مكة..القصص التي لم ترو بعد

makkah1


 تدور الأفكار في ذهني في كل مرة أحضر فيها مناسبة ما في مكة المكرمة أو لأهلها خارجها. يلفت نظري هذا الخليط العجيب من الأجناس والأعراق والألوان والأشكال، التي ليس فقط تعايشت مع بعضها كما تروج بعض الدول الصناعية الكبرى لمدنها الشهيرة مثل لندن وباريس ونيويورك بأنها اليوم عبارة عن مجتمع متعددة الثقافات، بل في مكة هذه الجموع بالفعل امتزجت وتصاهرت وانصهرت في بوتقة واحدة منذ قرون عدة، وأنجبت أجيالاً جديدة متعاقبة.


ففي العائلة الواحدة تجد هذا يماني الأصل، وذاك بخاري، وثالث هندي، أو أندونيسي، أو تركي، أو عراقي، أو شامي، أو مصري، أو أفريقي، وصولاً إلى من تنحدر أصولهم من الصين وأفغانستان وبلاد فارس وروسيا. ويبرز السؤال هنا: هذه الأعراق المتعددة، كيف وصلت – من كل حدب وصوب- إلى هذا الوادي غير ذي الزرع قبل عصور الطائرة والسيارة والملاحة الحديثة؟ كيف قطع هؤلاء القادمون براً من أواسط آسيا مثلاً هذه الصحاري المهلكة والطرق المرعبة قبل أن يحطوا في مكة؟ هل كانوا يفرون بدينهم من بلدة ظالم أهلها إلى رحاب البيت العتيق وجعلهم هذا الخوف يستصغرون كل هذه المصاعب للوصول إلى بر الأمان؟


لماذا يختار آسيويٌ أن يترك بلد الخضرة والماء والوفرة آنذاك ليستقر في هذا البلد الصحراوي الفقير الذي لا ينتمي لعرقه ولا يعرف لغته؟ كيف كانت البداية؟ كيف بنوا أعشاشهم الجديدة؟ كيف مددوا شبكة علاقاتهم الاجتماعية مع الأعراق الأخرى ومع من كانوا يعتبرون –آنذاك-أهل مكة؟ والسلطات الحجازية المتعاقبة كيف استوعبتهم؟


شاء الله تعالى أن تكون مكة قبلة ومحجاً سنوياً، إذ يفد إليها الجميع من كل فج عميق، ليذكروا الله ويتبادلوا المنافع بشكل دوري منتظم، لكن هذه الهجرات الرائعة جعلت من مكة المكرمة محجاً دائماً، تلمح في كل شارع وناصية وجهاً متفرداً، ولوناً مختلفاً، وعرقاً متداخلاً.


من اللافت للانتباه بأن كل الذين كتبوا ويكتبون عن مكة في صحافتنا، يختارون في الغالب أن يكتبوا عن مكة الدينية، عن المسجد الحرام والحج والعمرة ورمضان والمشاعر، أو عن مكة التجارية والمتمثلة في المشاريع والشركات التي تدر الدخل من السياحية الدينية، لكن عدداً قليلاً جداً من الإعلاميين عموماً والكتاب والصحفيين على وجه الخصوص يكتب عن مكة الأرض والناس، مكة التاريخ والتراث والثقافة، مكة المتنوعة المدهشة.


هذا التنوع الفريد، هو الذي جعل مكة حتى الأمس القريب أميز وأشهر حواضر الجزيرة العربية عامة والسعودية خاصة في العلم والمعرفة والثقافة والأدب والفن. بل حتى السفرة المكية اليومية عامرة بالطيبات من كل شيء، ففيها التميز الأفغاني جمباً إلى جنب مع الأرز البخاري، ومعهم الكبة اللبنانية، والملوخية المصرية، والعصيدة اليمنية، وهو تنوعٌ لا تكاد تلمحه في الجزيرة العربية ككل خارج منطقة الحجاز.


في العائلة المكية الواحدة قد تجد الأشقر والأسمر والأحمر، ولا يبدو المنظر لا مستهجناً ولا غريباً، فهذه مكة وهذه واحدة من حكايتها التي لم تروى بعد لأهلها قبل الآخرين. فمناهج التاريخ المدرسية تركز على مكة الجاهلية وصدر الإسلام ثم تنتقل فجأة للعصر السعودي الأخير، لكن هناك ما يزيد على الألف عام من التاريخ الذي ليس له ذكر. إنه تاريخي وتاريخك، وتاريخ الأهل والأجداد، الذي مازلنا ننتظر أن يُروى، بكل إشرقاته وإخفاقاته، كرواية لازالت تتوالى فصولها.


اليوم تخرج من مكة صحيفة جديدة، وهي تحمل اسم العاصمة المقدسة، وتحمل في طياتها تاريخها وحاضرها ومستقبلها، ولأنها “مكة”، فلا يمكن إلا أن تقارب الإبداع والتنوع الذي يغمر كل شبر من جغرافية أم القرى، وتلتزم بالتميز الذي يصبغ تاريخها المجيد. ولأن النور خرج من مكة ليضيء الجزيرة العربية ومن ثم العالم، فكذلك رسالة مكة الصحفية ستنطلق من جوار الحرم لتغطي وتستوعب كل شبر من الوطن الغالي المملكة العربية السعودية، ومن ثم تتعداها للمحيط العربي والإسلامي والدولي.


واقع مكة المكرم كمدينة، قد يكون اليوم ليس كما يأمل أهلها ومحبوها وعشاقها على صعد مختلفة، إلا أن صحيفة مكة قررت أن تكون الاستثناء، وأن تؤسس من مدرسة جديدة في الصحافة السعودية والعربية. وهذه المدرسة لا يجدر بها إلا أن تبدأ من مكة، التي كان لها السبق في إصدار أولى الصحف في بلادنا بدءاً من صحيفة “صوت الحجاز” و”القبلة” و”بريد الحجاز” مروراً ب” حراء” ووصولاً ” الندوة”، التي صدرت عن مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، التي تصدر منها اليوم صحيفة مكة كذلك.


قد تتغير الأزمنة والعصور، وتتبدل الأحوال والدول، ويظل القاريء المكي وفياً للحرف، ذواقاً للكلمة، ومتطلعاً للأفضل، ولهذا فالمأمول أن يجد في جوانب هذه الصحيفة التي بدأت مسيرتها العامرة في هذا الأسبوع المبارك ما يتمنى وأكثر، سواء كان ذلك على صعيد المعرفة، أو السبق الصحفي، أو أمانة الكلمة، أو شمولية المحتوى، أو وسطية الطرح، أو تنوع المتعة، وصولاً إلى الاخراج المتميز، والتصميم الجذاب ورقياً وإلكترونياً.


المدرسة الصحفية الجديدة التي ستنتهجها الصحيفة الوليدة، وقد استلهمت من روح مدينتها، لن تبدأ من حيث بدأ الآخرون بل من حيث انتهوا، وهي تتعلم ممن سبقوها في الغرب قبل الشرق، ووضعت لها سقف طموحات عال، وهي قادرة بتوفيق الله عزوجل أولاً، وجهود المخلصين ثانياً، أن تصل إليه بل وتتجاوزه، رغم تعدد الصعوبات في عصر التسارع الرقمي، وفي ظل النبؤءات السيئة التي تبشر بدفن الصحافة الورقية مرة أخيرة وإلى الأبد.


فالتحدي بدأ وسيستمر ما دامت هذه الجريدة بإذن الله تصدر وتُقرأ.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 21, 2014 01:06
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.