فلسطين: الأديان والطبقات : كتب ـ عبدالله خليفة
كأغلبِ الشعوبِ العربية عجزَ الحراكُ الاجتماعي الاقتصادي الفلسطيني عن إنتاجِ طبقة وسطى حديثة حرة، وتجسد الصراعُ الاجتماعي القاصر في دولةٍ مهيمنة ذات شكل سياسي مسيطر، وفي مذهب مُقسِّمٍ ومسيطر على جزء آخر من الشعب قطع جزءًا من الأرض الفلسطينية وكون دولة، فظهر التناقض الاجتماعي الحاد في كيانين حكوميين سياسيين (فتح وحماس)، يُظهران هذا العجز التكويني الطبقي الاقتصادي، ويظهران ضرورة تجاوزه كذلك.
الوعي الأول يجري بعباءةِ السياسة الوطنية والآخر بعباءة الدين المتحول إلى مذهب مسيس، ولكن فلسطين تمثل تجربة أكثر ضعفاً من الناحية التكوينية من بقية الدول العربية بسبب تشتت الشعب، ووجوده في مساحات سياسية مختلفة ومتضادة.
هنا لا توجد مؤسسات اقتصادية مركزية تاريخية متحكمة كبقية الدول العربية، إلا بشكل جنيني، بل توجد تجربة رأسمالية (حرة) في إسرائيل، حيث يعيشُ جانبٌ من الشعب الفلسطيني وحيث تم تشكيل تجربة السيطرة والاقتلاع الصهيونية.
تجربة إسرائيل لا تمثل تجربة رأسمالية حرة، كالعالم الغربي، فهي رأسماليةٌ حكوميةٌ طويلة عبرَ الشركات العامة والمستعمرات، ثم أسستْ دولةً دينية شمولية تجاه السكان العرب وتجاه الحركة العمالية، فظهرتُ الرأسمالية غير حرة تغيبُ عنها الديمقراطية، والعلمانية، فلم تتحول الدولةُ لمجتمعٍ تعددي ديمقراطي علماني، بل ظهرتْ كدولةٍ دينية عنصرية متفاقمة في هذا الطابع مع ضعف الحركات الديمقراطية العلمانية العربية والإسرائيلية على الجانبين. البرجوازية اليهودية ذات تاريخ اقتصادي مالي كبير في إنتاج جيتو (قومي – ديني) ومن هنا هي قادرة على تكوبن ديمقراطية داخل المجتمع الديني لا خارجه عند الشعب المسيطر عليه.
ولهذا فإن صعودَ طبقة وسطى حرة منتجة للديمقراطية في المجتمع الفلسطيني مليء بالصعاب، عبر الضعف الاقتصادي والتمزق السياسي والتشتت الاجتماعي، مما يجعل الاقتصاد الفلسطيني الصناعي ضعيفاً.
تتنوع الصناعاتُ الفلسطينية الخفيفة فهي صناعاتٌ غذائية وبلاستيكية وخشبية وصناعة لأحجار ورخام وأحذية وجلود وصناعات كيماوية وغيرها.
يصل عدد العمال الفلسطينيين في الضفة والقطاع إلى 648 ألف عامل منهم 227 ألف عامل عاطل عن العمل.
ويشتغل في إسرائيل عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين، واللاجئون الفلسطينيون في الدول العربية أغلبهم عمال وفقراء وحرفيون خارج الوطن، أي خارج التكوين الاقتصادي الوطني، وقدراته على إنتاج طبقة وسطى.
يوضح التكوين الاقتصادي التشتت وغياب المركزية والآلية الحديثة وسيادة الحرفيين والمُهمشين اقتصاديا وهي سماتٌ تترافقُ مع سماتِ الوعي السياسي المُفتَّتِ، ولهذا نلاحظ أن زمنَ التشتت الأكبر وسيادة سياسة المخيمات العسكرية، يتسمُ بطابع السياسة الفوضوية والارهابية، ووجود منحى وطني عقلاني ضئيل يعجزُ عن بلورةِ وتصعيد سمات الديمقراطية والعلمانية والوطنية، ومع تصاعدهِ وقدرتهِ على الحصول على الضفة والقطاع، يبدأ تجسيد وتجذير ذلك بصعوبات جمة.
لكن ظهور الانقسام بين فتح وحماس، بين الشكل السياسي للشمولية المهيمنة على السلطة، والشكل المذهبي السياسي للهيمنة على الدولة، يقسم الشعب الذي هو في حالة سيولة وعدم تشكل وتبلور.
حالة الانقسام بين السياسي الحكومي الشمولي، والسياسي الديني المعارض الشمولي، هي تعبيرٌ عن عجز الأمة العربية عبر شعوبها عن تشكيل طبقات وسطى تحديثية توحيدية، ويتمظهر ذلك في كل بلد حسب تطوره الاقتصادي الاجتماعي وسيره التاريخي.
الآلة العسكرية والشمولية الإسرائيلية تغذي عدم التبلور هذا، فالجنرالات والحاخامات والوعي الديني السياسي اليهودي المتطرف هنا كل ذلك يكرس الانقسام في بُنى الشعب الفلسطيني مثلما يكرس تاريخ الإسرائيليين داخل الجيتو حيث البشر إما يهود وإما أغيار.
فاليمين المتطرف ضد عودة اللاجئين وضد الوحدة الفلسطينية، وبالتالي فهو ضد صعود طبقة وسطى فلسطينية حديثة تمثل قيادة التوحيد والحداثة والتقارب مع الإسرائيليين لمجتمعين حرين متساويين يعيشان ويتطوران بتقدم وسلام.
أن تفتت جزئيات الطبقة الوسطى المُفترضة المتكونة عبر التشتت والصراع، يتجسدُ في جناحيها السياسيين الكبيرين: فتح وحماس، اللذين يعكسان مصادرها المذهبية، والقراءات المسطحة للإسلام وللتاريخ الوطني – القومي العربي، ويعكسان مستوى الفئات الوسطى ذات الصناعات الخفيفة والتجارة والوكالات والتبرعات والاسهامات عبر الحدود وسيولة المخيمات، وتشابكات علاقاتها مع الأنظمة العربية وإيران وإسرائيل.
وحدة الطبقة الوسطى تأتي من الصناعات المتطورة، ومن مجيء العمال اللاجئين ومن التوحد الوطني، ومن التداخل النضالي مع القوى العربية والإسرائيلية الديمقراطية، أي من صعود ثقافة حديثة عقلانية علمانية، توجه الفوائض نحو التقدم، وفتح الأسواق الحرة ونمو الديمقراطية، ولكن هذه الثقافات العربية والإسرائيلية ذات صراعات وفجوات هائلة تحتاجُ إلى فحص عميق لرؤية مدى قدراتها على الإنتقال للحداثة وعبور المجتمعات الدينية المحافظة الاستبدادي .


