عالقون في الاستعارة
عندما نقول أن فلانا أسد، فإننا نقول ضمنا أن فلانا في الشجاعة مثل الأسد. لذلك فإن سؤالا من قبيل: هل فلان حيوان بالتالي مثل الأسد؟ أو هل فلان له فراء وأنياب مثل الأسد؟ هذه الأسئلة لا يكون لها معنى.
لكن لننظر إلى مثال آخر أبعد غورا: عمان أمنا جميعا. ماذا نقصد بالضبط؟ هل هناك رحم لعمان؟ هل رحم عمان دافئ كرحم الأم؟ ويمكن أن نمتد في أسئلتنا التي بلا معنى إلى نهايات مضحكة: هل لعمان سوائل مماثلة لما في الرحم؟ هل نحن أولاد شرعيون؟ من هو الأب؟ ولكن عادة لا يحدث لبس في مثل هذا الكلام، فلماذا لا يحصل لبس؟ لنفكر سويا: لا يحدث لبس لأننا نستطيع وضع حدود واضحة لكلا الأمرين، فعمان: تلك القطعة من الأرض التي نعيش عليها، والأم: جنس الحيوان (ومن بينها الإنسان) الذي يقوم في إعضاء خاصة فيه بانتاج الحيوانات الجديدة (الأطفال)، وبالتالي فإننا إنما نأخذ صفة واحدة من صفات الأم، أو أكثر من صفة أحيانا، ونستعيرها للدلالة على صفة من صفات الأرض التي نعيش عليها (عمان). لكننا نعرف حدودنا ولا نستمر في المشابهة إلى أبعد من ذلك. وكلما كانت الصفات الموجودة في المجال المصدر(الأم هنا) والصفات الموجودة في المجال المستقبل (عمان هنا)... كلما كانت الصفات المتشابهة أكثر أو أشد توافقا كلما قلنا أن الاستعارة التي صنعناها أفضل. فعمان أمٌ لأنها تحتضننا ولأنها دافئة ولأنها تحبنا ولأنها ترعانا وتطعمنا. بيد ان الحدود تظل واضحة. وإنما نتواطأ سوية، القائلُ والمقولُ له، على الكلام. والكلام بهذا المعنى عملية تواطؤ لأن ما لا يقال في الكلام كثير.
ماذا لو قلنا أن الحياة ثقيلة؟ فالحياة هنا مثل شيء مادي له وزن أو كتلة. هل الحياة فعلا لها هذا الشكل المادي؟ وكيف يمكن أن تشبه الحياة (بهذا المعنى التجريدي) الشيء المادي؟
اليوم طويل: اليوم شيء مادي يمكن قياسه. اليوم مر علينا سريعا: اليوم شيء مادي يتحرك بينما نحن واقفون وكأننا نراه. المشكلة هنا أن الأمر الأول الذي هو اليوم أمر تجريدي، وإنما ندلل عليه بشيء مادي. فما هو اليوم؟ الوقت من شروق الشمس حتى شروقها علينا مرة أخرى. وما هو الوقت؟ حركة عقارب الساعة؟ دوران الأرض حول نفسها مرة واحدة؟ إننا عبثا ما نحاول أن "نقبض" على ماهية الزمن ولكننا في النهاية إنما نقبض على استعارات. وهنا نقبض على استعارة الزمن\ حركة. ولكننا لا نعرف ما هو الزمن حقيقة. الزمن كالسيف: استعارة الزمن\أداة حادة تقطع. الزمن يُسرع: استعارة الزمن\شيء مادي يتحرك. الزمن ثقيل: استعارة الزمن\شيء مادي له كتلة كبيرة.
وقس على ذلك كل المجردات: الأخلاق، الحب، الروح ، العلم، السمو، الشجاعة، النزاهة، الطهارة الأخلاقية، التوهج. الذكاء. وقد نرى هنا أن بعض هذه المجردات مجرادت خالصة، بمعنى أنه لا يوجد لها شق مادي في أصلها، أو كما قلنا سابقا ليست لها حدود واضحة أبدا، وهذا ينطبق تماما على الزمن. لكن هناك من سيجادل ان للحب شق نستطيع أن نحدده؛ فالحب يُحدِث تغييرات جسمية محسوسة، مثل ارتفاع دقات القلب وازدياد سخونة الجسم، والشجاعة تؤدي إلى نتائج مادية ملموسة، كتحطيم الشيء الذي يقف أمام الشخص المتصف بالشجاعة.
إن الاستعارة هنا تصنع التجريد ولا تقارنه فقط بشيء آخر. فحينما أقول أن أخلاقك عالية فإنما استخدم استعارة الأخلاق شيء يمكن أن يكون في مكان مرتفع أو منخفص. ولأن عالمنا العقلي كله مبني على التجريد فإن الاستعارة تصنع عالمنا وحياتنا.
انظر لأقوالنا: سأسلط الضوء على فكرتي: استعارة الفكرة\ شيء مظلم يحتاج إلى تسليط الضوء عليه. أنا واقع في الحب: الحب \ مكان منخفض حوافه مرتفعة مثل حفرة. أنا منجذب إليك: أنت\شيء جاذب مثل مغناطيس. لقد خرجتَ من الإسلام: الإسلام\حاوية، وأنت قمت بالحركة من داخل هذه الحاوية إلى خارجها.
إن هذا يوصلنا إلى استنتاج غاية في الأهمية وهو أننا إنما نُسقط تجاربنا المادية على عقولنا. أي أن أفكارنا وعالمنا غيرالمادي إنما هو انعكاس لتجاربنا المادية.
هل يعني هذا شيئا كبيرا أو مهما؟ أليس هذا فقط معناه أنه بالكلام المتقدم نحاول أن نشرح كيف تتركب المعاني داخل أدمغتنا وحسب؟ نعم، إننا نفعل ذلك حتما ولكن القضية الأكبر هي أننا لا نستطيع الفكاك من الاستعارة. إننا عالقون في الاستعارة. ونحن عالقون لأن تفكيرنا يتغير بتغير الاستعارة التي نستخدمها. وعلى هذا فإن أي شيء(معنوي) يمكن أن يكون أي شيء (مادي).
وانظروا إلى النتيجة التالية: إن لم نتوافق على الاستعارة سنكون في خطر الاختلاف ، فكل سيمضي باتجاه استعارته. الحب حفرة ( وقعت في الحب) وهو مغناطيس (جذبني حبها) وهو شيء متحرك (صدمني حبها) وهو طقس بارد ( وقف جسمي بسبب حبها) وهو سكين (قطعني حبها)، أما إذا توافقنا على الاستعارة فإننا قد نتوهم أنها حقيقة. لنأخذ مثالنا الأكثر شهرة : الزمن بطيء، الزمن يمر علينا سريعا، عمرنا يتقضى، ليل طويل، إننا نكاد نتفق عالميا على استعارة الزمن\حركة ، فهل فعلا الزمن حركة؟ أليست هذه مجرد استعارة؟
ملاحظة: تدين هذه الشذرة لكتابين: كتاب الدكتور عبدالله الحراصي المعنون بـ" دراسات في الاستعارة المفهومية"، وكتاب جونسون ولاكوف المسمى "الاستعارات التي نحيا بها".
حسين العبري's Blog
- حسين العبري's profile
- 32 followers
