More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
فينبغي أن نحدد التجربة المطابقة لمقتضى الحال لكي نعلم (المسلم) علم الزمن، فنعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يومياً لأداء واجب معين، فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة، فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية، في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية. وسيثبت نصف الساعة هذا عملياً فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي؛ وهذه هي الحضارة.
ولكن العامل المهم من هذه العوامل جميعها هو: الزمن. فقد فرضت الحكومة عام 1948م على الشعب الألماني كله - نساء وأطفالاً ورجالاً - التطوع يومياً ساعتين، يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي بالمجان، من أجل المصلحة العامة فقط.
نعم، هناك واقع استعماري، هو ذلك المعامل الاستعماري.
أما هنا فنحن نريد أن نبحثه بحثاً علمياً في بلادنا، ولكي نتبع المقياس الصحيح في درس الاستعمار، نحتاج أن نراه في أعماق التاريخ، وأن نوسع نطاق البحث فيه، لأنه ليس
بالشيء الذي يخص علاقات الجزائر بفرنسا فحسب، ولكنه يهم بصفة عامة علاقات الحضارة الغربية بالإنسانية منذ أربعة قرون.
فنحن لا نرى الحكم الإسلامي قد استعمر، بما في هذه الكلمة من معنى مادي منحط، بل كان فتحه للبلاد كجنوب فرنسا وإسبانيا وإفريقيا الشمالية، لا لاستغلالها، ولكن لضمها للحضارة الإسلامية في الشام أو العراق.
غير أن المدنية الحاضرة تخطت الحضارة الإسلامية التي تحمل رسالة الإنسانية لتأخذ من الحضارة الرومانية روحها الاستعمارية، والمعمرون أنفسهم يعترفون بذلك من حيث لا يشعرون، إذ نسمعهم صباح مساء يردون أعمالهم إلى عبقرية الرومان، ومن هنا نرى أن الاستعمار قد رجع بالإنسانية في التاريخ ألف عام قبل الحضارة الإسلامية،
وأخيراً، فإن المعامل الاستعماري في الواقع يخدع الضعفاء، ويخلق في نفوسهم رهبة ووهماً، ويشلهم عن مواجهته بكل قوة، وإن هذا الوهم ليتعدى أثره إلى المستعمرين أنفسهم، فيغريهم بالشعوب الضعيفة ويزين لهم احتلالها، إذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر وفي منتصف النهار، لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم.
ونحن في هذا الفصل نريد أن نتعرض لمعامل آخر ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصبغة، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاته وأفكاره وحياته.
وبذلك تكون العلة مزدوجة، فكما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج، فإننا نرى في الوقت نفسه معاملاً باطنياً يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا.
ولقد كان نجاحهم منطقياً، فإن أنفسهم لم تكن معلولة من باطنها، ولم يكن من معوق داخلي يمسكهم عن التقدم، ويحط من قيمة أنفسهم بأنفسهم.
إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته،
«أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم».
والحق أننا لم ندرس بعدُ الاستعمارَ دراسة علمية، كما دَرَسنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر[36]
نعم إن مجتمعنا قد فقد توازنه القديم، وهو لا يزال يتذبذب ولا يعرف له قراراً حتى اليوم، وإننا لنشاهد عدم الاستقرار هذا في أنفسنا وفي تصوراتنا للأشياء، حين تختلف باختلاف الناظرين إليها.
فإننا حتى في علاقاتنا الودية والعائلية نعيش في وسط كأنه متألف من أجناس متعددة ومتأثر بثقافات مختلفة، إننا قد انزلقنا في المتناقضات بسبب تفكيرنا الذي لم يتناول الموضوع بأكمله وإنما أجزاء منه.
ولو أننا درسنا الحضارة بالنظرة الشاملة الخالية من الشهوات المبرأة من الأوهام، لما وجدناها ألواناً متباينة ولا أشياء متناقضة، ولا مظاهر متباعدة.
وما زالت هذه العقيدة الوثنية التي تقدس الأشخاص منتشرة في بلاد الإسلام لم نتخلص منها، وإن كنا قد فعلنا شيئاً فربما كان ذلك في استبدالنا وثناً بوثن، فلعلنا اليوم قد استبدلنا (بالرجل الوحيد) (الشيء الوحيد).
وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم، ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز (الأشياء الوحيدة) عن حل المشكلة... التي هي مشكلة الحضارة أولاً وقبل كل شيء.