More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وعليه فإنه مما ينسجم وطبيعة الأشياء حينما ندرس تطور هذه الحضارة، أن ندرس من حيث الأساس العلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها.
الفرد عند نقطة الصفر في الصورة التخطيطية التي قدمناها، فإننا نجده في الحالة التي يعرفها بعض المؤرخين المسلمين بـ (الفطرة)، مع جميع غرائزه كما وهبته إياها الطبيعة.
غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إخضاع غرائزه إلى (عملية شرطية
وهذه العملية الشرطية ليس من شأنها القضاء على الغرائز، ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية؛
وفي هذه الحالة يتحرر الفرد جزئياً من قانون الطبيعة المفطور في جسده. ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه، بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح.
ذلكم هو الطور الأول من أطوار حضارة معينة؛ الطور الذي تروّض فيه الغرائز وتسلك في نظام خاص تكبح فيه الجماح وتتقيد عن الانطلاق.
وفي الوقت نفسه يواصل المجتمع،
ومن الطبيعي أن الغرائز لا تتحرر دفعة واحدة. وإنما هي تنطلق بقدر ما تضعف سلطة الروح.
ولو استطعنا في هذا الحين بوسيلة دقيقة المراقبة لهذه الظروف النفسية،
لأمكن أن نلاحظ انخفاضاً في مستوى أخلاق المجتمع.
فأوج أي حضارة - وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها - يلتقي من وجهة نظر (علم العلل)[22] البحت مع بدء مرض اجتماعي معين،
وبهذا تواصل الغريزة المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية سعيها إلى الانطلاق والتحرر، وتستعيد الطبيعة غلبتها على الفرد وعلى المجتمع شيئاً فشيئاً.
وعندما يبلغ هذا التحرر تمامه يبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة، طور الغريزة التي تكشف عن وجهها تماماً. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية التي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها تماماً في مجتمع منحل، يكون قد دخل نهائياً في ليل التاريخ، وبذلك تتم دورة في الحضارة.
إن المشاكل التي تحيط بالإنسان[25] تختلف باختلاف بيئته، فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة، بل مشاكل متنوعة تبعاً لتنوع مراحل التاريخ. فلا يمكن لنا أن نوازن في الوقت الحاضر بين رجل أوربا المستعمر، ورجل العالم الإسلامي القابل للاستعمار؛ لأن كليهما في طور تاريخي خاص به.
ساكن الحضر رجل قليل، تتمثل فيه القِلة في كل شيء. والثاني رجل الفطرة الذي يرضى من الأشياء بالعدم؛ ولكن ربّ عدم خير من القليل، إذ إن رجل المدينة الذي رضي بالقليل من الأشياء، قد تغلغلت في نفسه دواعي الانحطاط التي قضت على المدنيات المتعاقبة على بلاده من أيام قرطاجنّة، فهو يحمل روح الهزيمة بين جوانحه، فقد عاش حياته دائماً في منحدر المدينة، إذ هو دائماً في منتصف طريق، وفي منتصف فكرة، وفي منتصف تطور، لا يعرف كيف يصل إلى هدف؛ إذ هو ليس (نقطة الانطلاق) في التاريخ كرجل الفطرة، ولا (نقطة الانتهاء) كرجل الحضارة، بل هو (نقطة التعليق) في التطور وفي التاريخ وفي الحضارة. فرجل المدينة إذن يصدق عليه هذان
...more
فقد صار من الضروري أن نضع أمامنا المشكلة بأكملها، وأن نأخذ في اعتبارنا - على الأخص - عنصرها الأساسي: الرجل، ويلزمنا أولاً أن نفهم كيف يؤثر الإنسان في تركيب التاريخ الذي درسنا قانونه في الفصل السابق.
وحاصل البحث أن قضية الفرد منوطة بتوجيهه في نواح ثلاث: أولاً: توجيه الثقافة. ثانياً: توجيه العمل. ثالثاً: توجيه رأس المال.
التوجيه، فهو - بصفة عامة - قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف؛
وإنه ليجب بادئ الأمر تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي والاجتماعي، مما فيه من عوامل قتالة ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة.
ونخلص من ذلك إلى ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين: الأولى: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي. والثانية: إيجابية تصلنا بمقتضيات المستقبل.
والحضارة الإسلامية نفسها قامت بعملية التحديد هذه من ناحيتها السلبية والإيجابية، إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التحديدين مرة واحدة، وصدرت فيهما عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية.
وهذا العمل نفسه ضروري اليوم للنهضة الإسلامية.
المقصود هنا من التحديد الإيجابي
تحديد محتواه من العناصر الجوهرية التي نراها ضرورية تماماً للثقافة وهي: 1- الدستور الخلقي. 2- الذوق الجمالي. 3- المنطق العملي. 4- الصناعة بتعبير ابن خلدون
ففي الغرب يعرفون الثقافة على أنها تراث (الإنسانيات الإغريقية اللاتينية)، بمعنى أن مشكلتها ذات علاقة وظيفية بالإنسان؛ فالثقافة على رأيهم هي: (فلسفة الإنسان).
وفي البلاد الاشتراكية، حيث يطبع تفكير ماركس كل القيم، عرف (يادانوف) الثقافة - في تقريره المشهور الذي قدمه منذ عشر سنوات لمؤتمر الحزب الشيوعي في موسكو - على أنها ذات علاقة وظيفية بالجماعة، فالثقافة عنده هي: فلسفة المجتمع.
تصبح الثقافة نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة،
ولكي نفهم هذا الفرق يجب أن نتصور - من ناحية - فردين مختلفين في الوظيفة وفي الظروف الاجتماعية، ولكنهما ينتميان إلى مجتمع واحد، كطبيب إنجليزي، وراع إنجليزي مثلاً. ومن ناحية أخرى نتصور فردين متحدين في العمل والوظيفة، ولكنهما ينتميان إلى مجتمعين مختلفين في درجة تقدمهما وتطورهما، فالأولان يتميز سلوكهما إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي، يتجلى فيه ما يسمى (الثقافة الإنجليزية). بينما يختلف سلوك الآخرين أحياناً اختلافاً عجيباً يدل على طابع الثقافة الذي يميز أحد الرجلين عن صاحبه، لأنه يميز المجتمع الذي ينتمي إليه.
فالتماثل أو الاختلاف في السلوك ناتج عن الثقافة لا عن العلم.
فالثقافة إذن تعرَّف بصورة عملية أنها: مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته، كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته.
ولكن لا سبيل إلى عودة الثقافة إلى وظيفتها الحضارية إلا بعد تنظيف الموضوع من الحشو أو الانحراف، الذي أحدثه فيه عدم فهمنا لمفهوم (ثقافة).
فأما الحشو الذي نشير إليه فإنه نتج عن عدم محاولتنا تصفية عاداتنا وحياتنا مما يشوبها من عوامل الانحطاط، كما أشرنا سابقاً أن ثقافة نهضتنا لم تنتج سوى حرفيين منبثين في صفوف شعب أُمّي.
مشكلة الثقافة لا تخص طبقة دون أخرى، بل تخص مجتمعنا كله، بما فيه المتعلم، والصبي الذي لما يبلغ مرحلة التعلم؛ إنها تشمل المجتمع كله من أعلاه إلى أسفله،
فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها، بما تتضمنه من عادات متجانسة وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة.
وفي هذا المركب الاجتماعي للثقافة ينحصر برنامجها التربوي، وهو يتألف من عناصر أربعة، يتخذ منها الشعب دستوراً لحياته المثقفة: 1- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية. 2- عنصر الجمال لتكوين الذوق العام. 3- منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام.
4- الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع، أو (الصناعة) حسب تعبير ابن خلدون.
بل أن نحدد (قوة التماسك) الضرورية للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية،
وإن شبابنا لينظرون إلى المدنية الغربية في يومها الحالي، ويضربون صفحاً على أمسها الغابر، حين نبتت أولى بذورها، وتلونت في تطورها ونموها ألواناً مختلفة، وما فتئت تتلون عبر السنين حتى استوت على لونها الحاضر فحسبناها نباتاً جديداً.
فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها، وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لولا صلات اجتماعية خاصة لا نتصور هذه الصناعات والفنون من دونها، فهي الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده اليوم من علوم وفنون،
وهكذا سوف نصل في النهاية - إذا ما تتبعنا كل مظهر مدني من مظاهر الحضارة الغربية - إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة.
إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟. الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.
لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح؛ والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه.
فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره، ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة القبيحة.
ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجوداً في ثقافتنا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانباً من حياة الإنسان.
فإن هذا الطفل لا يعبر عن فقرنا المسلم به، بل عن تفريطنا في حياتنا.
وليس من شك في أن مصطفى كمال حينما فرض القبعة لباساً وطنياً للشعب، إنما أراد بذلك تغيير نفس لا تغيير ملبس، إذ إن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد.
أما تأثيره فعام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة، كذوقنا في الموسيقا
وفي الملابس والعادات وأساليب الضحك، والعطاس وطريقة تنظيم بيوتنا وتمشيط أولادنا، ومسح أحذيتنا، وتنظيف أرجلنا.
والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا، وأن نتمثل في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا مسحة الجمال نفسها، التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي. يجب أن يثيرنا أقل نشاز في الأصوات والروائح والألوان، كما يثيرنا منظر مسرحي سيئ الأداء. إن الجمال هو وجه الوطن في العالم، فلنحفظ وجهنا لكي نحفظ كرامتنا، ونفرض احترامنا على جيراننا الذين ندين لهم بالاحترام نفسه.