثقة بالله، ومُحِبّة للخير، داومت على العلاج واستمتعت بكل مباهج الحياة الجميلة، وركزت على عمل الخير، ومشاركة الصغار فرحهم، أعشق الحياة وأكثر من الضحك، وأتوكل على الله، أصغر بناتها تبلغ خمس سنوات، وأكبرهن اثنتي عشرة سنة.

في الجامعة نشاطات كثيرة، ثقافية وفنيّة ورياضية، بعضها على مستوى الولاية وبعضها على مستوى الدولة. الجامعات هي مصدر الفكر النيّر والحاملة لمشعل الحريّة، ولكلّ جامعة قيم تعتز بها، وإلا ما الفرق بينها وبين المدارس الثانوية؟

العام هو 1973 حرب فيتنام في نهايتها، الصحافة الأمريكية والإعلام بشكل عام مشغول بفضيحة (ووترغيت Watergate) التي اتهم فيها الرئيس نيكسون بالتجسّس على الحزب الديمقراطي. كان من الممكن أن ينجو من الاستقالة لو لم يكذب في شهادته، الصحافة لديهم هي السلطة الرابعة التي لا سلطة عليها ما دامت تبحث عن الحقيقة.

تذكرت تلك الحكمة الأفريقية التي تقول: (حين يغيّب الموت عجوزًا، تغيب معه مكتبة واسعة).

يقول هذا الضابط: أحب التعليم وأعدّه أعظم رسالة في الحياة. عُرضت علي بعد تقاعدي فرص كثيرة للعمل والكسب المادي أضعاف ما أكسب من التعليم، لكنني فضلته لرسالته السامية، أرى في طالب أو طالبة أمامي مستقبل أمريكا وقوتها، أشجعهم على القراءة وإثارة الأسئلة، وكتابة البحوث، يسألني الطلبة عن أمور كثيرة وأجيب عنها. ميزة تعليمنا حثُّ الطالب على الشجاعة وحب المغامرة وقول الحق، وعدم السكوت على الظلم، لذا تفوقنا على أوروبا عسكريًّا واقتصاديًّا، طلبتنا يؤسسون من الشركات أضعاف ما يؤسسه غيرهم من شباب العالم، والسبب جودة التعليم وعدم الخوف وحب المغامرة.

سألتني أمي: هل لديهم نخيل مثلنا؟ لديهم كل شيء، عندهم الأنهار والأمطار الدائمة وعندهم القوة التي صاروا يعبدونها كربّ جديد، لقد أعمتهم القوة، فصار لها دعاتها ومصانعها وتجارها، وشنوا الحرب لأجلها، يشنون الحروب لردع المعتدي، لكنهم يعتدون بصلف أكثر، الحرب قد تقضي على ظالم، لكنها تنتج أعدادًا مضاعفة من ظلمة جدد. الحرب تكشف وتظهر أسوأ ما في الإنسان من توحّش وظلم ونقائص، للحروب إفرازات لا تظهر إلاّ بعد انتهائها.