رواد الاستغراب (2) خير الدين التونسي

بعد الحديث عن بدايات علم الاستغرابولد في قرية قوقازية ثم اختطف إلى اسطنبول كما كان شائعا في ذلك الوقت، وكان من حسن حظه أن استقر أمره عند الباي أحمد حاكم تونس، فتلقى هناك التربية الدينية والعسكرية وأتقن الفرنسية، ورأى فيه الباي من النبوغ والنجابة ما دعاه إلى أن يستعمل هذه المواهب، فعهد إليه بإدارة المدرسة العسكرية، ثم صار موضع ثقته فاختاره سفيرا له في مهمة خاصة إلى فرنسا (1852م)، فبقي بها أربع سنوات، ثم عاد فعُيِّن وزيرا للبحرية وكان رئيس مجلس الشورى وعضوا في لجنة دستور 1860م، وأرسله الباي سفيرا إلى اسطنبول أكثر من مرة في مهمات سياسية كبرى (1859، 1864، 1871م)، رغم ما وقع بينهما من خلافات أدت لاستقالته من الوزارة (1862م)، إذ كان خير الدين يريد تقييد سلطة الباي طبقا لرؤيته الإصلاحية، لكن الباي اضطر للاستعانة به مرة أخرى وزيرا للداخلية والمالية والخارجية ثم رئيسا للوزراء (1873م)، واستغل هذه السلطة في تدشين حركة إصلاحية واسعة إلا أنه لم يستطع موازنة الضغوط الخارجية الثلاثية الأطراف: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، مع ضعف تونس وصغر حجمها ومواردها، فكانت فرصة للباي الناقم عليه تقييد سلطانه، فذهبت عنه الوزارة بعد أربع سنوات (1877م)، لكن لم تمضِ أشهر حتى كان خير الدين قد استقر في الأستانة التي يحكمها السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان قد قرأ كتاب خير الدين "أقوم المسالك" وأعجب به، فعينه صدرا أعظم (رئيس وزراء)، ثم لم يمض العام حتى كان عبد الحميد يقصيه (1879م) لذات الأسباب التي أقصي بسببها في تونس، فعاش في شبه عزلة حتى وفاته التي جاءته بعد عشرين سنة من هذا التاريخ (1899م)وبخلاف الطهطاوي البعيد نسبيا عن دوائر السلطة والغزير الإنتاج، كان خير الدين مشتبكا مع السلطة وليس له إلا هذا الكتاب الوحيد "أقوم المسالك في معرفة الممالك"، بخلاف وثائقه ومذكراته التي نشرت بعد موته. ويحلو للباحثين أن يجمعوا بينه وبين ابن خلدون من حيث اتفاقهما في الأصل التونسي والتقلبات السياسية التي جرت عليهما وفي طريقة تصنيف الكتاب (مقدمة فيها الخلاصة، ثم سرد) وفي العزلة التي صُنِّف فيها الكتابان.
لكن ما يجمعه بالطهطاوي كثير، أهمها هو تلك النظرة الفاحصة للغرب والتي تؤكد على أهمية التعلم مما وصلوا إليه دون أخذ ما عندهم من ضلالات، وأن هذا الفصل بين الأمرين ممكن وسهل، وأن مفتاحه في السياسة والتربية (والتربية تشمل التعليم في مصطلحهما)، وقد كان موقع الرجلين من السلطة مما وجه نظرهما إلى التركيز على ما ينبغي أخذه للانتفاع به في الشرق، لذا لن تجد كثير تركيز على أمور أقل أهمية كالفنون والآداب والأشعار الغربية وما هو من خصوصياتهم. فكانوا أكثر اهتماما بما ينفع وأقل اهتماما بالنقد وإبراز المعايب، على عكس الرحالة الذين عاشوا مطلع القرن التاسع عشر، وذاقوا طعم الغرب كمحتلومثل الطهطاوي كان خير الدين يرى أن التفوق الغربي راجع في أصله إلى النظام السياسي، حتى لقد افتتح كتابه بقوله: "سبحان من جعل من نتائج العدل العمران"وصرح أن سبب نكبتنا يؤول إلى: الأمراء والعلماء، إذ "لا يظهر لملوكها سبب قوي في الامتناع (عن الإصلاح) إلا حب الاستبداد الموصل للشهوات"وشدد في عدد من المواضع على أن الأخذ بالعلوم يعود على السياسة بالقوة، فبالعلوم "نَمَتْ نتائج الأيدي واتسعت دوائر مُتَّجَر الإنجليز وثروتهم وارتفع شأن السياسة"وكان خير الدين منتبها إلى مآل هذه الفجوة العلمية، وهو احتلال البلاد الإسلامية، فكأنه يصرخ وهو يقول: "ولا يخفى أن البقاء على هذه الحالة مما يعظم خطره وتُخشى عواقبه، سمعت من بعض أعيان أوروبا ما معناه أن التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا أخذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق"ونادى بالحل، وأنه في الشورى التي أمر الله بها رسوله مع وجود الوحي لتكون "سنة واجبة على الحكام بعده"وأكد على أن الأمة تملك ما يميزها، إذ إن الشريعة الإسلامية هي "اللائقة بكل زمان"وفي مجال السياسة كان خير الدين أقوى وأكثر صراحة من الطهطاوي، وإن اعتُذِر للطهطاوي بوجود الجبار محمد علي بينما لم يواجه خير الدين سلطانا له كل هذا الطغيان.
نشر في نون بوست 

راجع: "الاستغراب" في كتابات العرب نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج1) نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج2) انطلاقة "الاستغراب" وروَّاده الأوائل انظر في ترجمة خير الدين التونسي وآثاره: ألبرت حوراني: الفكر العربي ص109 وما بعدها، فنديك: اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ص414، عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 4/133، وانظر مقدمة د. محمد الحداد للطبعة الجديدة من كتاب "أقوم المسالك" ص23 وما بعدها (ط دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني). برغم أن الطهطاوي كان في فرنسا وقت احتلالها للجزائر إلا أننا لا نجد له حديثا في الموضوع، ولا ندري هل هذا لقلة المعلومات لديه عما أحدثوه في الجزائر؟ أم لأنه لم يشأ أن يغضب محمد علي ذا العلاقات القوية مع الفرنسيين؟ أم لأنه كتب رحلته في بلادهم فخشي منهم ثم لم تسعفه الظروف –أو لم يشأ- أن يغير في الرحلة بعد ذلك؟ خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص2. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص5. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص8. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص49، 50. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص50. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص3. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص6. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص5 وما بعدها. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص60. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص16، 17. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص50. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص11. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص41. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص2. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص3. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص42. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص4، 49. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص4.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 08, 2015 13:28
No comments have been added yet.