عشت سعيداً من الدراجة إلى الطائرة

by عبد الله بن عبد الكريم السعدون

شعور الإنسان تجاه نفسه في الدائرة الأولى، وقيمه ومعتقداته في الدائرة الثانية، وقدراته في الدائرة الثالثة بحاجة لحالة نفسية وجسميّة مناسبة، للاستفادة منها لأقصى حدّ وهي الدائرة الرابعة، فمن يعمل في حالة من الخوف أو الشك لن يبدع كمن يعمل في جو من المحبة والتشجيع والثقة. الدائرة الخامسة هي السلوك وهي التي يركّز عليها لأنها الأوضح والأسهل تقييمًا. قد يؤثر التدريب أو الجزاءات على سلوك الشخص، لكن ما لم يؤمن بما ي عمل ويقتنع به داخليًا وبحسب الدائرتين الأولى والثانية فإنه سيعود لسلوكه السابق حينما تسمح ظروفه أو تضعف المراقبة. علينا أن نبدأ بالدائرة الأولى والثانية قبل الدائرة الخامسة.

في نهاية الإيجاز أتحدّث مع طلبة الطيران مشيرًا للباسي أولًا رمز الطيران، ثم أشير لهم وأهنئهم بالوصول لهذا المستوى، وأحثّهم على بذل الجهد للنجاح في تخصص من أجمل وأمتع وأصعب التخصصات أقول لهم: النجاح بيد كلّ واحد منكم وليس بيد المدرب أو غيره. أورد جملًا قصيرة حفظها الجميع وصاروا يرددونها أمام الآخرين وخاصة المدربين أمام طلبتهم. من هذه الكلمات: (if it is going to be, its up to me) ومعناها: إن تحقيق النتائج يعود إليّ وإلى اجتهادي. والعبارة الثانية (if there is a well, there is away) وتعني: إذا وجدت الإرادة لإنجاز شيء ما، وجدت الوسيلة لتحقيقه. أحرص على أن أقول لهم هذه الكلمات، وأؤكد عليها، لأن كثيرًا من الطلبة يعتقد بأن النجاح بالطيران مرهون بالحظ وجودة المدرّب، وبعضهم يعزو الفشل لعوامل خارجة عن قدراته كالعين مثلًا. أورد لهم بعض قصص الناجحين مثل العالم أديسون الذي قال عندما سئل عن سب نجاحه: كانت99 في المئة جهدًا ومثابرة و1 في المئة ذكاء.

«هناك إنسان ما في مكان ما يجلس الآن في الظل لأن أحدهم بادر بغرس شجرة منذ وقت طويل» وارن بافيت

في اليوم الثاني أكملنا جولتنا في ذلك المركز المتميّز، قال لي أحد المدرّبين: أنت أول ضابط بهذه السن وهذه الرتبة يشارك في هذه التمارين. لابد أن الرياضة لم تخذلك ووفت بوعدها وساعدتك كثيرًا على هذا الأداء. وأضاف: روح المغامرة يجب أن تكون جزءًا من حياة العسكري، وخاصة الضباط، والحقيقة أنها ضرورية لكلّ إنسان، الشجاعة مطلب لتحقيق الإنجازات. وأخبرنا هذا الضابط: تُشجّعنا وزارة الدفاع على قضاء الإجازة في مكان يشعل جذوة التحدي ويذكي روح المغامرة، نتعلّم فيه بعض المهارات، وهي تدفع لنا بعض تكاليف الإجازة. أحيانًا نقضيها في البحار وبين ثلوج القطبين، وأحيانًا نصعد ونتسلّق الجبال، وأحيانًا على السواحل نتعلّم الغوص، وأحيانًا في الصحاري على ظهور الجمال، لنا الحق في تكرار ذلك كلّ عامين. مساكين أولئك الشباب الذين لا يعرفون من الإجازة سوى التسكّع في ردهات الفنادق بصحبة الجوال، والجلوس لساعات في المقاهي أو الحانات، المدارس موجودة والدورات متوافرة ومؤسسات السياحة لديها البرامج النافعة، لكن البرمجة محصورة في اهتمامات معيّنة، نتركهم للفراغ والخواء، نلومهم ونحن المقصّرون. تربيتنا غائبة تهتم بالكم على حساب الكيف، ومدارسنا تتمسّك بمناج أسوأ مما كانت قبل خمسين عامًا، وفصول يتكدّس فيها الطلبة كما تتكدس الأغنام في الشاحنة، ومدرّسون يعتقدون بأن الطلبة عالة عليهم، وليسوا هم سبب وجودهم. علينا أن نغيرّ نظرتنا تجاه الحياة وفهمنا لها، فالتواكل مصيبة تغلغلت في ثقافتنا، وروّج لها من لا يفهم الدين على حقيقته، وكأن الرزق يأتي من التوكّل فقط دون العمل، وأن الحصول عليه يأتي من الدعاء فقط، الدعاء بوصلة تشير لما هو مطلوب لكن العمل هو المركبة للوصول إلى الهدف. لو توكلنا لرزقنا الله كما يرزق الطير، لكن هل سألنا أنفسنا ك...

أثارت فيّ هذه الزيارة تأملات وأشجانًا كثيرة وآمالًا يشوبها الإحباط، ونيرانًا من العزيمة والطموح يحاصرها الرماد ونقص الهواء النقي. تذكّرت قصيدة أبي القاسم الشابي (إرادة الحياة) التي منها: أبارك في الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر هو الكون حي يحب الحياة ويحتقر الميت مهما كبر فلا الأفق يحضن ميت الطيور ولا النحل يلثم ميت الزهر

كلّ عمل طائش يصدر عن عقول برمجها الفكر المغلق، والسياسة البغيضة، والأدلجة المتمترسة خلف دين هو منها براء، ينتج أعمالًا لا تمتّ لمصلحة الأمة أو الدين بصلة. كيف سيكون وضع المسلمين لو جنّد هؤلاء الشباب لمقارعة شباب العالم المتقدم في ميادين العلم ومكتشفاته، والرياضة، والفنون. لكن دفّة السفينة كانت بقيادة مجتهدين، بنوا اجتهادهم على أسوأ ما في العصور الماضية، وطوعوا بعض النصوص لتخدم مشاريعهم، فتحوّلت خططهم إلى تهوّر عصف بهم وبالعالم. لا يمكن أن تفسّر النصوص بعيدًا عن سياقاتها التي نزلت بسببها، وبعيدًا عن العقل في ترجيح صحّة تفسيراتها. لو حلّ الحب محلّ الكره، والتسامح بدل الغلو، واستشير العقل في تفاسير النقل، لحلّت كثير من تفاسير الآيات والأحاديث محلّ أخرى. سيكون ذلك ولكن بعد أن يستنفد قادتهم كلّ ذخائرهم، ويعرفون أنهم يسبحون ضدّ التيار، ويحاربون طواحين الهواء، وأنهم يسيئون لدينهم أكثر مما يحسنون، سيكون عندما يكون همّ كلّ حاكم عربي ومسلم رقي وسعادة شعبه ومحاربة الجريمة والفساد، سيكون عندما تصبح المدارس واحات يتعلّم بها أبناؤنا وبناتنا كيف يحيلون الألم إلى أمل، والكره إلى حب، وكيف يطرحون الأسئلة دون خوف ويرفعون أصواتهم بالأجوبة دون وجل، سيكون عندما تركض الصغيرة إلى الحديقة وتقطف منها وردة تهديها لوالديها. سيكون عندما نعلّم أبناءنا كيف يكون السلوك الحضاري في كلّ مكان ولكلّ مخلوقات الله. أمامنا طريق طويل وشاقّ، لو كان قصيرًا وسهلًا لعرفه الجميع واتخذوه مسلكًا وطريقًا. لن ينجلي ليل الجهل بالأماني، ولن تشرق الشمس لمجرد أننا نطلب منها ذلك. كثيرون يعتقدون بأنه لولا فلانٌ لما كان الإرهاب، ولم يعلموا أنه محصّلة قرون من الجهل والظلام وتغييب العقل، وما جرّه استعمار الإنسان وقهره لأخيه الإنسا...

ميزة هذا السفير علاقاته المتعددة وصداقاته مع كلّ مسؤول، ومع زملائه السفراء، وهذا ما سهّل المهمة وأثرى الزيارة بأنشطة ومعلومات كثيرة، من أراد أن ينجح في عمله، فعليه إقامة علاقات مع أصحاب القرار والزملاء، (معرفة الرجال تجارة) مثل يوزن بالذهب.

أحببتكم فأحببتموني وأخلصت لكم فلم تخيبوا ظني، حققتم الكثير لكنّ طريق النجاح ليس له حدود، وعزم الشباب لا يعرف المستحيل، تذكّروا ما كررته عليكم ولن أملّ من تكراره صباح مساء، لنلحق بالركب علينا أن نملك أدواته: عقول متفتحة، ونهم للمعرفة، وبناء للعقول والعواطف والأجسام. لن أقول لكم ما لم أطبّقه شخصيًا واستفدت منه. أحببت القراءة فكانت غذاء، ومارست الرياضة فكانت رجاء، وتجنّبت المحرمات فكانت خير دواء، رسمت الأهداف فشجّعتني على مزيد من العطاء.

- لكنني لم أخف العين في حياتي ولم أصب بها. دائمًا يبتلى بها من يخاف منها لأنه يعزو كلّ ما يصيبه للعين، هناك من يعلّق كلّ أمراضه وإخفاقاته على العين والسحر، وتشغل حيّزًا كبيرًا من أحاديثه ويورّث هذا الخوف لأبنائه، منذ شربت غسيل تلك الطاقيّة، صار لدي مناعة ضد العين والسحر، الجهل بحقائق الأمور يعزوها للغيبيات دائمًا، هناك من يجعل من مصائب الناس تجارة. ومن تجهيلهم شطارة.

تذكّرت جيدًا حديثًا دوّنته السيدة (هلاري كلينتون) في كتابها (تاريخ عشته) بين شيخ جاوز الخامسة والتسعين لا يشكو من زحف السنين، وابنتها التي لم تبلغ العشرين عامًا، قال لها الشيخ: أتدرين سرّ الصحة والحيوية والنشاط؟ إنها الرياضة ثم الرياضة ثم الرياضة. أما عن الأكل فقال ذلك المسنّ: آكل في اليوم ست مرات لكن في كلّ مرة آكل في حجم البيضة فقط، تذكري حجم البيضة فقط، وأكثر من الفواكه والخضروات.

علمت يقينًا أن العالم سيظل في صراع على مصادر القوة وشرايين الاقتصاد، حتى الأبناء يتصارعون على ثروات تركها الآباء، وكلما زادت الثروة زاد التباعد واحتدم الصراع. عشت واحدة من أسوأ فترات الإرهاب، وأعلم يقينًا أن الإرهاب ليس سوى رأس الجليد الطافي، أما بقية الجبل المطمور فمكوناته الفقر والجهل والمرض والفساد والانفجار السكاني والغلاء. سيظل العالم العربي والإسلامي يتخبط في مستنقع العالم الثالث مهما تكدست عنده الثروات، ولن يقفز به إلى مصاف العالم الأول سوى تعليم يفتح العقول وعلم يفجّر الطاقات، وحرّية يستنشقها الناس كالهواء، ورقابة صارمة تكشف الفساد من أي مصدر كان، وقضاء نزيه يعطي كلّ ذي حق حقه دون تأخير، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب مع ما يحتاجه من صلاحيات. أؤمن بأن الاقتصاد القوي أهم من السلاح، بل هو أمضى وأضمن سلاح وأهم ممول لكلّ شرايين الحياة، لكن الاقتصاد القوي بحاجة إلى كلّ ما سبق ذكره مع التركيز على جودة الإنتاج. ليس كلّ ما لدى الآخرين يصلح لنا، لكن الحكمة ضالّة المؤمن، فلا بأس من دراسة أسباب النجاح والأخذ بها قبل فوات الأوان. لن يصل المسافر إلى هدفه إلاّ بثلاث: معرفة الطريق، واتجاه صحيح، ووسيلة نقل مناسبة. لن نصل إلى المكان المناسب ونحن ممسكون بخارطة لم تُحَدَّث منذ زمان، وبوصلة لا تؤشر للاتجاه الصحيح، ومركبة ينقصها الكثير من المستلزمات.

كم تمنيت لو أهمس في أذن كلّ أم وأب صباح مساء، لأذكرهم بعظم المسؤولية تجاه أبنائهم وحسن الجزاء إن هم أحسنوا الأداء. بودي أن أثبت لهم كيف يصنع الحب والرعاية المعجزات، وكيف أن تنمية العادات الجميلة كالقراءة والرياضة تحول دون الكثير من الإخفاقات والعثرات في قادم الأيام.

سنحت لي بعض الفرص التجارية لكنني اعتذرت بكلّ أدب، ليس لأنني لا أحب العمل والمال، لكنني لم أجد فيها ما يلبي طموحي ويساعد الناس، أريد عملًا محببًا إلى نفسي وأستمتع به، ومن خلاله أستطيع أن أساعد الآخرين، لكن لم أجده حتى الآن. أؤمن بأن العمل سرّ من أسرار الصحة والتمتع بالحياة، ألم تقل إليانور روزفلت ذات مرّة: «إذا شعرت بالكآبة، أسارع إلى العمل»؟ آمنت أنه سيكون هناك صحوة، لكن ليست كسابقاتها، ستكون صحوة شعارها الاعتدال والتجديد والاجتهاد ونبذ التفرقة، صحوة لها ثقافة مغايرة لما نعيشه، صحوة ضد الفساد بأنواعه، والكسل والتواكل، وضد الخرافات التي يروّج لها المتاجرون بسعادة الناس وصحتهم، صحوة تعيد إلى المرأة مكانتها، وإلى الفن الراقي قيمته ودوره البنّاء. سيكون هناك تغيير نحو الأفضل في أمور، ونحو الأسوأ في أمور أخرى، سيأتي التغيير من الداخل والخارج، لكنه من الخارج أشدّ وأقوى، هذه القرية الكونية ستتداخل فيها المصالح والثقافات شئنا أم أبينا، وكالأواني المستطرقة سيكون التأثير أقوى وأسرع من القوي إلى الضعيف. سيظل التعليم الجيّد أهم أسلحتنا للتغيير نحو الأحسن، لا عذر لنا في عدم اختيار أفضل الكفاءات للتعليم مع وفرة الخريجين من الجامعيين، ليُبنى الاختيار على أسس علمية في مدى ملاءمة المتقدم لرسالة التعليم، ولا عذر لنا في ترك مناهجنا دون تطوير وتغيير مستمر، ترك تأليفها للمختص في المادة فقط ينتج عملًا ناقصًا. قد يأتي التغيير خلال سنوات وقد يحتاج إلى عقود لكنه آتٍ. عشت أحداثًا كثيرة مهمة، عرفت من خلالها أن أسوأ القرارات وأكثرها تدميرًا ما يقوم به الأقوياء، وكلما زادت القوة من غير ضوابط زاد الدمار. الزجّ بأمة كاملة في مغامرات غير مدروسة نتيجة قرار يتخذه شخص أو أشخاص يعد واحدًا من أسوأ ما تعاني منه...

الأفكار العظيمة لها قدرة عجيبة على توجيه العالم، لكنها في حاجة إلى قادة عظام يؤمنون بها وينفخون فيها الروح ويتبنونها، لم يكن الرئيس أبراهام لينكولن والمهاتما غاندي والملك عبد العزيز والرئيس نلسون مانديلا إلاّ نماذج من هؤلاء القادة المتميزين في عصرنا الحديث. قائد مخلص يرقى بأمته إلى مصاف الدول المتقدمة فيذكره التاريخ في صفحاته الخالدة، وقائد آخر لا ضمير عنده يهوي بها إلى مستنقع الفوضى والجهل والفقر فيُضرب به المثل في سوء المنقلب.