عشت سعيداً من الدراجة إلى الطائرة

by عبد الله بن عبد الكريم السعدون

هناك تَدَنٍّ في صلاحية الطائرات. سألت عن السبب قيل لي: نقص قطع الغيار. تذكرت ما حصل في تجربة سابقة عندما كنت قائد سرب، أليس الإنسان يبحث عن سبب لإخفاقه بعيدًا عن إدانته أو تقصيره؟ يحاول أن يغزو كل إخفاق لعوامل خارجة عن إرادته. الأب المقص في تربية أبنائه، يضع اللوم على المدرسة أو الأصدقاء أو الإعلام أو غيرهما من الأسباب الخارجة عن إرادته. المهم ألا يلوم نفسه أو يكلف نفسه عناء البحث عن الأسباب، عليه أن يزيل المسؤولية عن كاهله. الهزيمة في المعركة ليست بسبب نقص الاستعداد والتدريب، أو سوء القيادة، أو تدني الروح المعنوية، أو الفساد، لكن بسبب تدخل دولة كبرى وهكذا. النقد الذاتي فن لا تتقنه شعوب العالم النامي. إذا أراد القائد أن ينجز مهمة فعلية أن يجعلها مهمته هو لا مهمة المساعد أو القادة من بعده، آنذاك سيرى كيف تكون لها الأهمية، وكيف يكون التحسن يومًا بعد يوم.

خلال ستة أشهر اختفت مشاكل الصيانة، أطلعني قائد الجناح على رسم بياني لصلاحية الطائرات المرتفعة التي ظلت كذلك حتى غادرت القاعدة، لم تكن المشكلة قطع غيار ولا تقصيرًا من القيادة العليا، كان السبب الرئيسي ضعف إنتاج وسوء متابعة وقبول أعذار غير صحيحة، لإقناع المسؤول أنها خارجة عن إمكانات القاعدة.ألسنا نقول دائمًا: إن كل مشاكلنا وإخفاقاتنا لأسباب خارجية؟ القائد السابق للقاعدة نظم أولوية السكن للضباط والفنيين بحيث لا يقدم شخص على آخر والأولوية للمتقدم الأول. قال ذلك القائد حكمة بقيت أتذكرها وأقولها كلما حاول شخص خرق النظام: النظام كالبالون، جميل متماسك يؤدي المهمة حتى يثقب، بعدها يتسع الثقب وينتهي إلى بقايا يداس عليها، وهكذا النظام. طبقت هذا القانون في كل مراحل عملي اللاحق، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فوفرت على نفسي عناء الإحراجات والتعدّي على حقوق الآخرين.

يقول الأستاذ محمد أسد في كتابه (الطريق إلى الإسلام):«إن الغاية من شهر الصيام كما علمت، غاية مزدوجة. إن على الفرد أولاً أن يمتنع عن تناول الطعام والشراب حتى يشعر في جسمه هو بما يشعر به الفقراء والجائعون، وبهذا تثبت المسؤولية الاجتماعية في الوعي البشري كفرض ديني. وأما الغاية الثانية من الصيام في رمضان فهي ضبط النفس –وهي ناحية من نواحي أخلاق الفرد التي تشدد عليها التعاليم الإسلامية جميعًا. وفي هذين العنصرين –الأخوة الإنسانية وضبط الذات- بدأت أميز الخطوط الكبرى في استشراف الإسلام الأخلاقي» (ص 191).

خرجت من غرفتي كالعادة لأتوجه للعمل، رأيت والدتي ذات السبعين عامًا، وابنتي مشاعل الأقل من عام واحد، كلتاهما تحبو. الصغيرة كانت تبكي باحثةً عن أمها. لم يلبث أن تحول البكاء إلى ابتسامة طفولية ساحرة. الوالدة تحبو ذاهبة إلى الحمام، الخادمة أعياها السهر ونامت، لم تشأ الوالدة إيقاظها، تتمتم بعبارات طالما رددتها: (أصبحنا وأصبح الملك لله، الحمد لله على هذه النعم الكثيرة، يا الله من حيلي إلى قبيري، اللهم لا تجعلني عالة على أحد). الصغيرة تفتح الباب بيدها الناعمة لتخرج للحياة، والكبيرة تغلقه بيد متيبسة، ملّت الحياة، لا تريد أن يراها أحد خشية أن يهب لنجدتها. الصغيرة ببشرة نقية ملساء صافية، والكبيرة ببشرة تقاسمتها التجاعيد والخشونة وتحكم فيها اليأس. الصغيرة بعينين جميلتين ضاحكتين، الكبيرة بعينين غائرتين لم يبق منهما سوى أحافير من الجلد والعظام. الصغيرة تنضح بالصحة والحياة، والكبيرة هدها المرض وملّت الحياة. الصغيرة تضحك لأبسط الأشياء، والكبيرة تجد صعوبة في الابتسام. الصغيرة تحاول الوصول لكل ما حولها، والكبيرة تتجنب كل ما حولها. وقفت بينهما على نفس المسافة، أنظر إلى هذه وتلك، واحدة تحاول الصعود، وأخرى تساق لمنحدر حزين. لست هذه ولا تلك، بل حاصل مجموعهما معًا مقسوم على اثنين. أنا نصف عمرهما معًا، ونصف حياتهما معًا، ونصف سعادتهما معًا، وقفت على نفس المسافة أراهما معًا. واحدة تصعد في مرح، وأخرى واهية تنزل إلى منحدر. فكرت في الحياة ما أقصرها وما أطولها! ما أجملها وما أقبحها! ما أسعدها وما أشقاها! ابدأ والنهاية ماثلة أمامك. من العادات السبع للكاتب ستيفن كوفي. نحن الذين نصنع السعادة والشقاء، الصحة والمرض، النجاح والفشل، الفقر والغنى. أجمل ما رأيت تلك القناعة والرضا البادية على محيا والدتي، لم أس...

واجبنا تجاه تعليم أبنائنا من أعظم المهمات الملقاة على كل أب وأم. ومما أعلّمهم السباحة وصعود الجبال وحب الطبيعة واحترام البيئة، وقد أخذت معهم دورة في الغوص استمرت ثلاثة أسابيع. ومنذ الصغر أشجعهم على إصدار المجلات لزملائهم الصغار وأشجعهم على مراسلة مجلات الصغار والمشاركة في الرسم، يسمعون منِّي كلمة (لو سمحت) عندما اطلب منهم شيئًا، وكلمة (شكرًا) بعد أدائه، لا يأتي النجاح حظًا ومصادفة، فكل طفل ناجح وراءه أم أو أب مهتم أو كلاهما. أحبب إليهم العمل وأهمية الاقتصاد وفضل الادخار دون تقتير أو بخل. أذكرهم بمثل يقول: «الفقر في الوطن غربة والمال في الغربة وطن». الفقر لا يحاربه سوى العلم والعمل وتعويد الأبناء على الاعتماد على النفس منذ الصغر. يروي أحد قادة القوات الجوية حين كان في دورة كلية الحرب في الولايات المتحدة قصة طريفة تدل على الجد والثقة بالنفس، يقول: يمتهن بعض الشباب والشابات تنظيف السيارات في مواقف الكلية، وفي كل مرة يتقدم إلي شاب لا يتجاوز سنه الرابعة عشرة ويطلب تنظيف سيارتي بدولار واحد. وفي إحدى الليالي دعاني قائد الكلية وهو برتبة فريق إلى بيته مع عدد من طلبة الدول الأجنبية، في بيته رأيت ذلك الشاب الذي ينظف السيارة، ظننته جاء للمساعدة في هذه المناسبة ولم أشأ إحراجه في السلام عليه، تقدم إليّ الشاب وسلّم علي بكل حرارة وقال لي: ألم تعرفني؟ أنا الذي أنظف سيارتك في كل صباح. قدمني لوالده قائد الكلية وبكل فخر قال: هذا هو الذي أنظف سيارته كل يوم. ابتسم والده ومسح على رأسه وشكره. في صاح اليوم التالي تقدم ذلك الشاب وشرع في تنظيف السيارة، دفعت له خمسة دولارات بدلاً من دولارًا واحدًا، رفض إلاَّ بشرط: أن تكون للخمسة أيام القادمة.

تذكيرًا بأهم ما يتوجب على الزوج. أقول في بعض فقراته: «أهنئك على أعظم خطوة تتخذها في هذه الحياة، وأعظم استثمار للحاضر والمستقبل، سترتبط بمن ستكون أقرب الناس إليك، وأنت أقرب الناس إليها، ستكون مستودع أسرارك وأنت مستودع أسرارها، تذكر أنها ستكون نصفك الثاني وحجر الأساس لبناء أسرة سعيدة. تركَت بيتًا دافئًا، بحثًا عن بيت أدفأ، وحضنًا رحيمًا وحانيًا، لحضن أحن وأرحم. عليك ببلسم الحب والاحترام، فبهما تذيب كثيرًا من الاختلافات، ولا تسمع لمن ينصحك بغير ذلك، بعض الجهلة يرى العلاقة من جانب واحد، يأمر فيطاع، ويطلب فيلبي طلبه حالاً، يرى مذلتها رجولة، وخضوعها انتصارًا، العلاقة الدائمة هي التي تبنى على ربح الطرفين وليس على ربح طرف وخسارة آخر. المرأة طاقات هائلة من الحب والعطاء، فلا تكن عامل تثبيط أو هدم لتلك الطاقات، كلاكما بحاجة للحب والبذل في الحاضر وفي قادم الأيام، بمثل ما أنت مقدم عليه اليوم، تعمر الأرض وتضع لبنة في بناء الوطن العظيم. كن قدوة لها في الحب وتقدير الفوارق وقبولها، أُرفق لك كتابًا يوضح هذه الفوارق حتى لا تسيء تفسيرها والتعامل معها (الرجال من المرّيخ، والنساء من الزهرة). هذا الاختلاف هو سر وجود الرجل والمرأة. إياك وسوء معاملتها، لأنك دون أن تدري تسيء لنفسك وأطفالك. شجّعها على السير في حقول العلم والعمل، وأعطها الثقة بنفسها، واطلب منها أن ترفع رأسها عاليًا نحو السماء، ألا ترى أننا لا نطلب من النخلة أن تنحني لنجني الثمر؟ ولو حاولنا حنيها لكسرناها وصارت من غير فائدة. إياك والبخل فهو عدو الرجال، وإياك والشكّ فهو نار يصطلي بلهيبها الطرفان. حاول أن تكثر من المناسبات السعيدة فهي تعني لها الكثير ولن تنساها أبدًا. خذها دائمًا باللين واللطف وسترد لك ذلك أضعافًا مضاعفة. إياك والمماطلة...

جاء في الرسالة: «لن تعيش سوى حياة واحدة فإياك أن تضيّعها بالتجارب الفاشلة، النماذج الناجحة موجودة أمامك وفي طيات الكتب فاستعن بالله واختر أفضلها، الوقت أعظم رصيد لا يمكن الاحتفاظ به. لن يحميك من الزلل سوى دين يذّكرك بالاستقامة كلما ضعفت المقاومة، عليك بالاعتدال، فلا هو غلوّ يشل تفكيرك ويقفل عليك أبواب الحياة، ولا هو تفريط يقودك للانغماس في المعاصي والشهوات، تذكّر أنك في عبادة طالماأنك تسعى جاهدًا لكسب القوة في كل مناحي الحياة، العلم قوة، والرياضة قوة، والفن الراقي قوة، وعدم الإسراف في المأكل والمشرب قوة. عليك بأفضل هواية، وأنجح تجارة: القراءة، فلم يتقدم الجنس البشري إلا بها. ولن تجد أفضل منها لشغل الفراغ بما هو مفيد. عليك بقراءة سير الناجحين والعظماء، واتخذ في الغربة من المكتبات شبه سكن، ومن الميادين والحدائق مكانًا للرياضة وتصالح مع الطبيعة. إياك أن تعود وقد أخذت منهم أسوأ ما فيهم، التدخين والمسكرات والمخدرات. التدخين بوابة تلج منها لغيرها من المحرمات، التدخين يأخذ من رصيدك الصحي حتى ينفد دون أن تدري، تبحث عن رصيدك بعد سن الخمسين فلا تجده، بينما الرياضة تضيف إلى هذا الرصيد أعوامًا وأعوامًا بإذن الله، إن اجتنبت التدخين فلن تتوق لغيره، وإن دخّنت فمن الممكن أن يقودك للأسوأ. إسبح قريبًا من الشاطئ، وحذار من السباحة في الماء العميق، قد تكون وجبة شهية لواحدة من أسماك القرش، تجنب الشذوذ وبائعات الهوى، فهؤلاء يبيعون المرض والوهم والشقاء. استمتع بكل فن رفيع واستفت قلبك في ما تعمل وتقول. حاول أن تعود لوطنك بأفضل ما عندهم، وما كان سببًا في تقدمهم: عقول متفتحة توّاقة إلى المعرفة وحب للعمل وسعي لإتقانه وصدق وانضباط، وتقدير للفن والجمال. لن يقدموا لك وجبات جاهزة من المعلومات، لكن عليك أ...

ومما جاء في المقال: «دخل علي زميل قديم، فرّقت بيني وبينه الأيام، لم أره منذ عشرين عامًا، كان يشكو من ضيق في التنفس بسبب التدخين، وكان وزنه زائدًا من كثرة الأكل وعدم ممارسة الرياضة، يشكو من آلام في الركبة من زيادة الحمل عليها، ماتت لديه الرغبة في أمور كثيرة بسبب ارتفاع الضغط والسكر، وقفت إلى جانبه فإذا بي كواحد من أبنائه، رغم أنه كان أكبر مني بعامين فقط. قال لي: أتذكر أيام المرحلة الثانوية؟ هناك تعلمت التدخين، كنت أمد يدي بلا مبالاة إلى سجائر زميلي في أوقات المذاكرة، كنت أظنه يساعد على الفهم ويسرع بي إلى مصاف الرجال، صرت أسهر في نهاية الأسبوع حتى الصباح وأعود إلى البيت منهكًا، سافرت خارج المملكة في بعثة امتدت سنوات، كنت أشرب بشاهة حتى أفقد السيطرة، كنت أظن الشراب سرّ سعادتهم ومُشعِل حضارتهم. قدّم لي أصدقاء السوء حشيشًا فجربته قالوا لي إنه سر الإلهام والتألق، فإذا به يقودني لدهاليز الخوف والوهم، ولم ينقذني منه سوى السجن لعدة أيام. ظننت الرياضة ترفًا لا يمارسها إلا المرضى والرياضيون المحترفون. أبحث عن أي عذر لعدم ممارستها، هجرت القراءة، كنت أعدها مضيعة للوقت وترفًا لا يمارسه إلا مختص. حتى أبنائي للأسف تأثروا بي كثيرًا، جنيت على نفسي وعليهم، كم مرّة تمنيت لو عدت طالبًا. كنت أفكر في يومي فقط، هل تصدّق أنه إلى الآن لا أملك منزلاً، لم يكن التوفير والادخار ضمن قاموس كلماتي، كنت أضحك على من يوفر وأعده بخيلاً، واعد التبذير كرمًا. أخطاء كثيرة ادفع فاتورتها من صحتي ومالي، وتدفعها زوجتي وأبنائي. حيّدت العقل وركبت الهوى».

الحلم واللين والأناة مطلوبة مع نزوات الشباب، ويبقى أثرها الإيجابي أبلغ وأكثر تأثيرًا من العنف ومنطق القوة. تقول أسطورة: اختلفت الشمس والريح أيهما الأقوى، قالت الريح: إنها الأقوى وأشارت إلى رجل يسير في الغابة، سأجعله يخلع معطفه أسرع مما تستطيعين، تواترت الشمس خلف السحاب، وهبّت الريح بقوة، وكلما زادت قوتها زاد الرجل تمسكًا بمعطفه، هدأت الريح واستسلمت. ظهرت الشمس من خلف السحاب وأرسلت أشعتها الحانية بكل حب إليه، وسرت في جسمه دفئًا ترجمته إلى عرق على جبينه، خلع معطفه وراح يستقبل الأشعة بكل شوق. التفتت الشمس إلى الريح وقالت: اللطف والحب والحنان أقوى من الشدة والكره والبغضاء.

وليس المؤول مجبرًا على حل جميع تلك الأسباب، بل وحسل قانون (بريتو) المسمى (20/ 80) يعني ان حل 20 في المئة من أهم الأسباب يحل 80 في المئة من المشاكل. وهذا القانون ينطبق على أمور كثيرة في الحياة.

دخلت على رؤساء الأقسام في الاجتماع الأسبوعي، وكتبت على اللوح: (سبات) هل يخبرني أحد منكم ماذا تعني؟ ثم أخبرتهم بقصة ذلك المناوب الذي أحرجني أمام قائد القوات. قلت لهم: احفظوا (سبات) وعلّموها لمن تحت قيادتكم: - السين تعني: سجّل ولا تعتمد على الذاكرة فقط، وليكن التسجيل أثناء تلقي المحادثة. - الباء تعني: أكد وإذا احتجت أعد قراءة الرسالة واطلب ممن بلّغته بإعادة ما قلت له. -ألا تتذكرون كيف كان كبار السن يوصون أبناءهم ويعيدون لهم ما قالوا ثم يطلبون من الأبناء إعادة ما يوصون أبناءهم ويعيدون لهم ما قالوا ثم يطلبون من الأبناء إعادة ما قالوه لهم. التجارب علّمتهم مشاكل الاتصال وسوء الفهم. - التاء تعني: تأكد من تنفيذ المطلوب، وتاع للتأكد من إنجازه كما هو مخطط له. صارت (سبات) لا تعني النوم العميق كالذي كان يغط به مناوبنا في ذلك اليوم. بل كلمة تعني الحذر من مشاكل الاتصالات، يرددها رؤساء الأقسام كلما كانت الاتصالات سببًا في عدم إكمال مهمة. ومهما قيل عن أهمية الاتصالات فلن تصل الرسالة بسهولة لقليلي الخبرة إلا بتجارب وتمارين عملية.

ميزة القائد الناجح اتخاذ القرارات الصعبة وتحمل نتائجها، وإلا صار مديرًا يسير ما كان موجودًا ومكتوبًا، ويحرص على توقيع الحضور والانصراف فقط. ترتعد فرائصه خوف أن يزاح عن المنصب معتقدًا أن منصبه هو نهاية المطاف أو أنه محجوز له بقية حياته. ملايين النجوم في السماء تظهر وتختفي لا يعرف منها إلا القيل، المشع بنوره فقط يلاحظ ويستدل يه الآخرون. ربما تعدى تأثير قائد لم يبق في منصبه سوى عامين قائدًا آخر بقي في منصبه عشرات السنين. ميزة الدول المتقدمة نظامها الدقيق في اختيار القادة ومتابعتهم وإعطاؤهم التدريب والصلاحيات والإمكانات والفرص المناسبة.

الرجل الثاني بعدي منقول من القيادة وسيحال إلى التقاعد قريبًا، جرّبته في أكثر من موقف فوجدته عند حسن ظنّي، قوي وأمين، صفتان من أهم صفات القائد، ألم يقل تعالى في كتابه: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]. لديه وجهة نظر مختلفة ويعطي رأيه بكلّ شجاعة، أليس هذا هو المطلوب في المساعد؟ من كان يريد مساعدًا يهزّ رأسه بالإيجاب دائمًا، فما عليه سوى وضع جهاز تسجيل مكانه، وسيضمن إعادة كلّ ما قاله. كان هذا المساعد حاضر النكتة كثير الابتسام لكنه يتحوّل إلى وجه صارم ورأي واضح عندما يتطلّب الأمر ذلك، ليست لديه خلفية عملياتية في بعض جوانب العمل، لكن ما ينقصه موجود لديّ، سيكمل أحدنا الآخر.

استمر هذا الضابط مساعدًا حتى نقلت من القاعدة، أكلّفه بالمهمات الصعبة فينجزها، أوليه اللجان الحساسة فيقوم بواجبه خير قيام. تساءلت وقد رأيته ليس مساعدًا فقط بل قائد قاعدة ناجحًا في ما بعد، كم ضابطًا يستحق القيادة ولم تعط له، وكم مدرسًا أو موظفًا يستحق الإدارة ولم ينلها، وكم من موظف قطاع خاص أحق من غيره، وأكثر كفاءة ظلّ في مكانه مغمورًا كما تغمر أعواد الطيب النفيسة بين ملايين أعواد الخشب. غياب التقييم الفعال وبرامج إعداد القادة، وعدم التغيير المستمرّ، يحول دون الاستفادة من الكفاءات الممتازة. بعض القادة والمديرين يتلذذون بالنوم العميق، بل الموت السريرى لإداراتهم، ويعدّون طول بقائهم في مناصبهم علامة نجاح ودهاء.

يعتقد كثير من الآباء بأن مهمته تنتهي بتلقيح البويضة وتأمين الغذاء والكساء بعد الولادة. نتحدث كثيرًا عن برّ الوالدين، لكن لا نتحدث ما فيه الكفاية عن تربية الأبناء مع أنها الأهم والأصعب. يتحدث خطيب الجمعة عن عبادات معروفة، وأمور مكررة وقضايا لا تهم الناس كالسياسة، ولا يتحدث عن هموم الناس من تربية وسلوك حضاري مطلوب، وأمانة وصدق وخدمة أفضل للناس، وحماية لحقوقهم وحقوق الأجيال القادمة، ومحاربة لآفات المجتمع. لم لا يكون خطيب الجمعة معايشًا لهموم الناس ومسهمًا في حلّها؟ مطلقًا ما في داخل الإنسان من حب وأمل وطاقات هائلة للعمل والإبداع والإنتاج؟ منتزعًا ما في داخلها من بذور الشرّ والحقد والكراهية للآخرين؟ يجتهد الكثير من الدعاة عن حسن نيّة، في البحث في التراث عن المزيد من الأدلة للتحريم والتجريم، وخاصة في مجال الفنّ والمرأة، ناسين إنه كلما أقفل باب فتحت أبواب أكثر سوءًا وأقلّ مراقبة.

في أحضان الطبيعة

صرت أذهب وحيدًا خاصة بعد أن جرّيت فوائد الوحدة وقرأت سير المبدعين الذين عشقوا الطبيعة من أمثال الأديب ميخائيل نعيمة الذي قرأت له كثيرًا ومنها كتابه (سبعون) الذي كتبه بمناسبة بلوغه عامه السبعين. تحدث من خلاله كثيرًا عن الطبيعة وعشقه لها وخاصة بلدته (بسكنتا) في أحضان (جبل صنّين).

صعدت يومًا إلى الجبل فعرفت أن لياقتي ليست على ما يرام، قالته لي دقات قلبي المتسارعة ولهاثي غير المعتاد، زاد الوقت اللازم للصعود وتعددت مرات التوقف للراحة، صارت الأحجار عائقًا يجبرني على تغيير مساري، بعد أن كنت أقفز فوقها دون عناء، أهملت الرياضة فذكّرني الجبل، قال لي: لياقتك ليست على ما يرام. من السهولة أن يختبر الإنسان لياقته البدنيّة بأكثر من طريقة. لكن ماذا عن اللياقة الذهنية؟ ماذا عن هذا المتصرّف بكلّ شؤون الحياة؟ هذا القابع في الرأس. تركناه فركن إلى الدعة، برمجناه فأسأنا البرمجة، أعطيناه الأجوبة وأعفيناه من طرح الأسئلة. عندما يفكّر الآخرون نيابة عنا ويقرأون نيابة عنا يرتاح العقل لهذه الطريقة وينام قرين العين، ولا يلام إذا أمعن في سباته. كما عزف الناس عن صعود الجبال واكتفوا بالسفح، عزفوا عن إعمال الفكر وزيادة لياقته وتحسين عمله. لضعف اللياقة البدنية دلائل صحيّة وبدنية واضحة، لكن ليس للإعاقة الفكرية دلائل ظاهرة، لكنها واضحة في شحّ نتاج كلّ أمّة، في انكفائها على نفسها واقتناعها بما لديها، تجترّ ما أنتج الأولون وتستخدم ما صنع الآخرون، لا يلام إن نام في ظلام دامس. وقد أغلقت أمامه كل الأبواب وألغيت كلّ الشبابيك.

عبادات

يقول صديقي الذي دعاني: هكذا والدي، لا يتصنع ولا يجامل، لديه فيض من الحب الذي صار جسرًا يربط بينه وبين الناس، فأسعده وأسعد غيره، متفائل ويريد أن يرى الناس متفائلين، تذكرت -وابنه يحدثني عنه- كلمات رائعة لكاتب إنجليزي تقول: «الثورة الحقيقية هي ثورة المتفائل الذي يحيا ويموت ضمن محاولته اليائسة والانتحارية لإقناع الآخرين بطيبتهم». يقول ابنه: جاوز والدي الثمانين ولا يزال بصحة جيدة ولا يشكو من المرض، لم يندم يومًا على ما فاته، رغم أنه فوّت الكثير من الفرض في مختلف مراحل حياته، يردد دائمًا: الأسى لا يعيد ما فات ولا يعجّل بما هو آت.

سبحان الله كيف تتحول الابتسامة الصادقة إلى جواز سفر يلج قلوب الآخرين بكلّ هدوء؟ ليس المهم مصدر الابتسامة، سواء أكان طفلًا صغيرًا، أو فاتنة بكامل زينتها، أو شيخًا مشت على خدّه عربة الزمن، المهم صدقها وصفاؤها، تظل الابتسامة الصادقة، مصدر جذب للآخرين، كنبع صاف بين الصخور.

قال هذا المريض: لا شيء كالصحة، لا يعرفها ويقدّر قيمتها إلاّ من فقدها، هي أساس كلّ متعة، بدونها لا قيمة لما عداها، بدونها تصبح عالة على من تحبّ، ها نحن ندفع نتيجة إهمالنا في المأكل والمشرب وأسلوب الحياة. مساكين شباب وشابات هذا العصر ليتهم يسمعون ما يقوله هذا المريض من نصائح وحكم أفرزها المرض وأكدتها المعاناة، لعلهم يدوسون بأقدامهم على الكسل ومعه ما زاد من أرطال الشحوم وما تحويه جيوبهم وعقولهم من سموم.

قدّموا لي القهوة فقدمتها له أولًا، لكنه هزّ رأسه بعدم الرغبة. قلت له: - كنت أعرفك شارب قهوة إلى حدّ إدمانها، فماذا حدث؟ - كنت أشربها خمس مرّات في اليوم، كانت بعد كلّ صلاة، في الصباح لا تكفي دلّة واحدة، تجهزها زوجتي رحمها الله، تعرف مواعيد إحضارها وتحسن إعدادها، نشربها مع التمر وذكريات الماضي بحلوه ومرّه. بعد موتها تغيّر كلّ شيء، عرفت أن القهوة لن تأتي في الوقت المناسب ولا المقادير المناسبة، صرت أنتظرها، وكانت تنتظرني، وخشيت أن تكون سببًا في غضبي كلّما تأخروا في إحضارها، تركتها بعد وفاة زوجتي بأيام، احتج رأسي وألح في طلبها، استنجد بالصداع علّني أرق لحاله، لكنني أقنعته بأن القهوة ذهبت مع رفيقة دربي ولا تصلح بدونها، قلت لرأسي: أنا والقهوة وزوجتي كالأثافي، لا بد من ثلاث، وإلا سقط ما عليها.

ودعته وودعت ابنه وشددت على يده وقلت له: عملك يدل على شهامة ومعدن أصيل وستجده أمامك إن شاء الله، هذا هو الدِّين، المعاملة الحسنة لكلّ من حولنا من كبير وصغير، رجلًا كان أو امرأة، هذا هو المجتمع الذي يجب أن يكون وأن نفخر به أمام الآخرين، عملًا لا قولًا فقط.

أسوأ القرارات ما يتخذ على أساس معرفة سابقة أو تقدير شخصي أو استشارة من شخص معيّن، وخاصة إذا كان القائد من النوع الذي لا يقبل الرأي المخالف بسهولة، وقد يرى فيه خروجًا على الطاعة.

وجدت القوانين لتحترم. اتصل قائد القوات ليقول لي: إن أحد الآباء جاء من جنوب المملكة ليرى ابنه، لكن لن يراه خارج الكلية لأنه موقوف مع بقيّة الطلبة، لذا أرجوك أن ترتب الأمر ليراه في الكليّة مدة ساعة. شكرت قائد القوات على تواضعه واحترامه للأنظمة، ورتبت للأب موعدًا ليرى ابنه. قوّة القوانين في احترامها وتطبيقها على الجميع، وإلا صارت مطاطة، عرجاء يتندر بها في المجالس.

كان الطلبة من مناطق ومدن وأسر مختلفة، لكن النظام يسري على الجميع دون استثناء، الجميع ينامون ويصحون ويأكلون في وقت واحد، لا يمكن التمييز بينهم على أي أساس، سوى الأقدمية ودرجات التحصيل العلمي والانضباط. النظام كما قال ذلك القائد كالبالون، لو خرق انتهى إلى قطع تداس بالأقدام. من قال إن القانون لا يطبق لأن هناك استثناءات؟ نحن الذين خلقنا تلك الاستثناءات حتى صارت حقًا مكتسبًا، أبناء الأسر الغنيّة والمتعلمة هم أفضل الطلبة، أبناء الأسرة المالكة من أكثر الطلبة انضباطًا ما بقي النظام ساريًا على الجميع.

الزيارة الأولى

أكثر ما أعجبني حماسة المدرسين والمدربين، شباب برتب صغيرة، كلهم حماسة وثقة. يكتبون كلّ شيء عن الطلبة ويعرفون صفات كلّ طالب ويتابعونهم، أشار أحد المدربين إلى أحد الطلبة وقال لي: هذا سيصبح يومًا ما قائدًا كبيرًا. أنظر إلى مشيته وقيافته واستمع إلى منطقه، مثل هذا نتابعه في كلّ مراحل حياته العسكرية حتى التقاعد، نعطيه الدورات والمهمات المناسبة ويتقلّد المناصب القيادية لاحقًا، ويسبق بقية زملائه الأقلّ منه قدرة. أليس هذا كل ما تقوم به كلّ شركة ناجحة لمعرفة المتميزين ورعايتهم؟ كان أسبوعًا ناجحًا ومفيدًا على أكثر من مستوى.

قال لي قائد جناح الطلبة: ما رأيته لا يمثل سوى شيء بسيط مما في أكاديمية القوات الجويّة الأمريكية. يقول: لقد زرتها ووجدت أفضل تدريب يجمع بين العلم والعسكريّة. كلّيتهم تعد واحدة من أقوى عشر جامعات في أمريكا، ومنها يتخرج أفضل قادة القوات الجويّة، وقادة كثر من الشركات في ما بعد، يهتمون بالرياضة إلى حد أن لديهم أكثر من ثمانين ناديًا رياضيًا، حتى القفز المظلي والطائرات الشراعية والغوص وتسلّق الجبال، يزرعون روح التحدي والمغامرة بين ضباطهم منذ البداية، وتحتل كليتهم مساحة من أفضل المناطق في ولاية (كولورادو) ما ينطبق على الكليّات العسكرية لديهم في حسن الاختيار وجودة التدريب ينطبق على المؤسسات الأخرى من جامعات وشركات عملاقة وقطاع عام وخاص. التقدم لا يكتسب بالشهادات العالية حتى وإن كان الغرب أو الشرق مصدرها. لكنها ثقافة تستعصي على النقل والمحاكاة بمحاولات فردية، لذا تتدنى إنتاجية وأداء كثير من الشركات والمستشفيات والمصارف حال انسحاب الإدارة الأجنبية، سواء أكانت غربية أو شرقيّة. من أهم صفاتهم حسن الإعداد في المنزل والمدرسة والجامعة، ثم حب للعمل وعشق للتميز، التمييز له ولأمته. لا تتخذ قراراتهم لاعتبارات قبليّة أو مذهبية أو مناطقيّة. أقلّ فسادًا من كثير من أبناء العالم النامي. ليسوا ملائكة، بل من أكثر الناس حبًا للمال ودهاء في طرق كسبه، وفسادًا لو وجدوا الفرصة، لكنها المراقبة والمتابعة والجزاءات الصارمة، وقبلها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. كتب أحد الضباط الصغار من القوات الجوية الأمريكية تقريرًا ينتقد فيه رئيسه الذي برتبة لواء، عن سوء استخدامه للسلطات. تم التحرّي والتأكد مما أدلى به الضابط، وتمت محاكمة اللواء وإحالته للتقاعد مع حذف رتبتين من رتبه العسكرية التي تعب في تحصيلها، تقاع...

أصعب تطوير هو ما يتعلّق بالثقافة والتعليم، وخاصّة الثقافة الإسلاميّة، بعض أعضاء هيئة التدريس يرونها إعادة لما أخذ في مراحل التعليم العام، وأنا أراها في تعزيز مهمّة الكليّة، والمساهمة في بناء الفرد عقليًا وبدنيًا، وتأصيل القيم ومكارم الأخلاق. أسوأ أنواع المعارضة أتت ممن لم يعايشوا الكليّة وليس لهم اهتمامات أكاديمية، ولا يؤمنون بأن الحرب صارت تدار بالحاسبات والعقول المرنة والمعادلات الرياضية. إذا كانت هذه الصعوبة لكليّة واحدة، فكيف الحال في كلّ مراحل التعليم العام والتعليم العالي؟ كان الله في عون كلّ مخلص يرغب في التطوير والتغيير.

لا بد من تعويد الطالب على عادات وتخليصه من عادات، أحسن عادة يمكن تعلمها القراءة، وُضعت جوائز ودورات في القراءة السريعة للطلبة والضباط، وخصص أسبوع لمعرض الكتاب واختيار ودعوة المحاضرين بكل عناية. دعي فضيلة مفتي المملكة، ليعطي محاضرة قيّمة عن العبادة ومخافة الله، ويجيب على أسئلة الطلبة. أحدهم سأل عن عدم نجاحه بالطيران بسبب العين، قال فضيلته: عدم نجاحك عائد لك ولاجتهادك، كثير من الاخفاقات تعزى للعين مع أن أكثرها من إهمال الشخص وعدم اجتهاده.

ثقافة الوحدة

لينجح أي تغيير لا بد من تغيير ثقافة المؤسسة. أن تُلبس المرء ثوبًا جديدًا وملابسه الداخلية متسخة غير مجدٍ. أو أن ترمم بيتًا استخدم في بنائه مواد غير مناسبة لن يفيد. أصعب ما يواجه كلّ طامح للتغيير تلك الموروثات التي ما أنزل الله بها من سلطان. لا بد من تفكيك وهدم تلك الجدران التي بنيت وأصبحت غرفًا تحاصر العقول، وأسوارًا تمنع عنها الضوء والهواء النقي. من الصعوبة أن تهدم سورًا بيديك العاريتين وحيدًا، تلك الأسوار لها حماتها. ما تعاني منه الكلّية يعاني منه الوطن العربي الكبير. هذه ليست سوى خليّة في جسم كبير، أصيب بأمراض مستعصية. قلت في قرارة نفسي: لو هدمت سورًا لسقط عليّ وكتم أنفاسي، لكن سأفتح نافذة يدخل منها الهواء النقي، وتنفذ إليها أشعة الشمس، لعلها توقظ من في الغرفة أولًا، بعدها سيتولون فتح الأبواب وهدم الجدران بأنفسهم، لتنتقل العدوى منهم إلى أسرهم الصغيرة ثم الكبيرة. إذا أصلحت مؤسسة تبعتك مؤسسات، وإذا أصلحت بيتًا تبعتك بيوت، لا يوجد مجدِّد لم تحرق النار أصابعه، لكن أصابعه المحروقة صارت وسامًا يعتز به وإلهامًا لكل مظلوم ومحروم، ولو خيّر كلّ مجدِّد بين الطريق الصعب الذي سلكه، وطريق الخمول والدعة لاختار الأول دائمًا. هناك مفاهيم خاطئة تتحكم في المجتمع وتشلّ قدراته على الانطلاق، تعوقه عن الركض واللحاق بالآخرين، بل تقعده من شدّة التعب وزيادة الحمولة، تلك الأحمال من الصعوبة تخليص المجتمع منها ما ظلّ يتشبث بها ويظنها أفضل ما يمكن حمله عتادًا للمستقبل.

والقصة تحكي عن سفينة مبحرة وبداخلها عدد من الركاب مختلفي المشارب والثقافات. وقسّمتهم أربع مجموعات: المجموعة الأولى غارقة في غيّها تمارس شتى أصناف اللهو وتثير المشاكل أمام الآخرين، وكم مرّة وجدوهم في الممرات وأمام الغرف، بأصواتهم العالية وأحيانًا يعثر على أحدهم نائمًا في الممر وكأنه فاقدًا للوعي. يدخنون بشراهة ويتخاطبون بأصوات عالية ويلاحقون النساء ويجاهرون بما يعملون، يقضون ليلهم بالرقص والشرب والمجون ونهارهم بالنوم وقتل الوقت، عالة على أنفسهم وعلى الآخرين. المجموعة الثانية شباب لهم هيئة مختلفة عن المجموعة الأولى، يكثرون من قراءة الكتب التي تبقيهم على قناعاتهم التي تدفع بهم إلى خارج الزمان، وتجعلهم غير متأثرين بما حولهم، غير مقتنعين بما يجري في السفينة، ويحاولون السيطرة عليها وأخذ زمام المبادرة. وقبض على بعضهم وهو يحاول اقتحام غرفة القيادة يحتجون على الرسو في بعض الموانئ، ويعترضون على التعامل مع الآخرين، ويعترضون على التعامل مع الآخرين، ويعترضون على معظم ما يعرض في السفينة من أنشطة ترفيهية. وفي السفينة شاب اصطحب معه جدّه، يأخذه أينما ذهب ولا يتركه أبدًا، لو غاب الشاب لصاح الشيخ يناديه ويجلسه بجانبه. يملي عليه كلّ تصرفاته والشاب لا يستطيع أن يخالف أمره، يحاول الشاب أن يجرّب شيئًا جديدًا كصيد السمك أو السباحة، فلا يوافقه، خشية الغرق، يقرأ كتابًا جديدًا فيأخذه من يده خشية أن يؤثر في سلوكه ومعتقده، هذا الشاب لا يسمع له صوت ولا رأي، يخاف من البحر والليل، ويحن لبيته ولقريته دائمًا. هناك شاب آخر كلّه حيوية ونشاط، تبدو عليه علامات الصحة والاستقرار المادي والعاطفي، يمارس الرياضة والقراءة ويشارك في مناسبات السفينة المختلفة، يصلي مع المجموعة الثانية لكنه لا يشاركهم في جلساتهم، يكلّفه...

أقول لهم: الحياة الناجحة السعيدة بحاجة لتخطيط وانضباط، نحن لا نعيش في هذه الحياة سوى مرة واحدة، فلماذا نضيّعها بالتجارب الفاشلة.

أحثهم على التعاون والرفق بزملائهم واحترامهم، والخوف من الله عند مجازاتهم، أحثّهم على العدل بين زملائهم من غير تحير أو ظلم أورد لهم قصّة طالما رددتها عن الحكيم (كونفوشيوس) تقول: إنه مرّ على قرية ورأى امرأة تبكي زوجها الذي أكله النمر، وقبل فترة أكل النمر ولدها أيضًا. فتعجّب الحكيم منها وقال: لماذا لا تغادرين هذه الأرض التي يفترس فيها النمور البشر؟ أجابت: لأن فيها حكومة عادلة. التفت الحكيم إلى تلاميذه وقال: إن الحكومة الظالمة أشد خطرًا على البشرية من النمور المفترسة. الظلم ظلمات فابتعدوا عنه.

ولا أملُّ من تذكيرهم بمساوئ التدخين والحث على الرياضة أذّكرهم أن الأول يسرق من رصيدك الصحي، والآخر يضيف إليه. تكتب شيكًا وأنت في الخمسين من عمرك، تطلب صرف مزيد من الصحة فيُردّ الشيك لعدم وجود رصيد، فرّطت في رصيد الصحّة فغادرت إلى غير رجعة. أما الرياضي فلديه من الرصيد ما ينفق منه على نفسه وعلى أهله، تستقبل زوجة المدخن روائحه الكريهة وسعاله، وزوجة الرياضي حيوتيه وحسن فعاله. وفي آخر لقاء مع الخريجين أحثّهم على الانضباط الذاتي، حيث لا رقيب سوى الله ثمّ أنفسهم، وعلى الاستقامة، وعدم الإسراف، وأهمية التوفير وحسن اختيار الزوجة، ورسم أهداف بعيدة.

الأهداف وأهميتها

اضيف : وضع الاهداف يكون بعد مراجعة النفس وحياة الانسان الشخصية ويقيمها ويرى ما فيها من عيوب ومشاكل ليضع اهداف تقلل من السلبيات الى حد الاختفاء واهداف ايجابية تزيده عطاء ونماء وتتوافق مع رغبته وحبه لعمل ما.

في المسرح يشارك الطلبة في تقديم فقرات فكاهية هادفة، يضحك لها الطلبة كثيرًا، وتبقى واحدة من الذكريات الجميلة لأيام الكلية. المسرح من أرقى الفنون التي تحتاج إلى جهد وإلى أكثر من عنصر لإنجاحها، وهو يعالج مواضيع كثيرة بطريقة مشوقة ومقبولة. عندما غاب المسرح من مدارسنا، هجرتها الابتسامة والنقد البنّاء. المسرح المدرسي يقرّب الطالب لأستاذه، وولي الأمر إلى مدرسة ابنه. هناك من لا يرى المسرح إلاّ نصحًا وزهدًا في الدنيا، وثقافة ترى الموت أهم من الحياة، وما عدى ذلك ضياع وقت.

أساتذة الجامعات هم من أفضل شرائح المجتمع وألمع عقوله، اختيروا من بين آلاف الطلبة الذين تخرّجوا من الجامعات بتقديرات عالية. ومن المؤسف أنه لا يستفاد من المتميزين منهم لشغل المناصب المهمة في الدولة بالقدر الكافي، والاستفادة من خبراتهم لدفع البلد لنادي الدول المتقدمة. لكن هناك للأسف من الأساتذة من ظن أن العلم قد انتهى بحصوله على الشهادة والوظيفة، فلا يجهد نفسه في بحث ولا يحاول أن يقتحم عالم الكتب، قراءة وتأليفًا.

شرحت لهم ماذا أعني بالذكاء العاطفي وقلت: إنها مجموعة العواطف والأحاسيس والحدس والشعور لدى الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتأثيرها عليه وعلى من يعمل معه، وتوظيفها بالقدر المناسب. قلت لهم: وهبنا الله العقل والقلب، ومثلما لا يطير الطائر إلاّ بجناحين فلن يحلّق القائد أو الإداري الناجح عاليًا في سماء القيادة والإدارة الواسع إلاّ بجناحين: جناح الرحمة والحب وجناح الذكاء والخبرة.

يقول مثل هندي قديم: «يجب على الناس أن يصبروا على الأقلّ ثلاث سنوات ولو كانوا في ظلّ الشجر، أو فوق الصخور».

الفكر المرن يعني الاجتهاد الذي هو واحد من مصادر التشريع، وهو ضرورة لكل عصر، فالحياة بنيت على الحركة والتغيير المستمر وليس الجمود، والاجتهاد واحدٌ من أسرار بقاء الدين صالحًا لكل زمان.

وعن الحوار قلت لهم: الحوار يفتح بيننا وبين الآخرين نوافذ وأبوابًا، الحوار يقول لنا: إن الطريق يتسع لأكثر من مركبة، يعني أننا نزرع مصدات من الحب والتعاون ضد عواصف الكره والغلو، أن نحاور لا يعني تغيير ما نؤمن به، لكن يعني سماع وجهة نظر الآخرين، الحوار يعني بناء جسور بيننا وبين الآخرين ومحاولة إزالة سوء الفهم، الحوار يعني أن المجتمع يتمتع بالصحة الفكريّة ولديه مناعة ضد كثير من الأمراض، أسوأ أعداء الحوار الإكراه الفكري ونعت المخالف بأنه صاحب نيات سيئة، الرأي المخالف كجداول تصريف المياه والقنوات التي تمنع السدود من الانهيار. لولا اختلاف الآراء لأصبح الناس نسخًا مكررة يتزاحمون على نفس الطريق ونفس الهدف والاتجاه، لولا اختلاف الآراء لأصبح الناس صورًا مكررة، ولتوقفت العقول عن الإنتاج.

من أجمل ما قيل في مبدأ الحوار ما قاله الشافعي رضي الله عنه: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»

لينجح التغيير، لا بد من الغوص في عمق المشكلة، ومعرفة العوائق وأسبابها، والدوافع والحوافز وكيفية مضاعفتها. وجدت في كتاب باللغة الإنجليزية عنوانه القيادة الذكيّة للكاتبين آلان هوبر وجون بوتر (Alan Hooper & John Potter) ما يجيب عن كثير من تساؤلاتي، وما يساعدني على إقناع الآخرين بطريقة علميّة.

The business of leadership Alan hooper and John potter

في الدائرة الأولى شعور الإنسان تجاه نفسه وما ينتمي إليه وما يعمل. أو ما يطلق عليه الهويّة، وهذه الدائرة تذكّر برجلين يعملان في قطع الحجر. سئل الأول: ماذا تعمل؟ أجاب: ماذا ترى؟ أقطع حجرًا. وسئل الثاني: ماذا تعمل؟ أجاب: أبني مساجد ومدارس ومستشفيات. أيهما تظنون سينتج أكثر؟ ويستمتع أكثر؟ هذه الدائرة هي الأكثر تأثيرًا لذا يسعى المخططون إلى اعتبار كلّ عمل يقومون به شريفًا ومحلّ فخر. فالبدوي الذي كان يغير على قبيلة أخرى يسميه غزوًا وما يحصل عليه يسميه كسبًا، مع أنه سرقة واضحة وضوح شمس نهار صحارينا. والسارق من المال العام يسمّيه استثمار فرص وشطارة، مع أنه يأخذ اللقمة من أفواه المحتاجين والمرضى في البيوت وفي المستشفيات.

كتبت أربع قيم ورتبتها كما يلي: الاستقامة، والاحترام، والتضحية، والتميز في كلّ ما نعمل.