رواد الاستغراب (3) أحمد فارس الشدياق

في إطار الحديث عن علم الاستغراب وروادهفأما أحمد فارس الشدياق فهو العلامة النابغة اللغوي الأديب المشهور، وُلِد مسيحيا مارونيا في لبنان، وعمل في نسخ الكتب وفي التجارة أحيانا، ثم تحول أخوه أسعد إلى المذهب الإنجيلي فعانى من اضطهاد الكنيسة المارونية حتى مات قهرا، فالتجأ إلى المنصرين الأمريكان فبعثوا به إلى مصر، فوصلها في عهد محمد علي (1825م)، وقد نبغ فيها حتى تولى تحرير جريدة الوقائع المصرية، ثم بعثت به الإرسالية الأمريكية إلى مالطة (1828م) فعلَّم اللغة العربية وقضى بها أربع عشرة سنة (1834 – 1848م) وسجل ذلك في "الواسطة في معرفة أحوال مالطة"، ثم دعي إلى انجلترا، فمرَّ في طريقه على فرنسا، وفي بلاد الإنجليز ترجم التوراة والإنجيل إلى العربية فذاعت شهرته، ثم أقام في فرنسا، واهتم في أوروبا بمطالعة المخطوطات العربية في مكتباتها، وكتب عن أوروبا "كشف المخبا عن فنون أوروبا" ثم اتصل بباي تونس، ومدحه بقصيدة رائقة، فاستدعاه للعمل في بلاطه، فذهب إليه وتولى تحرير جريدة "الرائد"، وهناك أسلم فسمى نفسه أحمد فارس وتكنى بأبي العباس، ونظم قصيدة رائقة عن حرب الدولة العثمانية وروسيا فلفتت إليه أنظار السلطان عبد الحميد فاستدعاه إلى اسطنبول فقضى بها زمنا وأسس فيها جريدة "الجوائب"، وبها توفي (1887م). وأما مؤلفاته فهي غزيرة كثيرة، وهي مشهورة بين أهل الأدب لما تميز به من طبع وموهبة أدبية مدهشة، منها المطبوع ومنها المخطوط ومنها المفقود ومنها ما احترق ولم يصل إلينا، لكن إنتاجه عن الغرب أكثره -فيما نعلم- في كتابيه "الواسطة" و"كشف المخبا"، وفي سيرته الذاتية "الساق على الساق"، وما بقي من تراثه فإن فيه شذرات متضمنةوكان الشدياق هو الأكثر هجوما على الغرب ونقدا لما فيه، وكان أعلى رفيقيه صوتا وأشدهم حدَّة، وأكثرهم تنبها ويقظة لمشكلات التمدن والتقدم العلمي وعيوبها، حتى أفرط في ذلك وتجاوز حد الاعتدال، ولعل الاختلاف بينه وبين الطهطاوي وخير الدين كان في أنه أديب ناقد لم يقترب من سلطة ولم تكن له صلاحية تنفيذ فلم يكن له مشروع إصلاحي فكان صراعه مع الغرب فكريا أكثر منه عمليا، فيما كان الطهطاوي وخير الدين أكثر تنبها لمواضع التميز والتفوق الغربي وكيفية الاستفادة منها لأنهما كانا أقرب إلى مواقع السلطة، ويملكان بعضا من القدرة. لكن نعود فنقول إن ما انتبه إليه الشدياق وسجله إنما هو ذو قيمة تاريخية كبرى، وبه كان أكثر معاصريه تحررا من سطوة الغرب والانبهار به، وأكثرهم يقظة لما خلف الوجه الجميل من عيوب ومشكلات، وهو أمر كان ضروريا أن يُعرف للشرق في زمن يصطدم فيه بالغرب للوهلة الأولى.
ورحلات الشدياق أمتع الرحلات جميعا، لما له من أسلوب ممتع وملاحظات بديعة واهتمام بالأمور الصغيرة والفوارق الدقيقة، ثم وصفه لكل ذلك بعبارة متفننة متظرفةوصف الشدياق كيف أن لندن مدينة حقيرة قذرة متهالكة البيوت كئيبة من الخارج، ولكن معيشة الإنجليز طيبة داخل البيوت على عكس باريس المبهرة من الخارج بينما بيوتها في الداخل أقل في المرافق من لندنلقد تحدث الشدياق بعبارات في غاية الإيلام والقسوة عن الأحوال البائسة للطبقات الفقيرة كالعمال والفلاحين الإنجليز، وعما يعانونه من مآسٍ وفظائع، وكيف أن كل الأشياء في لندن إنما "هي مجعولة لحظ الكبراء... فإن كل شيء هنا معني به اسم العلية"وقد عدد الشدياق كثيرا من مظاهر الاستغراق في المادية، حتى إن الرجل لا يعرف جاره سنين عددا لانشغالهوفي غمرة ما يصفه من مشكلات تشيع في الغرب تصدر عنه أقوال نحو: "فإن كان التمدن والعلم قد سبَّب هذا، فالجهل إذن سعادة! غير أن الفلاحين هنا في غاية الجهل زيادة على بؤسهم"وعلى رغم الهجوم المسيطر على الشدياق إلا أنه أثنى على العديد من الأمور في الغرب، ومنها الجدية والنظام والشورى وحسن الترتيب والتنظيم وعمل المؤسسات والأمن على الأطفال والبنات أن يسيروا في الطرقات، وذهاب الخوف والرهبة من الشرطة، واحترام الشرطة لحرمات الناس والبيوت، وأن هذا يزرع فيهم الإقدام والجرأة والشجاعة، وقلة كلام الإنجليز وقصدهم إلى الغاية ووفائهم بالوعدويبدو الخلاف الذي ذكرناه بين الشدياق وبين الطهطاوي وخير الدين واضحا في أمور بعينها؛ منها "المسرح" الذي أبصر فيه الطهطاوي وخير الدين أنه وسيلة تعليمية بديعة وأنها "من المجامع المعدة لتهذيب الأخلاق"وهكذا رأى في كل شيء لوازمه، فرأى في بلادة الإنجليز أنها "مقرونة بشيء من سلامة الصدر وخلوص النية، كما أن فطنة الفرنسيين مقرونة بالمكر والمحال"وإذا نقد الشدياق الدين أو رجاله فإنما نقده عائد على المسيحية ورجال الكنيسة، الذين اضطهدوا أخاه أسعد وحبسوه حتى مات في محبسهوبعد..
فإنه يلفت النظر أن أوائل الرحالة العرب إلى الغرب، كانوا على هذا القدر من الرسوخ والثبات والاعتزاز بالإسلام، كما كانوا على هذا القدر من التبصر بالغرب وإدراك ما تحت وجهه المبهر، مع تحليل أسباب القوة والدعوة إلى الإفادة منها.
وفيما نعلم فإن هذا لم يتحقق في غير العرب، فإن أول هندي مسلم يزور بلاد الغرب (أحمد خان، ذهب إلى بريطانيا، إبريل 1869م) قد افتتن وانبهر حتى ألحد وعاد إلى بلاده ساعيا لتحريف الدين، وقد فُسِّر هذا بوقوع الاحتلال الذي يجعل المغلوب مولعا بتقليد الغالبنشر في نون بوست 

راجع: "الاستغراب" في كتابات العرب نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج1) نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج2) انطلاقة "الاستغراب" وروَّاده الأوائل انظر في ترجمة أحمد فارس الشدياق وآثاره: طنوس الشدياق: أخبار الأعيان في جبل لبنان 1/120، شيخو: تاريخ الآداب العربية ص212 وما بعدها، فنديك: اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ص405 وما بعدها. وانظر مذكراته الموسعة: الساق على الساق فيما هو الفارياق (أو) أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام.وثمة اضطراب في بعض التواريخ بين المصادر، وضعنا هنا منها ما ترجح لدينا فيها. انظر مثلا: مقارنته بين تأجير المنزل في لندن وباريس، المال والطعام والخدمة والتعامل مع المؤجر في: أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص341. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص229. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص273، 341 وما بعدها. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص350، 271، 272. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص343. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص343. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص272. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص348. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص347. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص85. أحمد فارس الشدياق: الساق على الساق 2/224 وما بعدها. أحمد فارس الشدياق: الساق على الساق 2/227. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص116. أحمد فارس الشدياق: الساق على الساق 2/226 وما بعدها. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص350. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص342. أحمد فارس الشدياق: الساق على الساق 2/227، 228. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص350. أحمد فارس الشدياق: الواسطة ص4. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص148 وما بعدها. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص228، 229، 255 وما بعدها، 273، 274. أحمد فارس الشدياق: الساق على الساق 2/274. خير الدين التونسي: أقوم المسالك ص54. الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن "الأعمال الكاملة" 2/143. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص308، 309. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص116. أحمد فارس الشدياق: الساق على الساق 2/274، 275. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص275. أحمد فارس الشدياق:  الساق على الساق 1/133 وما بعدها. أحمد فارس الشدياق: كشف المخبا ص256. الندوي: موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ص40 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 11, 2015 07:20
No comments have been added yet.