More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها.
الإسلام بما انطوى عليه من قوة روحية، كان للذين يتمسكون به درعاً من أن تحطمهم الأيام، أو يذوبوا في بوتقة المستعمِر؛ يتقمصون شخصيته.
«إذا فصلت السياسة عن الدين فقدت معناها، كل طفل في مدرستنا يدري الأنظمة السياسية في الهند، ويعرف كيف أن بلاده تتقد بإحساسات جديدة وبآمال جديدة، ولكننا أيضاً في حاجة إلى الضوء الثابت المستقر. ضوء الإيمان الديني». غاندي
وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكاراً بل ينصب أصناماً؛ وهذا هو شأن الجاهلية،
ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أحياناً.
فلقد كان على الحركة الإصلاحية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية ومعارك الأوثان؛
ألم يكن موطن المعجزة هو ما دل عليه القرآن، أي في النفس ذاتها؟
إذ كانوا يغيرون ما بنفس الفرد، ذلك التغيير الذي هو الشرط الجوهري لكل تحول اجتماعي رشيد؟
وإذن فلا يجوز لنا أن نغفل الحقائق، فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعاً للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه، فإذا كان الوسط نظيفاً حرّاً فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا كان الوسط متسماً بالقابلية للاستعمار فلا بد من أن تكون حكومته استعمارية.
الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذلّ الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها.
وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده، إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذلّ مستعمر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار.
ولا يذهب كابوسه عن الشعب - كما يتصور بعضهم - بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي، يصبح معه الفرد شيئاً فشيئاً قادراً على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديراً بأن تُحترم كرامتُه؛ وحينئذ يرتفع عنه طابع (القابلية للاستعمار) ومن ثم لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتصّ دمه، فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائياً إلى الوضع الذي يرتضيه[9].
وإنها لشرعة السماء: غيِّر نفسك تغيِّر التاريخ!
وهكذا عادت أدراجها ميممة وجهها شطر السراب السياسي، حيث تتوارى من ورائها بوارق النهضة والتقدم.
لقد أصبحنا لا نتكلم إلا على حقوقنا المهضومة ونسينا الواجبات؛ ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب بل فيما يسودنا من عادات، وما يراودنا من أفكار؛ وفي تصوراتنا الاجتماعية بما فيها من قيم الجمال والأخلاق، وما فيها أيضاً من نقائص تعتري كل شعب نائم.
ألا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم؛ فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من جهل العوام، لأن جهل العوام بيِّن ظاهر يسهل علاجه، أما الأول فهو متخفٍّ في غرور المتعلمين.
فإني أعطيتك عقلاً ويداً، وأعطيتك تراباً وزماناً.
ناتج حضاري = إنسان + تراب[15] + وقت.
وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مشكلة الحضارة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت.
إن هناك ما يطلق عليه (مركِّب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض،
هو الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ،
تحتم علينا في حلِّ مشكلاتنا الاجتماعية أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ،
فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا.
ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا،
وعليه فإنه لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولاً من الشرق أو الغرب، فإن في ذلك تضييعاً للجهد ومضاعفة للداء. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار.
ومن المعلوم أنه حينما يبتدئ السير إلى الحضارة، لا يكون الزاد بطبيعة الحال من العلماء والعلوم، ولا من الإنتاج الصناعي أو الفنون، تلك الأمارات التي تشير إلى درجة ما من الرقي، بل إن الزاد هو (المبدأ) الذي يكون أساساً لهذه المنتجات جميعاً.
وفي هذه العوامل ينحصر رأس مال الأمة الاجتماعي الذي يمدها في خطواتها الأولى في التاريخ.
إذ هما ينطلقان من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية.
فالحضارة لا تنبعث - كما هو ملحوظ - إلا بالعقيدة الدينية[17]،
فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجاً،
ومن هنا ندرك سر دعوة القرآن الكريم المؤمنين إلى التأمل فيما مضى من سير الأمم؛ وذلك حتى يدركوا كيف تتركب الكتلة المخصبة من الإنسان والتراب والوقت.
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه أطوارها مع أطوار المدنية الإسلامية والمسيحية، إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينية، ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها، بعد أن تفقد الروح ثم العقل.
ذلك هو منحنى السقوط الذي تخلقه عوامل نفسية أحط من مستوى الروح والعقل، وما دام الإنسان في حالة يتقبل فيها توجيهات الروح والعقل المؤدية إلى الحضارة ونموها، فإن هذه العوامل النفسية تختزن بطريقة ما فيما وراء الشعور، وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل، تنطلق الغرائز الدنيا من عقالها، لكي تعود بالإنسان إلى مستوى الحياة البدائية.
ولو أردنا أن نسمي هذه المرحلة الخالية من الروح والعقل والخاتمة لكل حضارة، لأطلقنا عليها بلا تردد اسم المرحلة (السياسية) بالمعنى السطحي لكلمة (سياسة).
الحضارة تولد مرتين، أما الأولى: فميلاد الفكرة الدينية، وأما الثانية: فهي تسجيل هذه الفكرة في الأنفس، أي دخولها في أحداث التاريخ.
إن الوسيلة إلى الحضارة متوافرة ما دامت هنالك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ (حضارة).
إننا لكي نتوصل إلى التركيب الضروري حلاً للمشكلة الإسلامية، أعني مزج الإنسان والتراب والوقت، يجب أن يتوافر لدينا مؤثر الدين الذي يغير النفس الإسلامية، أو كما يقول كسرلنج: «يمنح النفس مبدأ الشعور».
والدين وحده هو الذي يمنح الإنسان هذه القوة،
وبهذه القوة وحدها يشعر المسلم - على الرغم من فاقته وعريه الآن - بثروته الخالدة التي لا يدري من أمر استخدامها شيئاً.
والمجتمع الإنساني يمكنه أن يستغني وقتاً ما عن مكتسبات الحضارة، ولكنه لا يمكنه أن يتنازل عن هذه العناصر الثلاثة التي تمثل ثروته الأولية، دون أن يتنازل في الوقت نفسه عن جوهر حياته الاجتماعية.
فماركس ومدرسته يذهبان إلى أن كل اكتمال تاريخي لا يكون إلا نتيجة الضرورات المادية وحاجات الإنسان الأساسية، ومن ثم الوسائل الفنية التي يخترعها ويستعملها في تلبية تلك الحاجات.
ولكن هذه النظرية لا تفسر لنا النقطة الأساسية الماثلة فيما يحدث من تفكك العلاقات الاجتماعية وتلاشي الحضارات، دون ظهور أي تغيير في طبيعة الحاجات ووسائل الإنتاج.
يفسر (كسر لنج) الحضارة الأوربية باعتبارها تركيباً مكوناً من (روح) المسيحية وتقاليد الجرمانية.
شبنجلر (Spengler) ليقودنا إلى نظرية أخرى، تفسر الحضارة باعتبارها ثمرة لعبقرية خاصة تسم عصراً معيناً بميسم ابتداع أساسي،
أما المؤرخ الإنجليزي الكبير جون أرنولد توينبي، فقد جاء من ناحيته بتفسير ضخم للحضارة يلعب فيه العامل الجغرافي دوراً أساسياً.
غير أن (توينبي) يُدخل هذا العامل الجغرافي ضمن مذهبه المتمثل فيما يدعوه بـ (التحدي Léfi)، وهو المذهب الذي يفسر الحضارة كـ (ردّ) معين يقوم به أحد الشعوب أو الأجناس مواجهة لـ (تحد) معين.