More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
نعني بالمنطق العملي
كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه،
فالمسلم يتصرف مثلاً في أربع وعشرين ساعة كل يوم: فكيف يتصرف فيها؟ وقد يكون له نصيب من العلم أو حظ من المال، فكيف ينفق ماله ويستغل علمه؟
إننا نرى في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من (عدم الفاعلية) في أعمالنا، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث والمحاولات الهازلة.
ولقد يقال: إن المجتمع الإسلامي يعيش طبقاً لمبادئ القرآن، ومع ذلك فمن الأصوب أن نقول: إنه يتكلم تبعاً لمبادئ القرآن، لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي.
كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم تدخل في مفهوم الصناعة.
وإنا لنرى في هذا الباب ضرورة إنشاء مجلس للتوجيه الفني، ليحل نظرياً وعملياً المشكلة الخطيرة للتربية المهنية، تبعاً لحاجات البلاد.
ولسوف تخيب آمالنا التي عقدناها إذا ما عولنا في قضيتنا على العلم الذي نتعلمه في المدارس الرسمية أو غير الرسمية، أو على ما تعدنا به السياسات الانتخابية، وما تعدنا إلا غروراً.
ويمكننا أن نصوغ هذه العلاقة في صورة جبرية هكذا: مبدأ أخلاقي + ذوق جمال = اتجاه حضارة.
وعليه فإنه يمكننا القول: إن هناك - بصورة عامة - نموذجين من المجتمع: نموذجاً يقوم فيه النشاط أساساً على الدوافع الجمالية، ونموذجاً يقوم فيه النشاط على الدوافع الأخلاقية أولاً. وهذا الاختلاف الأساسي ليس مجرد اختلاف شكلي، إنه يؤدي إلى نتائج تاريخية ذات أهمية كبيرة.
إن توجيه العمل في مرحلة التكوين الاجتماعي عامة يعني سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد، بما في ذلك جهد السائل والراعي وصاحب الحرفة، والتاجر والطالب والعالم والمرأة والمثقف والفلاح، لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء.
فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وتقبل هذه الحروف عمل، وإزالة أذى عن الطريق عمل، وإسداء نصح عن النظافة أو الجمال - دون أن يغضب الناصح حين لا يصغى لنصحه - عمل، وغرس شجرة هنا عمل، واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل، وهكذا..
فنحن نعمل ما دمنا نعطي أو نأخذ بصورة تؤثر في التاريخ.
وعليه فإن القضية في البلاد الإسلامية ذات طابع يختلف تمام الاختلاف عن صورتها في أوربا، ومن هنا كان حتماً علينا دراسة هذه المشكلات دراسة خاصة، ومن ثم تحديد رأس المال ذاته من زاوية أخرى، باعتباره آلة اجتماعية تنهض بالتقدم المادي، لا آلة سياسية في يد فئة رأسمالية كما عالجها ماركس ومدرسته،
وينبغي لنا أن نفهم قبل كل شيء أن كلمة (رأسمال) ليست من مصطلحاتنا، ولا هي من الشيء الذي تعودناه، فنحن دائماً نخلط بين شيئين متمايزين تمام التمايز: الثروة ورأس المال.
الحالتين تظهر الثروة معرفة لنا بطابع مكاسب الشخص غير المتحركة غير الداخلة في الدورة الاقتصادية؛ فهي شيء محلي مستقر في حقل صاحبه أو داره أو حول خيمته، وليس لها من عمل مستقل بوصفها قوةً مالية تدخل في بناء الصناعات وتمويلها، أو في تجارة التصدير والاستيراد، أو غير ذلك من الميادين الاقتصادية، كما هو الشأن في رأس المال.
يسهل علينا تحديد معنى (رأس المال)، فهو في جوهره: (المال المتحرك) الذي يتسع مجاله الاجتماعي بمقتضى حركته ونموه في محيط أكبر
من محيط الفرد، وأقصى من المقدار الذي تحدده حاجاته الخاصة.
ولا شك أن المال الذي تصبح هذه حاله من التنقل بين البلاد، يخلق حركة ونشاطاً، ويوظف الأيدي والعقول، أينما حل وحيثما ارتحل.
فإن همنا الأول أن تصبح كل قطعة مالية متحركة متنقلة تخلق معها العمل والنشاط،
لنتخذ من الآن الحيطة حتى تكون أموالنا مطبوعة بطابع الديمقراطية لا بطابع الإقطاعية. فالقضية إنما هي قضية منهاج يحدد لنا تخطيطاً مناسباً نبني عليه حياتنا الاقتصادية، ولا يكون فيه مكان لتركيز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة، تستغل السواد الأكبر من الشعب، بل يجب أن يتوافر فيه إسهام الشعب مهما كان فقيراً، وبذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع، وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد.
ولا يفوتنا أن ننبه بإلحاح إلى أننا بحاجة إلى تكوين مجلس لتوجيه (الثروة) وتوظيفها، لتتحول إلى (رأسمال) بالمعنى الآنف الذكر ولتخطيط أهدافه الاقتصادية.
ولسنا نرى في الأقاويل التي تقوَّلها على حقوق المرأة أدعياء تحريرها، أو الذين يطالبون بإبعادها من المجتمع إلا تعبيراً عن نزعات جنسية لا شعورية. ولتوضيح هذه الحقيقة يجدر بنا أن ننظر إلى الدوافع النفسية العميقة التي تدفع كلا الطرفين إلى القول بآرائه، وحينئذ لن يصعب علينا معرفة هذه الدوافع على حقيقتها، وأنها جميعها تصدر عن شيء واحد هو: دافع الغريزة الجنسية طبقاً لتحليل فرويد. فهذه النقطة كانت مبدأ الانطلاق لكلا الفريقين، غير أنهما سارا بعد ذلك في طريقين مختلفين.
وهكذا نرى أن كلا الفريقين قد يصدر رأيه عن اعتبار واحد هو الغريزة، ولا أمل لنا في أن نجد في آرائهما حلاً لمشكلة المرأة.
وإذن فهذه المشكلة ينبغي أن تصفى أولاً من مثل هذه النزعات، ثم تُحل حلاً يكون الاعتبار الأول فيه لمصلحة المجتمع؛ فالمرأة والرجل يكونان الفرد في المجتمع: فهي شِقُّ الفرد، كما أن الرجل شقه الآخر.
فالمرأة والرجل قطبا الإنسانية، ولا معنى لأحدهما بغير الآخر، فلئن كان الرجل قد أتى في مجال الفن والعلم بالمعجزات، فإن المرأة قد كونت نوابغ الرجال.
وإذا تساءلنا هل يجب نزع الحجاب؟ أو هل يسوغ للمرأة التدخين؟ أو التصويت في الانتخابات؟ أو هل يجب عليها أن تتعلم؟ فينبغي ألا يكون جوابنا عن هذه الأسئلة بدافع من مصلحة المرأة وحدها، بل بدافع من حاجة المجتمع وتقدمه الحضاري، إذ ليست الغاية من البحث في اشتراكها في هذا المجتمع إلا الإفادة منها في رفع مستوى المرأة ذاتها، وإذن فليس من المفيد لنا أن ننظر إلى مشكلتها بغير هذا المنظار.
إن إعطاء حقوق المرأة على حساب المجتمع معناه تدهور المجتمع، ومن ثم تدهورها؛ أليست هي عضواً فيه؟ فالقضية ليست قضية فرد، وإنما هي قضية مجتمع.
ولكننا بشيء من النظر نرى أن انتقالنا بالمرأة من امرأة متحجبة إلى امرأة سافرة، تطالع الصحف وتنتخب وتعمل في المصنع، لم يحل المشكلة، فهي لا تزال قائمة؛ وكل الذي فعلناه أننا نقلنا المرأة من حالة إلى حالة،
فالزي الذي تختاره المرأة لنفسها دليل واضح على الدور الذي تريد تمثيله في المجتمع وتمثله فعلاً،
وحبذا لو أن نساءنا عقدن مؤتمراً عاماً يحددن فيه مهمة المرأة بالنسبة إلى مصلحة المجتمع، حتى لا تكون ضحية جهلها، وجهل الرجل بطبيعة دورها، فإن ذلك أجدى علينا من كلمات جوفاء ليس لها في منطق العلم مدلول.
بشرط أن يضم الوسائل الكفيلة بتناول المشكلة من جميع أطرافها، فيجب مثلاً أن يضم علماء النفس وعلماء التربية والأطباء، وعلماء الاجتماع وعلماء الشريعة وغيرهم. وحينئذ نستطيع أن نقول: إننا وضعنا المنهج الأسلم لحياة المرأة، ولسوف يكون هذا التخطيط حتماً في مصلحة المجتمع، لأن علماءه والمفكرين فيه هم الذين وضعوه.
المرأة الأوربية كانت ضحية هذا الاعتبار، لأن المجتمع الذي حررها قذف بها إلى أتون المصنع وإلى المكتب، وقال لها: «عليك أن تأكلي من عرق جبينك»، في بيئة ممتلئة بالأخطار على أخلاقها، وتركها في حرية مشؤومة، ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع، ففقدت - وهي مخزن العواطف الإنسانية - الشعور بالعاطفة نحو الأسرة،
وأصبحت بما ألقي عليها من متاعب العمل صورة مشوهة للرجل، دون أن تبقى امرأة. وهكذا حُرم المجتمع من هذا العنصر الهام في بناء الأسرة، وهو العنصر الأساسي فيها، وجنت أوربا ثمار هذه الأسرة المنحلة مشكلات من نوع جديد.
فكيف، وبأي أسلوب يمكن للمرأة المسلمة أن تقوم بدورها؟ إن علماءنا ومثقفينا ونساءنا أنفسهن جميعاً مسؤولون عن هذا الجواب.
فالقضية إذن من حيث إنها تتطلب التنفيذ، هي في النهاية موقوفة على من بيده وسائل التنفيذ، ولا شك أن مؤتمراً يحدث فيه ما يسميه الفقهاء بالإجماع هو الكفيل بهذا، فالقضية تتطلب بالضبط (إجماعاً) لا اختصاصيين، تتطلب حلاً جماعياً، لا وجهة نظر فرد مهما كانت قيمتها.
إن التوازن الأخلاقي في مجتمع ما منوط بمجموعة من العوامل الأدبية والمادية؛ والملبس هو أحد تلك العوامل.
وليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به.
لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه؛
نعم! إنه لمن الغباوة أن ننكر اليوم مشكلة الزّي المناسب لرجال النهضة ونسائها، ولكننا نكون أكثر غباوة إذا ما استسلمنا إلى التقليد البحت، بلا التفات إلى مقتضيات أحوالنا من حيث دستور الجمال وضيقنا الاقتصادي، والقيام ببعض الواجبات كالصلاة مثلاً.
فإذا ما حددت الأخلاق مُثُله وغذى الجمال وحيه، فينبغي عليه أن يحدد هو وسائله وصوره الفنية للتأثير في الأنفس. ويبرز خطر الفن عندما يشرع في تقرير هذه الوسائل، التي تجعله مربياً أو مفسداً، وذلك حسبما يختار من الصور والألحان؛
فإذا ما فهمنا الفن على هذه الصورة، فإننا نستطيع أن نوسع نطاقه حتى يشمل طريقة المشي في الشوارع، وكيفية شرب الماء، وكيفية التثاؤب في المجتمعات العامة؛
إن هذا ليس من روح الفنون بل هو من باب الجنون، وواجبنا أن نضرب على أيدي أولئك المتبطلين، فلا نسمح لهم بأن يشوهوا ذوقنا الفني باسم الفن، والفن منهم براء.
ولكننا نتكلم عليه من حيث قيمته الاجتماعية، وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة؛ وحين تكون الأمة متخلفة - كما نقول اليوم - يكون التراب على قدرها من الانحطاط.
غير أنه لن يتحقق لنا مثل ذلك النصر على الصحراء إلا إذا انتصرنا على أنفسنا الخاملة الكسولة، لأن القضية لا تتطلب شجرة واحدة بل مئات الملايين.
ولعل هذا يتطلب منا خدمة شاقة، ولكن لنا في دول أخرى أسوة حسنة، فإنها قد تعرضت لمثل هذه المحن، فواجهتها بكفاح وعبقرية.
ومهما يكن من بدائية وسائلنا فإن علينا أن نعمل، فالعمل ضروري ضرورة دراسة طبيعة الأرض والمناخ، فمثلاً غرس الأشجار في الأرض الصخرية ضرب من العبث في أول الأمر، إذ يجب أن نبدأ بزراعة الشواطئ القريبة من البحار، والتي لا يزال فيها بقية من استعداد لأن تستصلح بغرس الأشجار، ويكون ذلك بإنشاء مراكز فنية في مناطق معينة، ينطلق منها (التشجير) إلى داخل البلاد. هذا من الناحية الفنية، أما من الناحية النفسية، فإننا نحتاج إلى أن تصبح الشجرة رمز رجل البلاد المهددة بالرمال في إرادته للبقاء، بل ليكن لنا يوم للشجرة، يكون عيداً يتمثل فيه كفاحنا ضد الرمل الذي نرى خطره اليوم في غالب بلاد العروبة والإسلام.
لن نستطيع إنقاذ ذريتنا من الأجيال القادمة إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلنا الحاضر، وعندما تتحقق تلك المعجزة التي تكون بانتصارنا على أنفسنا وعلى أهوال الطبيعة، فإننا سوف نرى أية رسالة في التاريخ نحن منتدبون إليها، لأننا نكون قد شرعنا في بناء حياة جديدة، ابتدأت بالجهود الجماعية بدل الجهود الفردية، ولسوف تظهر أمامنا بعد ذلك أعمال جليلة خطيرة، ولكنها لا تخيفنا، لأن شعبنا أخضع التراب ومهد فيه لحضارته، ولم يعد شعباً يخاف نوائب الزمن.