حتى لا نصبح أشجاراً لعام آخر
تحتل الأيام من مساحة وجودنا الكثير، لأنها تلعب معنا لعبة الوقت، وتمتص منا رحيق العمر. الأشياء تأتي وتذهب، والشيء الذي تتمحور حوله حياتك، الذي هو أنت، يقف كجذع جذوره في الأرض وفرعه في السماء، تلتقط نداه الأرض وتقطف ثماره الأيدي الحانية، والأيدي الغاشمة على حد سواء. أتصور أن الشجر يحب أن تقطف ثماره يدٌ سقته واعتنت به، هو يحب أن يشعر أنه يبادل تلك اليد العطاء، وعندما تقطفه يد تتربص لحظة نزعه أو تقطيعه، فإنه يعيش على أمل أن تسقط ثماره سريعاً، وفاء لدود الأرض وحشراته، تلك التي تمنع عنه غدر الطفيليات، وتساعد الأرض على إثراء غذائه، وتمكين جذوره فيها. لا بأس أن يموت يوماً ما، لكن المهم بالنسبة للشجر أن يموت واقفاً شامخاً.
لو كنا شجراً، لكان من السهل أن نعلق آمالنا على ما تحمله الريح، وتسقطه السماء، وتنضح به الأرض، ولكان تعلقنا بالمكان أمراً مفروغاً منه. لكن الله جعل لنا أقداماً تحركنا، وتعطينا قدرة الانتقال إلى حيث يمكن أن نجد بيئة أفضل. ذلك أننا لو عذرنا في مصائرنا، لكان سهلاً علينا أن نتخلى عن مسؤوليتنا تجاه أنفسنا، ولولا مسؤولية الإنسان عن نفسه، لما استحق أن يحكم ما حوله. ولولا أن لنا أقداماً، لكنا كالشجر نموت وقوفاً في معظم الأحوال. إنها لعنة التنعم بالحراك والحرية. إنها لعنة أننا لن نموت إلا حيث تضعنا أقدامنا، فإما أن نموت على بستان أخضر، أو على رمضاء جرداء، أو أن نموت مستسلمين ليد القاطع أو النار التي يحملها. لن يسقط في يدنا مصير نكرهه إلا بعد أن نستسلم له، فإن متنا ونحن نقاتل من أجل مساحة أقدامنا، فكأننا روينا الأرض بأجمل وأهم ما فينا، لبرعم ينبت من تحت أقدامنا، فيلقي بظلاله الوارفة على شواهدنا، يخلد كفاحنا ووجودنا الذي كان، وبقي ليحيط زهور وأغصان الغد.
نحن نشبه الأشجار كثيراً، لكننا لا أن نملك أن نستعير من هذا الشبه كل شيء. تمضي الأيام ويأتي حصاد كل عام، لكننا لا نزال نملك قدرة أن ننتقل إلى حيث يمكن لأوراقنا أن تينع وثمارنا أن تدنو. نحن نملك حق أن نختار هواءنا الذي نتنفسه، وظلال الغيم التي يمكن أن تسقينا. نحن حتى نملك حق اختيار اليد التي تلامسنا وتنزع منا أجمل ما تجود به أجسادنا وعقولنا وأرواحنا. لو أن أقدامنا رفضت الحراك، وتعلقنا بالأرض التي نشأنا فيها، لأصبح لزاماً أن نغير واقعها، ولأن تغيير الواقع يبدأ منا، فإننا غالباً سنروي الأرض من حياتنا وعمرنا حتى وإن أدى ذلك إلى أن نموت من أجل إثراء تربتها.
لست بما ذكرت أسقط الصورة على المفاهيم التي تسيطر علينا وتجعلنا أسرى لتعاريفها. لست هنا أصنع استعارات للمواطنة، للأمل، لحق المصير والعيش، للسياسة، للثورة أو القيم. ولست فقط أسقط ما قلت على الحب والزواج والأسرة والصداقات. هي فكرة جميلة أننا نشبه الأشجار، لكن يجب ألا ننسى أننا نختلف عنها أيضاً. تقول الراهبة تيريزا إن الله صديق للصمت، وإن الطبيعة انعكاس جلي لوفاء الشجر والزهر والحشائش لبركة الخالق. لكن الفيلسوف شاناكيا يقول أيضاً إن الشجر الأكثر استقامة يقطع أولاً، ولذا فالبشر المستقيمون هم على شاكلته، وهو يدعو بذلك البشر ألا يكونوا نزيهين أكثر من اللازم، حتى لا تشي استقامتهم بالدعوة للقطع. طاغور قال إن الشجر هو السعي الحثيث للأرض أن تُسمِع الجنة التي تنصت إلينا. لكن لأننا لا نشبه الأشجار في كل شيء، فإن وقع أقدامنا هو نداؤنا الذي ينتظر من الجنة أن تستجيب له.
نحن الآن على أعتاب عام جديد، تقف أقدامنا وإحداها مرفوعة لتطأ أرضاً جديدة. كن حريصا ألا تطأ مكانك، وكن آملاً أن تتجه بخطواتك إلى حيث تريد. ليس الأمل أن ترى النور، بل أن تقترب منه، لأنك كلما اقتربت منه سيشع عليك أكثر. وإن كان مكانك الذي تقف عليه حالك السواد، فهذا أدعى أن تهرب منه إلى حيث يمكن للنور أن يصل. عندما تكون واقفاُ وسط الظلام، دع كل شيء ورائك وابحث عن مخرج إلى النور، فإن كان هناك من شيء يستحقك، فهو بلا شك سيتعلق بقدميك، فهو كما أنت، بحاجة للنور ليكبر وينمو. ستترك ورائك بعضاً من الأصدقاء وستتخلى عن بعض مما تعتقد أنه لا يمكن تعويضه، لكنك دون شك ستترك خلفك كل أعدائك وخصومك يلهثون. وإن كنت لن ترى النور بعد، وهو أمر محتمل، فقد كسبت شرف المحاولة، وزدت من فرصتك التي كانت شبه معدومة وأنت محتجز في سجن من السواد، وجذورك عالقة في أرض تمتصك أكثر مما تمتصها.
تدوينة جديدة: حتى لا نصبح أشجاراً لعام آخر ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.


