النسيان: نعمة أو نقمة؟

alzheimer__s_disease_by_the_infinite_opiفي طائرة حملتني من جدة إلى لندن، جلست بجانبي مسافرة بدت متوترة قليلاً وتقوم بين حين وآخر بإمالة رأسها لمراقبة مسافرة أخرى، علمت لاحقاً بأنها والدتها التي بدت ضعيفة وشاردة الذهن وكأنها ليست معنا. أخبرتني ابنتها أن الأم مصابة بمرض الزهايمر (الخرف المبكر)، وأنه توشك على الدخول إلى مراحله النهائية. قالت: ” أحضرتها وزوجي إلى هنا لمدة خمسة أيام فقط..كنت أتمنى أن تتذكر المسجد الحرام قبل أن تضمحل ذاكرتها كلياً..للأسف لم يحصل ذلك!” وأضافت: ” أمي نسيت الكثير..الآن فقط بالكاد تتذكر أولادها وأحفادها واسمها..أمي ما عادت قادرة على الصيام ولا الصلاة ولا سائر العبادات..لكنها لم تنس الله..أسمعها في الليل أو حين تكون متعبة تردد “يا الله..يا الله” حتى لو لم أكن متأكدة من أنها تدرك من هو الله – جل شأنه- الآن..لكن لا شك أنه موجود في قلبها”.


تأثرت كثيراً بكلامها وأمضينا رحلة الخمس ساعات ونحن نتحدث عن هذا المرض المخيف وتأثيراته على الفرد ومحيطه، ودعوت الله أن يبارك في هذه البنية الصالحة التي اعترفت بأنها شيعت أمها وبكتها منذ زمن طويل، وأن ما تعتني به هي الصدفة التي كانت تسكنها أمها الحبيبة، لكنها ستواصل الاهتمام به مادام يحمل شيئاً من عبقها.


لوقت طويل بعدها ظللت أفكر في موضوع الذاكرة..والنسيان! كثيراً ما يقال بأن النسيان نعمة، فتخيلوا لو أننا لا ننسى كل ما جرى معنا من مصاعب وأحزان وأتراح وضيق وكآبة وألم منذ أن ولدنا وحتى نموت؟ تخيلوا لم أننا لا ننسى أية إساءة (صغيرة أو كبيرة) ممن حولنا في البيت والعمل والشارع؟ كيف سيعيش الزوجان معاً؟ كيف سيتواصل الأهل والأرحام والذاكرة تفيض بكل هذا الغضب أو الحزن؟ بل كيف سنعيش مع أنفسنا ونحن غير قادرين على نسيان أخطاءنا وإخفاقاتنا؟ الزمن فعلاً هو أفضل علاج أحياناً، بل قد يكون العلاج الأوحد للكثير من مشكلاتنا.


لكن حين يكون النسيان شاملاً وكاملاً، حين يتم عمل “فورمات” للذاكرة فتذهب كل الصور والملفات الصالحة والطالحة، السعيدة والحزينة، الأساسية والثانوية، حين تنسى من تكون ومن تحب، فهذا يعني أن جرعة النسيان العلاجية كانت زائدة بل مميته! وأصعب ما في الموضع ليس ألمك أنت، لأنك وقتها تكون قد نسيت حتى معنى الجوع والألم، وإنما ألم من تحبهم ويحبونك، وقد وقعوا تحت هذا الواقع المر حيث يرونك ولا يجدونك، يجالسونك ولا يعرفونك، فيصبحون مضطرين لتشييعك حياً.


نِعمُ الخالق تعالى لا تعد ولا تحصى، ونحن ما نفتأ نحمده على النعم الجلية كالسمع والبصر والصحة والرزق والأولاد، لكننا ننسى أن نشكره على نعم أخرى لن نشعر بوجودها إلا حين نستشعر فقدها أو نفقدها بالفعل!


فالحمد لله على نعمة النسيان والحمد الله على نعمة الذاكرة ..وكل شيء عنده بمقدار.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 16, 2015 08:26
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.