عشت سعيداً من الدراجة إلى الطائرة

by عبد الله بن عبد الكريم السعدون

دونت في مذكرتي درسين مهمين: الأول أن التنسيق والاتصال سيظلان مشكلة أزلية تؤثر في سير معظم العمليات، الثانية: أن من يجتهد ويعمل سيخطئ، وعلى الآخرين عذره.

(ابدأ والنهاية ماثلة أمامك)، واحدة من العادات السبع للناجحين في كتاب (ستيفن كوفي) المشهور. لو تصور كل إنسان نهايته فهل ستكون النتيجة هكذا؟ في أحسن الأحوال ستكون هيكلاً من الشمع يتفرج عليك السياح، أمّا ما تترك من أثر طيب فسيبقى وينتفع به الناس.

ما أجمل الحرية التي تؤتي ثمارًا من الحب والعمل والإبداع! ما أسوأ أن تحاط بالحزن والريبة من صنع يدك! ما أسوأ أن تحاك حياتك على مقاس الآخرين! أن تلبس في كل مجلس ومناسبة قناعًا!

سميت واشنطن بهذا الاسم تخليدًا لأول رئيس للولايات المتحدة، هذا الرئيس الذي رفض اقتراحًا بالتمديد له لولاية ثالثة بدعوى أن الأوضاع لم تستقر بعد، فقال: لو كسرت القانون وبقيت لولاية ثالثة، فلن يصبح للقانون قيمة بعدي وسيتجاوز الآخرون. ولهذا الرجل فضل كبير على الولايات المتحدة ودستورها الذي ينص عل استقلال السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية ما أمكن ذلك، فقد كان من أكثر المتحمسين لهذا البند، ودعم السلطة الرابعة، الصحافة التي تعد صمام الأمان ضد أي تجاوز أو فساد.

انتقلنا إلى قاعدة (راندولف) الجوية التي تؤهل الطيارين ليصبحوا مدرسي طيران، كنا أربعة من السعوديين والبقية من الأمريكيين، اثنان منهم عادا للتو من الأسر في فيتنام، أحدهما برتبة عقيد والآخر برتبة رائد. كان التنافس شديدًا والمعنويات عالية، يقول أحد المدرسين: قبل وصولكم حذرنا المسئولون عن الأجانب من كثرة غيايكم، لكن دُهشنا عندما لم يتأخر واحد منكم ولو لمرة واحدة، بينما تأخر بعض طلبتنا من الأمريكيين، لقد غيرتم النظرة المأخوذة عن الأجانب. عندما يكون الاختيار والإعداد جيدًا، تكون النتائج مشرفة. أسوأ شيء عندما يرسل إلى تلك البلاد من لا يهمه مصلحة نفسه ولا مصلحة بلده، إما لصغر سنه أو لسوء تربيته ونقص إعداده، يرتكب الكثير من الحماقات بحق نفسه ودينه وبلده، أفضل من يبتعث إلى هناك شركة أرامكو العملاقة، تختار بشكل جيد، وتعد بشكل أفضل، ثم تتابع عن كثب، خاصة التحصيل العلمي، وبعد عدد من الإنذارات يفصل المقصّر. لذا الفرق واضح بين مبتعثيهم ومبتعثي الجهات الأخرى من حيث التحصيل والسلوك، لدى هذه الشركة العملاقة الناجحة تجارب وممارسات كثيرة يمكن أن يستفاد منها في أكثر من ميدان.

في دول العالم الثالث تتخذ القرارات بناءً على مصالح شخصيّة أو اقتصادية دون النظر إلى أضرارها البيئية، فلا دراسات عن تأثيراتها المستقبلية، وأحيانًا يقضى على الغابات وتشوه الشواطئ، وتلوّث البحار نتيجة الطمع والحلول المرتجلة السريعة.

انتهت دورة مدرسي الطيران بنجاح تعلمت خلالها أمورًا أساسية، من أهمها أن التدريب الجيد هو الأساس لقوات جوية محترفة، لا تجامل على حساب أحد، لا تسمح لمن لديك شك في مقدرته على النجاح بالتجاوز، فالطيران مقدرة، والضعيف سيرافقه الضعف كظله ما بقي في هذا المجال، وقد يكون سببًا في هلاكه وهلاك غيره. تذكر أن الطالب الممتاز هو من قد يقتلك لأنك تثق به ولا تراقبه بشكل لصيق، أحبب عملك تستمتع به وتبدع وإلا صار عبئًا وحملاً ثقيلاً، ستقضي الساعات الطويلة داخل السرب، ولكن تذكر أنها ضريبة النجاح ورد جميل الوطن. استمتاعك بعملك وممارسة الرياضة علاج لكثير من الضغوط والأمراض.

كيف آتي إلى سوريا ولا أرى المعرّة التي ولد فيها الشاعر والمفكّر أبو العلاء المعرّي، إنها معرّة النعمان، تلك المدينة الشامية الجميلة، التي تضمّ قبر ذلك النابغة الذي أعمل فكره وقلّب بصره وحلّل كل ما سمع تحليلاً عقليًّا بعيدًا عند الدروشة أو التزمت وأكاذيب المتاجرين بمصائب البسطاء، كره الصراع بين الأديان والصراع داخل الدين الواحد، خصص حيّزًا من شعره للرد على المذاهب المختلفة التي زرعت الفتنة بين المسلمين، جادل المعتزلة فيما يقولون عن خلود أهل الذنوب في النار، وانتقد الصوفية لاهتمامهم بالمظاهر وانتقد الشيعة لانتظارهم إمامًا غائبًا لن يأتي أبدًا، وقال عن المذاهب جميعًا: إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا على الرؤساء…

ليت كل موظف في دول العالم الثالث تتاح له فرصة زيادة دولة من الدول (الاسكندنافية) ليعرف قيمة الإنسان، هناك يركب رئيس الوزراء بجانبك في القطار أو يقف خلفك ينتظر دوره للحصول على بطاقة دخول دار سينما.

إذا غاب الضمير والخوف من الله وأُسيء فهم الدين تنتشر الممارسات الخاطئة في كلّ مكان ومجال، ويفرّغ الدين من معانيه العظيمة، بل يصبح طقوسًا وحركات تؤدى في أماكن وأوقات معينة من دون أن يكون له أثر في تهذيب سلوك الإنسان وتعامله مع الآخر، وفي زرع قيم تحث على الاستقامة وتحارب الغش والكذب.

ليست المملكة بلدًا زراعيًّا، فلا أمطار ولا أنهار، وأجواء شديدة البرودة والحرارة. كل قرار لا تتم دراسته من قبل أهل الاختصاص ودراسة جدواه الاقتصادية بشكل خاص، مآله الفشل، النيات الحسنة لا تكفي لنجاح الخطط الكبيرة، خلو البلد من مراكز الأبحاث الجادة يحرمها من اتخاذ القرار الصحيح في معظم الأحيان.

رأيت بعد أعوام أحد ضباط الصفّ المتقاعدين وكان واحدًا من طلبتهم وقد أطلق لحيته الكثة وتغيرت شخصيته تمامًا، كان يتهجم على الغربيين والأمريكان بشكل خاص لما يقومون به من أعمال حول العالم، ذكرته بتلك الأيام، تهللت أساريره وبدأ بالثناء على تلك الأيام وعلى مدرّسيه الذين دربه من نفس الجنسية التي يهاجمها، قلت له: دعك من السياسة والأدلجة، الإنسان هو الإنسان في كل مكان، كالبضاعة تمامًا، فيها الجيد والرديء، فيها الأصلي والمقلد، السياسة وجهابذتها والمؤدلجون وطموحاتهم وتجار السلاح ونهمهم، هم من يزرع الفرقة في العالم الكئيب، الشمس ترسل أشعتها كل يوم دون أن تفرق بين البشر، لو شاء الله لجعلنا أمة واحدة، لكن لله في ذلك حكمة لا نحيط بها.

أهم شيء إقامة علاقات طيبة مع الإخوة اليمنيين، لن تكون هناك سلاسة في العمل ونجاح إلًا بعلاقات جيدة وثقة، يقال: إنهم لا يحبون السعوديين. مشكلتنا في كل حياتنا أخذ ما يقوله الناس حقائق غير قابلة للنقاش، لدينا داء اسمه (التعميم) فمن السهولة أن نقول (كل أو 100%) مع أننا لم نكلف أنفسنا عناء البحث. طالما أن الثقافة مشافهة فقط، فهذا هو المنتج.

ألم يقل المثل: (العقل كالمظلة لا يعمل إلّا إذا كان مفتوحًا)؟ للأسف تبعه عقول كثيرة فقدت التفكير المرن والتحليل العاقل المتأني، كيف استطاع أن يقنع هذا العدد من الرجال أن مصلحة الأمة في تكديس الأسلحة داخل الحرم، واستخدامها ضد الآمنين؟ سيضلّ عالمنا الإسلامي بيئة مناسبة لبروز ظواهر كثيرة تتخذ من الدين سلاحًا ووسيلة إقناع، والغوص في التراث بحثًا عن دلائل مقنعة لما يخططون له، وسيستمر المتعطشون للزعامة جاهزين لبذل كلّ ما يستطيعون لكسب الأتباع وخوض المغامرات. معظم مصائب العالم وحروبه خلقها متعصبون لرأب، تسلّحوا بأدلة كثيرة تدعو للتعصب والإقصاء، ورسموا أهدافًا تدغدغ مشاعر الجماهير. من يصدق أن شعبًا بذكاء الشعب الألماني ومستوى تعليمه، يمكن أن يجرّه متعصب برتبة عريف إلى حرب عالمية، لكنها الشعوب تجري خلف سراب الكلمات ومعسول الوعود، خاصة إذا دغدغت الكلمات المشاعر وآمال الأكثرية، وإذا خان المثقفون ضمائرهم وبرّروا أفعال الظالم وصفقوا له. كلّ الحضارات التي جلبت التقدم والرخاء، قامت على احترام العقل وتحريره من الوصاية علي، فصارت عقول متفتحة منتجة، تتمتع بالشجاعة والتسامح وتأخذ أفضل ما أنتجته الحضارات التي قبلها. لولا الفلسفة التي تطرح الأسئلة بحثًا عن الحقيقية ما تقدّمت أوروبا من سباتها وأضاءت لها دروب المعرفة. المرونة والتسامح لا يعنيان الضعف والاستسلام، بل القوة وبعد النظر، لابد من قبول الآخر والتعايش معه ومعرفة أت الكثير مما يحتفظ به العالم من ثقافة وتراث وأفكار ليست يقينية ولا مطلقة.

الحقوق لا تأتي تفضلّا من أحد، بل تؤخذ بالمطالبة بها والتضحية في سبيلها.

يركزون على ثلاثة أمور لنجاح العمليات يختصرونها بحرف (CCC) مكررًا ثلاث مرّات Communication Coordination Cooperation) وتعني الاتصال والتنسيق والتعاون. لهذا الغرض يحاضر أستاذ متمكن، ويضرب الأمثال على ما يحاول توضيحه، يقول عن الاتصال ومشاكله: إن أكبر المشكلات سوء الفهم فأنت تفهم شيئًا وأنا فهمت شيئًا آخر وكلانا يعتقد بأنه فهم الآخر. يسوق حكاية طريفة حصلت له مع زوجته إذ طلب منها أوراقًا نسيها في البيت ويحتاجها للمحاضرة بعد الغداء مباشرة، يقول: طلبت منها أن تحضرها في مطعم معين، تناولت غدائي في ذلك المطعم وانتظرت ولم تحضر، ليس من عادتها التأخر خاصة في مثل هذه الأمور، انتهى الوقت وعدت إلى العمل غاضبًا واتصلت بالبيت. (لم يكن الجوال موجودًا في ذلك الوقت). – أين أنت؟ ولماذا لم تحضري؟ ألا تعرفين أهمية المحاضرة؟ – بلى وقد حضرت ولم أجدك كيف تتركني ساعة ولا تأتي؟ – لأي مطعم ذهبتِ؟ – للمطعم الذي ذكرت. – ولكن أي فرع؟ للفرع الذي نذهب إليه دائمًا، القريب من البيت. – لكنني أريدك هذه المرة في المطعم القريب من العمل، ألا تعرفين أهمية الوقت عندي؟ الواجب أن تفهميها، لو كنت أريدك هناك لحضرت بنفسي إلى البيت. وهكذا يكون سوء الفهم مصدرًا لكثير من الأخطاء والخلافات. وهكذا يستمر في ضرب الأمثلة، محاضرة لا يتسلل إليها الملل، وتبقى راسخة حاضرة بعد ثلاثين عامًا.

تركز الدورة على التواصل وحسن الإلقاء ويحددون لكل طالب موضوعًا ومدة محددة، ويسجلون محاضرته على شىريط مرئي يطلع عليه الطالب بعد المحاضرة، يقوم الطلبة بنقده بعد المحاضرة بكل صراحة وبلا مجاملة، فهذا يحسب عليه حركات حسمه، وآخر يعدّ كم مرة كرر تلك الكلمة، وثالث يخبره عن تجاوز الوقت، ورابع ينتقد الموضوع وعدم وضوحه، وهكذا يستمر النقاش البنّاء الذي يستفاد منه في الحياة العملية.

الرياضة ليست عندهم ترفًا بل ضرورة، تمنحهم قوة التحمل واللياقة والصحة. تحارب أمراض العصر كالسكر والضغط وهشاشة العظام (الترقّق) والأمراض النفسية، والرياضة من أفضل وأجدى وسائل الترفيه والتعليم.

في هذه الدورة يزرعون عادات تبقى مع الضابط طوال حياته، يحددون لكل يوم موضوعًا أو مواضيع للنقاش بشكل فاعل، يقترحون الكتب لكل موضوع، وفي الكليّة مكتبة كبيرة بأدوار متعددة، الكلية تضم دورة الأركان وكلية الحرب، إضافة إلى هذه الدورة، يدعون المحاضرين من جميع أرجاء الولايات المتحدة، منهم قادة بسحل حافل من الإنجازات، ومنهم أساتذة الجامعات وسفراء بعض الدول، يعطون وقتًا للمداخلات والأسئلة، يختارون المحاضرين بعناية بحسب المواضيع وما يجري على الساحة الدولية. شيء آخر ومهم في هذه الدورة، وهو التركيز على النقد البناء، يذهبون إلى أحد المطاعم للغداء ثم يبدأ بعضهم بنقد بعض، يوضحون ما يكرهون من كل واحد ومن بينهم المدرس، وغالبًا يعملون ذلك بعد عدد من كؤوس النبيذ ليكونوا أكثر صراحة، يهتمون كثيرًا بإقامة المناسبات التي تقربهم أكثر وتزيل الحواجز بين القائد والمقود، وكأنهم يقولون: هكذا يجب أن تكون الوحدة المقاتلة، وعلى المدرس حضور جميع المناسبات، كما هو المفروض بقائد الوحدة.

من كان خصمه عاقلًا لا يتعب.

مساكين من يقضون جل أوقاتهم في فصول يسكنها السأم والخوف والكسل، فلا عقول تتلاقح، ولا أجسام تتحرك، ولا سواعد تحقق الإنجازات، مسكين كل معلم سواء أكان مدنيًا أو عسكريًا لا يجدد نشاطه بمثل هذه الدورات، ومفلس من عاد من تلك الدول المتقدمة بشهادة علمية، دون التشبع بثقافة البذل والعطاء والتعاون وروح الفريق واحترام الوقت وحب الوطن ورسم الأهداف لرفعة نفسه وأسرته ومجتمعه. سرّ الحضارة في العنصر البشري الذي أطلق لخياله العنان، وعمل بكل جد واتقان. أسوأ شيء أن تعتقد أنك تمتلك الحقيقة كاملة بلا زيادة أو نقصان، أليست الحكمة ضالة المؤمن؟ للأسف نراها ونعرض عنها. يقول (ألبرت شفستر) في مؤلفه (فلسفة الحضارة): «الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على حدّ سواء». العظمة في البذل والعطاء لا الأخذ والاستئثار، من السهولة أن تجد المبررات لأخذ مال غيرك، لكن من الصعوبة أن تعطي بعض ما تملك. الجشع أن يكدّس الغني البلايين هناك من لا يجد قوت يومه. للحرية جوانب سلبية، لكنها أعظم دعائم بناء الحضارة وازدهارها، لكنها الحرية المنضبطة التي تردعك عن الإساءة لنفسك أو الآخرين. بيننا أو بينهم اختلافات كثيرة، ولكن أليس الاختلاف سنة هذا الكون وسر بقائه؟ أليس الاختلاف باقيًا بيننا إلى يوم القيامة. تذكرت قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون َ﴾ آل عمران، 55). لم لا نراه نعمة أنعم بها تعالى على عبده الضيق الأفق؟ لم لا نراه سرًا لبقاء الحياة على الأرض؟ المْ يَقُلْ: إنه لولا المجرم والجريمة لما وجد الكثير من الوظائف من شرطة ومأموري سجون ونجارين لصناعة الأبواب وأقفالها؟ هذه الدورة وغيرها من الدورات في الولايات المتحدة تتغير وتتطور بشكل مستمر، سواء في ال...

بناء وحدة مقاتلة ناجحة، مثل بناء مؤسسة رابحة، بحاحة إلى جهد مضاعف من القائد. عليه أولًا أن يكون قريبًا من ضباطه وأفراده، وأن يكون قدوة لهم، حاولت أن أتذكر ما تعلمته في دورة مدرسة ضباط الأسراب في الولايات المتحدة، أليس الإمام دائمًا في المقدمة ليقتدي به من خلفه؟ وهكذا القائد، ألم يقل (بنيامين فرانكلين): «القدوة أكبر موعظة». ما فائدة أن نتعلم علمًا لا نعمل به؟

هناك مشكلات في الصيانة، لا يوجد عدد كاف من الرحلات كل يوم. الحل لدى مسؤولي الصيانة، إنقاص عدد الرحلات. العذر جاهز، نقص قطع الغيار، لابد من البحث دائمًا عن عذر يجنبهم المسؤولية، لا شيء كالأسباب الخارجية فهي خارجة عن الإرادة، زادت المشكلة وتدخلت القيادة، ليتبيّن أنها ضعف الإنتاجية، وليس قطع الغيار. إذا كان قائد الصيانة لا يدري كم تبقى الطائرة متوقفة في حظيرة الطائرات، فلا لوم على الرقيب الفني إذا لم يهتم بخروجها وجاهزيتها، يتسرب الإهمال بين العاملين من الأعلى إلى الأسفل أسرع مما يسري الاهتمام، وتنتشر الروح المعنوية الهابطة أسرع كثيرًا من الروح المعنوية العالية، لأن الإنسان جبل على الكسل إن لم يجد التشجيع والمتابعة والقدوة، العيب ليس في الأشخاص لكن في القيادة والنظام، والدليل تلك الحماسة المنقطعة النظير في التمارين داخل القاعدة وخارجها.

في الصباح كانت والدتها إلى جانبها في المستشفى من دون تخطيط، لكنها العناية الإلهية تتابعنا في أكثر من مكان، كان والدها ووالدتها في إجازة في مصر ولم يجد حجزًا للعودة إلّا عن طريق جدة، عندها قررا المرور على الطائف ليجدا المفاجأة، ابنتهما وحيدة في المستشفى، بقيت بجانبها حتى عودتي من المهمة.

قتل عنصر المفاجأة الجميل في هذا العصر الحديث !

في الطريق إلى عُمان نطير فوق صحاري كثيرة تمتد أمامنا كمياه محيط، كل واحدة من هذه الصحاري تسايرنا حتى تسلمنا لمن بعدها، تتجمل أكثرها بعروق الرمال، وفي أماكن كثيرة تصبح الرمال سيدة المكان تتزين أوديتها وواحاتها بأشجار الطلح والسدر التي تصارع من أجل البقاء، وتقتات على أغصانها الغضة الجمال، وإليها تلجأ الطيور. صحراء مترامية الأطراف تحب بعنف وتكره بعنف، كريمة إلى حد التبذير وبخيلة إلى حد التجويع، صفات تأصلت وانتقلت لساكنيها. تحت هذه الرمال تنام ثروات تكوّنت منذ ملايين السنين بحاجة إلى من يحميها ويحسن الاستفادة منها ليستمر خيرها آلاف السنين للأجيال القادمة من بعدنا، وليس لهذا الجيل وحده.

وصف جميل

هي الجودة تبدأ بحسن الاختيار ثم التدريب، ووجود القدوة والمتابعة وإعطاء الحقوق، وأهمها جميعًا اختيار القادة بكل عناية.

كان العميد فهد العبد الله على رأس هيئة العمليات الجوية السعودية رجل متمكن مخلص. يقضي الساعات الطوال في المتابعة والتوجيه، له شخصية قوية إلى حد الإخافة وأحيانًا، بعينين كبيرتين، تسري الدماء الملكية في عروقه. لا شيء كإنتاج الكبير إذا أخلص، يأمر فيطاع، يعمل ولا يخاف، ويتحمل المسؤولية بكل جدارة، ولكن يعظم الخطأ أيضًا بعظم منصب المسؤول، هي فرصة لا تكرر، ونهر التاريخ العظيم مستمر في الجريان، ولن يخلّد في ذاكراته إلّا من أخلص وثابر أعطى وبنى.

صنعت معجزتها عوامل من أهمها: اهتمام بالغ بالتعليم كمًّا ونوعًا، ومحاربة لا هوادة فيها للفساد وخاصة المالي بدءًا بالوزراء، «تنظيف الدرج يبدأ من الأعلى إلى الأسفل"، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، (أهم عوامل نجاح المؤسسات حسن اختيار قادتها)، التركيز على تنمية البلد اقتصاديًا، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، وعلاقات متميزة مع الأقوياء أصحاب القرار في هذا العالم، واهتمام بالغ بالبيئة. تمنيت لو أن قادة العالم الثالث الذين وصل معظمهم على ظهور الدبابات وبمباركة أصحاب المصالح، تعلموا بعضًا من دروس سنغافورة التي لا تملك عشر ما لديهم من مصادر طبيعية. أستغرب كيف يتاح للقادة فرصة قيادة الأمم وتخليد أسمائهم في سجلات العظماء، ومع ذلك يكتفون بتوريث من بعدهم المال والمنصب مع ما يتبعها من مشاحنات على الإرث الثقيل. الفساد داء استشرى حتى صار يستقبل السائح في المطارات وفي الشوارع، وعلى وجه الأطفال وعند أبواب المستشفيات. لو يعلم كل حاكم كيف سيحكم عليه التاريخ وإلى أين مآله لما ظلم ولما سرق. لله درك يا (سنغافورة) الجميلة ويا مهندس نهضتها رئيس وزرائها السابق (لي كوان يو Lee Kuan Yew) أعكيت درسًا عمليًّا كيف تبنى الدول، وعرّيت من تكاسل عن اللحاق بركب الناجحين.

هل كان هذا التغيير نتيجة لحركة جهيمان في الحرم؟ لا أعتقد ذلك، لأن تلك الحركة لم يمض عليها سوى ثلاثة أعوام، تلك الحركة كانت نتيجة ولم تكن سببًا، لكنها البرمجة الخاطئة في المدارس، ركّز قادة الصحوة منذ البداية على التعليم، ركزوا على العبادات المقيدة المعروفة والمظاهر، وحصروا العبادة فيه. لم يقولوا: إن العمل عبادة، والقوة في العقل والجسم والمال عبادة، لم يؤمنوا أن الفن الرفيع الذي ينشر الفضيلة ويحارب الرذيلة عبادة، لم يحاربوا أسوأ ما في المجتمع من أمية وجهل وفقر وفساد مالي وإداري ومخدرات، لم يقولوا إن القمع مهما كان مصدره هو الوسيلة المثلى لنشر الفساد وترويج الأفكار الفاسدة. وأن حرية الفكر واحترام العقل هما الطريق إلى دين معتدل متسامح لا يخشى الظلام، وأن عظمة الدين في تهذيب الأخلاق والحبّ والتسامح. ركزوا بدلًا من ذلك على المظاهر في الملبس والهيئة، والتوسع في سد الذرائع وتوظيف الولاء والبراء لأغراض حزبية وأيديولوجية. كان شباب الصحوة من خيرة الشباب، وكان من الممكن أن يقفزوا بالوطن إلى مصاف الدول المتقدمة لو اتجهوا للمستقبل بعلومه بدلًا من الركون إلى الماضي الذي لم يحسنوا الإفادة من جوانبه المضيئة، واكتفوا باجترار تناقضاته وهمومه، لو اتجهوا للبناء مرفقًا بالدعاء بدلًا من الدعاء فقط، لو ركزوا على ما في الدين من حب وتسامح وتعاون، ركزوا على الاختلاف بدلًا من الإتلاف فكان الاحتقان الطائفي الذي زاد مع الصحوة وقيام الثورة الإيرانية التي لها طموحاتها في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، ولم تتعلم من أخطاء من سبقوها. في القرآن الكريم وسيرة الرسول ﷺ ما يعزز قيم الحب والتسامح، لكن قادة الصحوة لهم برامجهم الخاصة بهم، وأسوأ ما ابتليت به الأمة أنصاف المتعلمين الذين ظنوا أنهم يملكون الحقيقة كامل...

كلام جميل عن زمن الصحوة والتغيير الذي حصل

علماء التربية يقولون إن الطفل الناجح في دراسته بمختلف مراحلها وخاصة الجامعية، هو القارئ وليس الذمي كما يردد دائمًا، ويضيفون إن الطفل يتعلم حب القراءة بين السنة الأولى والثانية من عمره، يبدأ بمشاهدة الصور وربط بعضها ببعض، ثم قراءة قصص الأطفال عليه قبل النوم، وإعطائه قصصًا ومجلات خاصة بالأطفال، بعدها يبدأ بتحديد ميوله في القراءة ويصبح قارئًا جادًا مميزًا ناقدًا لما يقرأ، وفي المراحل الأخيرة قد يصبح كاتبًا.

نتحدث كثيرًا عن برّ الوالدين، وعظيم الأجر لمن يحسن إليهما، ولا نتحدث عن تربية الأبناء بما فيه الكفاية، مع أنها أخطر وأهم. فالكبير بحاجة إلى الاحترام والرعاية بأنواعها، أما الصغير فبحاجة إلى ما سبق وأكثر، هم أهم استثمار لمستقبل الأمة.

ألم يقل المثل: (يومان لا تحمل همهما، يوم مضى لا يمكن استرجاعه ويوم قادم في علم الغيب ولا يعلم ما به). وآخر قال: (كم حملت هموم وألم أمور لم تقع). هموم ومسؤوليات أسرية وشخصية كثيرة لن نحلها بإيذاء أنفسنا.

في البحر يمارس الأجانب رياضة الغوص ويستمتعون بها أيما استمتاع، خصوصا أن البحر الأحمر واحد من أجمل مناطق العالم لهذه الرياضة، ما المانع من تعلمها؟ ألم تقل أم زميله: (من له عيون وراس فليعمل ما يعمل الناس). لم تقل عيون فقط بل ربطته بالرأس مصدر الفكر والتحليل. لم لا نتعلم في بيوتنا ومدارسنا حب الصحراء والبحر وعشق المغامرات المدروسة؟ لم لا نستمتع مثل غيرنا بمرأى النجوم في الليل ونحتفل بالليالي المقمرة؟ وشروق الشمس ومنظر الغروب؟ لم لا نتعلم حبّ الطبيعة وما تزخر به من جمال ونعلمه لأبنائنا، ونحثهم على احترام البيئة وعدم العبث بها وتركها دائمًا نظيفة، وترك ما بها من طير وحيوان يعيش ويتكاثر آمنًا نراه ونسمعه كلّما خرجنا إلى نزهة؟ بدلًا من الاحتفال بمطاردته وقتله. أخفقت البيوت والمدارس والمساجد والإعلام في إيصال هذه الرسائل المهمّة.

تذكرت هذا الطالب ووالده وقارنتهما بما يواجهه أبناؤنا من إهمال واتكالية وخواء فكري وفراغ روحي وعاطفي، خاصة أولاد غير المتعلمين الذين يظنون أن مهمة الوالد والوالدة إنجابهم وتأمين المسكن والغذاء فقط. الإجازة الصيفية ليست للكسل وكثرة النوم والتسكع بين المحطات الفضائية التي أكثر نتاجها غثاء، وخلف الجدران بصحبة الفراغ. لكنها يمكن أن تكون بحثًا ميدانيًّا عن مكان يقضي فيه الطلبة الإجازة بصرف النظر عن قربه أو بعده، غرابته أو إلفته. المهم أن يمسك بورقة وقلم وكتاب وآلة تصوير، ثم يشحذ فكره وقدراته في الحاسب الآلي لإخراجه بشكل مقبول، أهم عناصر نجاح البحث العلمي عشق المادة، والمثابرة، والعمل لساعات طويلة، وتوفر الامكانات، والعمل بروح الفريق.

قد يكون هذا البحث عن فنّ تعلمه أثناء الأجازة أو مزرعة تصالح فيها مع الطبيعة أو جبل قضى فيه سويعات مع الخلوة وطيور السكينة. قد تكون عن كتاب قرأه، أو حرفة أتقنها. لم يصل الغرب إلى ما وصل إليه بالتمني ولا بالأماني، ولكن بالعمل الدؤوب، والاهتمام بالتربية المتوازنة التي تعطي كل جانب ما يستحقه من اهتمام، والتركيز على الكيف قبل الكم، وأن يكون للَّعب نصيب من أوقات ومناهج مدارسنا. فالطالب يتعلم معظم المهارات عن طريق اللعب وخاصة في أعوامه الأولى.

تقول الإدارة الحديثة: إذا أردت أن تعمل مختلف الأقسام كفريق، فحطم الجدران التي تفصل بعضهم عن بعض، ليعرف كلّ مسؤول ما يحتاجه الآخر وما يمكن أن يقدمه للمجموعة.

الوقت موجود لكن ما هي أولوياتك؟ هل اشتكيت يومًا من عدم وجود وقت للأكل أو الصلاة أو النوم؟ الوقت موجود لكن لن تجده لأي نشاط إلّا إذا وضعته ضمن أولوياتك وحجزت له الوقت المناسب. الرياضة بالنسبة إليَّ علاج ومتعة وتجديد نشاط. لقد قال ستيفن كوفي في كتابه الممتاز (العادات السبع) تحت عنوان العادة السابعة (اشحذ المنشار) أي جدد النشاط، ثم أورد قصة ذلك المسكين الذي ظل لساعات يحاول قطع شجرة والعرق يتصبّب منه دون تقدم يذكر، فمر عليه شخص وقال له: اشحذ المنشار يعمل بشكل أفضل. لكنه ردّ: إنّني مستعجل وليس لدي وقت. لو أخذ هذا المسكين راحة، يجدد خلالها نشاطه ويشحذ منشاره لأنهى المهمة بسرعة. حددت مع أحد الزملاء ما بين صلاة المغرب والعشاء موعدًا للرياضة نسير حينًا ونهرول أحيانًا أخرى، حددنا مسافة ستة كيلو مترات في كلّ مرة، خمس مرات في الأسبوع. ننتظر هذا الوقت بفارغ الصبر، ونتحدث أثناءها كثيرًا عن الحياة والدراسة والعمل.

يصرف للمبتعث ما يعادل 75 في المئة من الراتب زيادة على راتبه الأساسي مما أوجد وفرة مالية لا أدري كيف أستثمرها. تذكرت تلك القاعدة الذهبية التي تقول: لا تضع بيضك في سلة واحدة، الأسهم في بداية صعودها، لذا قررت أن أشتري بنصف المبلغ أسهمًا في شركة كبيرة ما لبث أن تضاعف سعر السهم عشر مرات، والنصف الثاني اشتريت به مع قريب لي أغنامًا، فالمزرعة لا تصلح بلا أغنام. كان سعر كيس الشعير خمسة ريالات فقط. سياسة القطيع، الناس تتبع من في المقدمة، كل الفلاحين والبدو ركزوا على تربية الأغنام والجمال مما يعني ارتفاع أسعارها. بعد الصفقة مباشرة ارتفع كيس الشعير إلى عشرين ريالًا، فملّ الناس مما عندهم ورخصت قيمتها. تمنيت لو اشتريت شعيرًا بدل الغنم. كل قرار لا يدرس بعناية يكون له ضحايا ومنتفعون.

لم أعر المقعد ولا كلام الناس أدنى اهتمام، ما دمت واثقة من نفسي وممّا أعمل. أهم ما عندي رضا الله لا رضا الناس، أكثر الناس كلامًا أقلهم نفعًا وإنتاجًا. تذكّر عمتنا العظيمة سارة ودروسها العملية.

لا ألومه بل ألوم نفسي على الثقة المفرطة، المال بحاجة إلى ضوابط ومراقبة وإلا ضاع. مصيبتنا الثقة الزائدة بالناس، وخاصة من يتخذ من الدين غطاء لتصرّفاته. وبعضهم يتخذ من الدين مطيّة ليفوز بمسكينة يخدع أهلها بمظهره وتقاه المزيّف، ثم لا يلبث أن يعود أسوأ مما كان بعد الزواج.

مستعدة ألا أهب معه إن كنت مستعدًا لإيصالي إلى بنتي ولمراجعات المستشفى كلما احتجت. المرأة ليست سلعة بلعب لها الآخرون إلّا إذا رغبت هي، وغاب الخوف من الله، عندها لن تستطيع أي قوة في العالم منعها مما تريد. المرأة يا أخي نتاج ثقافة المجتمع وعادته. ألا ترى أنها تختلف من بيت لبيت، ومن بلد لآخر، ومن عصر لعصر؟ دعني أعمل وأنتج وأساعد الآخرين وأصارع الحياة. لن أكون عالة عليك ولا على ولدي، إلّا إذا فقدت القدرة على العطاء. ما الفرق بين جيل اليوم وجيل عمتي العظيمة؟ بنت اليوم يخيفها كل شيء، لو عبرت أمامها سحلية أو قط أليف لصرخت، ولو رمى عليها رجل كلمة لماتت من الخوف. نحن السبب في زرع الخوف داخلها. الرجل هو الرجل والمرأة هي المرأة في كل زمان ومكان. نحن بخير يا أخي، أتذكر ذلك البيت الطيني العتيق؟ كيف استبدلنا به بيتًا كبيرًا وحديقة غناء؟ أتذكر يوم كنت أجلب الماء فوق رأسي في الصيف والشتاء؟ وكيف صار يصلنا بأنابيب إلى داخل البيوت؟ أتذكر تلك العتمة في الليل وتلك الذبالة نطفئها قبل أن ننام؟ وكيف بددتها الكهرباء؟ أستغرب يا أخي من سرّ هذه الكهرباء، تدخل البيت أسلاكًا مغلّفة فتتحوّل نارًا في الفرن وصقيعًا داخل الثلاجة، هواءً باردًا في الصيف وساخنًا في الشتاء، ليتني أعرف سرّها. انظر يا أخي إلى الجوانب المضيئة من الحياة. للظلام فوائده أيضًا، دعك من المتشائمين فهم أتعس الناس وأقلهم إنتاجًا. يسعون جاهدين لإتعاس الآخرين. أوافقك يا أخي لسنا مجتمعًا مثاليًا لكن لو قام كل مواطن بما عليه من واجبات لتحسّنت أحوالنا، مصائبنا منّا وفينا، وكما نكون يولّى علينا. ولو أصلح كلّ منّا نفسه ومن عنده، لصلح المجتمع، لو أطلق كلّ منّا صرخة في وجوه الظالمين، والفاسدين، لأخفناهم ولا اختفى الظلم والفساد. الظالم والسارق يمشي...

سأترك تبوك بهوائها العليل وأهلها الطيبين القانعين، بصحرائها الجميلة ورمالها النظيفة وشواطئها الرملية الحانية وتلك الشعب المرجانية التي تضاهي أجمل ما في بحار العالم، إلى الرياض حيث الزحام والتلوث والضجيج تقذفه المصانع والعربات.

رفض المريض كلّ ما قاله له هذا الطبيب، وبعد أن ودعنا الطبيب وعدنا لعمي المريض ابتسم تلك الابتسامة التي تعبر عن التعجب وعدم الرضا وقال: لو كان هذا الطبيب يفهم شيئًا لاهتم بنفسه. ألا ترى وزنه الزائد ولهاثه بعد صعود دور واحد من الدرج، ورائحة الدخان تتصاعد من فمه؟ هذه الأمور الثلاثة السمنة والكسل والتدخين، أفضل بيئة مناسبة لأمراض السكّر والضغط والقلب والشرايين، دعه يعالج نفسه أولًا، من فعل غير ما يقول فقد مصداقيته بصرف النظر عن تأهيله.

الزمن لا يحل المشكلات بل يزيدها صعوبة وتعقيدًا، الإهمال يزيحها مؤقتًا عن طريقك لكنه يحفظها لك في المحطة الثانية،

أخذتها في نهاية الأسبوع إلى بيتها بعد شهرين من الغياب، كل ما في البيت تغيّر، الغنم تتراكض نحوها، تقبّل كل واحدة على حدة، ما بال غنمي ضعيفة؟ وهذه جفّ ضرعها، صحيح من قال (عيونك لحلالك دواء) غبت عن مالي فغابت عنه البركة، رغم ثقتي بمن أوكلت، لا شيء كمالك الشيء له حافظًا.

ما هذه العنتريات يا صدّام؟ وما هذا الغباء في تشجيعه والدفاع عنه يا مثقفي العالم العربي من الخليج إلى المحيط؟ المثقف هو عقل الأمّة ولسانها، فكيف يطاوعه ضميره أن يخدع الشعوب ويبرئ الظالمين؟ هل لأن الدكتاتور كان يعزف على الوتر الحساس دامًا: تحرير الأرض ومحاربة العدو وهو أكثر من يقدم الدعم والحجج لتدمير مقدرات الأمّة؟ لم يخدم الأعداء وينفذ خططهم مثل النظام الدكتاتوري الدموي، ومن يحكم الشعوب المغلوبة على أمرها بالحديد والنار. أكثر هؤلاء وصلوا الحكم على ظهور الدبابات، لكنه التحزّب الأعمى والأدلجة المقيتة من قبل المثقفين، سواء أكانت قومية أم دينية، لها مراجعها وبرامجها التي لا تحيد عنها، ومن أقل أولوياتها إيضاح الحقيقة بكلِّ تجردّ ونزاهة، ما فائدة المثقف إذا سار إلى الهاوية مع القطيع؟ أن تكرهه الغالبية وهو على حق خير له من أن يحبوه وهو على باطل.

ألا توجد دراسات اجتماعية ونفسية ودينية عن سبب هذا التأزم في بلد تنوء مناهجها الدراسية بمواد الدين، وتعج أنشطتها الطلابية بالوعظ، وترتدي نساؤه الحشمة؟ هل للمبالغة في الفصل بين الجنسين دخل في ذلك؟ أو هي التربية؟ أو التعليم؟ أو هي مجتمعة؟ هل هو الكبت يولد براكين تنفجر عندما تكبر وتضعف المقاومة؟ هل لقلة أماكن الترفيه دخل في ذلك؟ مشكلة فراغ الشباب مشكلة عالمية، لا يمكن أن نطلب من شاب في العشرين أن يقضي جلّ وقته عابدًا أو دارسًا أو عاملًا، لا يستثنى منه سوى الأكل والنوم، لدى الشباب في هذه السن طاقات هائلة لابد من تصريفها بالوسائل المباحة والمتاحة، وإلا صرّفها بمشورة أصدقائه وما تمليه عليه رغباته. لا يمكن دراسة أي مشكلة اجتماعية وإيجاد حلٍّ لها إلا بشفافية وفكر مستقل، وحقائق تؤيدها الأرقام، وبمشاركة أكثر من مختص، وخارج أسوار البيت الذي ولدت فيه المشكلة.

ليست الحياة كلها جدًا ولا كلها هزلاً، لكن ساعة وساعة. خُلِق الإنسان بعواطف ورغبات وبحب وكره، بأشواق وأمانٍ. يسمع اللحن الجميل فيطرب له، ويسمع النشاز فيؤذيه.

من يرى الولايات المتحدة من الداخل، مصانعها وقواعدها المنتشرة وما تساهم به من تنمية، ويرى الجامعات والمعاهد العالية، وما تساهم به من دفع للاقتصاد، وما يحمله المواطن الأمريكي من طيبة وحب لبلاده وللآخرين، يستغرب كيف يجتمع ذلك مع سياسة خارجية تقوم على القوة الغاشمة والمصالح السياسية والاقتصادية البعيدة عن العدالة والرحمة والحرية للشعوب المستضعفة. تستطيع الولايات المتحدة بما حباها الله من قوة ورجال مخلصين بنوها على أسس ثابتة من الحرية والاحترام للإنسان، أن تنشر نفس المبادئ خارجها، لو تخلصت من تلك العقيدة التي ترى الحل بالقوة دائمًا، ولو تحررت من ذلك الإعلام المسيّر الذي يغض الطرف عن مآسي الشعوب في سبيل تحالفات ظالمة، بين أصحاب الأموال وبين صُناع السلاح وأباطرة السياسة. الحضارة كقطار له في كل يوم محطة، سافر عب آلاف السنين من محطة إلى أخرى، حاملاً معه في كل محطة نتاج المحطات السابقة، وحضارتنا الحديثة حطت في أوروبا الغربية حين حررت العقل من قيوده، واستفادت ممن سبقها من الحضارات، ومنها الحضارة العربية وما ترجمته وجوّدته من التراث اليوناني، لتمتد منها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وها هي تعبر المحيط ثانية للشرق البعيد، لتحط في اليابان التي آمنت بالعلم والجودة والإتقان طريقًا للتنافس، بعيدًا عن التسلح ومآسي الحروب. تجاوز قطار الحضارة هذه المنطقة دون توقف، لأنه يريد مناخًا أكثر ملاءمة، مناخًا تتفتح فيه العقول، ويستنشق فيه الناس أنفاس الحرية، ويحاربون الفساد كام يحاربون الأمراض المعدية، ويكون للإنسان قيمة، بصرف النظر عن جنسه أو عرقه أو معتقده.

للقيادة سحرها الذي لا يقاوم، خاصة قيادة القاعدة. القاعدة مملكة القائد الصغيرة، يأمر فيطاع، لديه إمكانات كثيرة، ومسؤوليات كبيرة ويتم اختياره بكل عناية. أهم ما لديه العنصر البشري، والطائرات التي لها تنفذ المهمة. هناك قانون تعلمته من دورة (مدرسة الأسراب) قبل حوالي عشرين عامًا. التعليم الجيد يبقى طويلاً، ويحفر له مكانه في تجاويف الذاكرة. يقول ذلك القانون: تعلم قوانين اللعبة قبل بدء اللعب. لن يسمح لك الحكم أن تصول وتجول وتسجل أهدافًا إذا لم تطبق القوانين، وتعرف ما هي الصلاحيات، وما هي الإمكانات، وما هي أفضل الطرق الموصلة لتحقيق المهمة، ما هي أهم المشاكل القائمة، وكيف حلها. كان هناك قائدٌ للقاعدة قبلي، أمضى ثلاث سنوات. عليّ الاستفادة من تجاربه وخبراته، وهناك رؤساء أقسام، لا بد من كسب ثقتهم، وإشعارهم أنني جئت لمساعدتهم.