التقدم في زمن مختلف : كتب ـ عبدالله خليفة
لم تعتد التيارات التقدمية على وجود تعددية فكرية داخلها، فكان شانها دائما وجود مركزية صارمة، تضع شؤون القيادة داخل مجموعة صغيرة ومن ثم في يد دكتاتور واحد، بحكم تنامي المركزية وسيطرة الزعيم على الاتباع.
لكن هذا الأمر لم يعد مقبولاً لدى الوعي التقدمي، الذي انتقل من حالة الشمولية إلى حالة الديمقراطية، بسبب تعقد المسار السياسي الموضوعي، والحاجة فيه إلى رؤى عميقة، وليس فقط إلى إرادة الزعيم وإلى العفوية السياسية والشعارات العاطفية والتحليلات المبسطة الخ ..
وتعقد الحالة السياسية بين الشمولية والديمقراطية ليس هو في الجماعة التقدمية بل هو كذلك في النظام السياسي الرسمي الذي لم يعرف بعد الرسو على ميناء الديمقراطية أو البقاء في الشمولية!
بل إنها حالة مناطقية عالمية فالنظام السياسي الجديد العالمي شديد الاضطراب، والحديث عن الديمقراطية لم يستقر على كيان سياسي واضح المعالم يطبق بصرامة وبوضوح، وكذلك فإن هذا النظام يعبر عن سيطرة الرأسماليات الغربية واليابانية وليس عن مساواة حقيقية بين الأمم!
وأساسُ التضاد والاضطراب يكمنُ في تداخل وصراع القوى الثلاث المناطقية، وعدم فرزها نظاماً مستقراً. فالقوى الحكومية والمحافظة الدينية، وقوى الرأسمالية الليبرالية، وقوى الشغيلة، لم تشكلْ نظاماً مستقراً ومقبولاً لدى الأطراف الثلاثة.
إن هذا الصراع والتداخل سوف يستمر لأمد لا أحد يعرف مدى طوله الزمني، لأنه مرتبط بعوامل موضوعية وذاتية معقدة، مثل مدى توجه الرساميل لتغيير البُنى الاقتصادية المتخلفة، ومدى نزوع الأنظمة إلى إعادة تقسيم الثروة، وإعادة تنظيم قوى العمل لصالح العمالة المحلية والعربية، ومدى قبول القوى الاجتماعية لهذه الخريطة المتبدلة الخ..
ومن هنا فإن هذه القوى الثلاث المناطقية تشكلُ تياراتها داخل التجمعات السياسية المختلفة، وهي تتواجد بهذه المساحة أو تلك داخل (كل) القوى السياسية.
أي أن القوى الحكومية والدينيين، وقوى الليبرالية، وقوى الشغيلة، موجودة في كل المجموعات السياسية، بهذا الحجم أو ذاك الذي يعكس علاقات القوى السياسية بالطبقات الرئيسية. وعلى مدى وجود هذه التأثيرات يتحدد برنامج هذا الفريق أو ذاك.
فخطوط الطبقات هي خطوط موضوعية لا يستطيع التنظيم المرتبط بها أن يتجاوزها، لهذا فإن القوى الحكومية تترابط والقوى الدينية من حيث تعبيرهما عن محتوى اجتماعي وسياسي واحد عريض، رغم ما يبدو من تنافر شكلاني بين الجانبين. لكن الفريقين يعبران عن محتوى سياسي واحد، هو تعبيرهما عن القوى التقليدية في المجتمع. أي أنهما يعبران عن منظومة واحدة. فهذه ملكية سياسية وتلك ملكية دينية. والجانبان يتداخلان. وتركهما وحدهما يعني تفكيك البلد.
ولهذا فإن التقدميين الذين يصرون على عدم وجود تأثير ملكي أو ديني داخلهم، يتجاوزن الواقع.
فهناك نسبة معينة لهذا التأثير داخلهم، لعدم تفاعلهم مع هذه التأثيرات بطريقة تقدمية ديمقراطية.
ومن هنا تتشكل مهام التقدميين تجاه الملكية بتطور حضورها السياسي الديمقراطي الدستوري، أي أن الأمر يتجه للتشديد على تطورها الديمقراطى الدستوري، إلى أقصى إمكانياته، بدلاً من التشديد الحاصل حالياً على وجودها فقط، وكان هذا الوجود هو خاتمة المطاف. وهو أمر سيندرج بعد ذلك في تنامي هذه العملية في دول الخليج، ولما يمكن اعتبار التجربة البحرينية نموذجاً يختزل لدى اخوتنا فى المنطقة فكرياً وسياسياً صراعاتهم وتضييع الوقت التاريخي والوصول إلى ما وصلت إليه التجربة البحرينية في مجالات عدة، وذلك لتماثل الظروف الموضوعية بدلاً من أن يخوضوا المشكلات نفسها.
إن موقف التقدميين تجاه الكتلة السياسية – الاجتماعية الرئيسية في هذه الفترة وهي كتلة الحكوميين – الدينيين هي حزمة من الجوانب السياسية المتنوعة، عبر دفع الفريقين بالقبول بنظام اجتماعي موحد، وهي القضية المحورية لنضال التقدميين في المرحلة الراهنة. ولكن النظام الموحد أمامه عقبات ومهمات كبرى.
ونحن ننظر أن الفريقين هما من نظام تقليدي واحد، وتعرقله مجموعةٌ من التقاليد والنظم المتخلفة، هي النظم المذهبية السياسية واحتكار السلطة والمرجعية المطلقة في كلا الجانبين، وعبر التخلى عن هذا الاحتكار بشكل تدريجي يمكن لنظام من التعايش أن ينشأ . لكن ذلك يرتبط بمهمات نضالية ملموسة وليس بدعاية مجردة، أي ينبغي الصراع في وجه الجانبين للتخلي عن ذلك الاحتكار!
أن نضال التقدميين لتدعيم السلطة الملكية الدستورية يتوجه لتحولها إلى سلطة عامة وطنية، تمثل مجموع المواطنين وتتحول السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى قوى الشعب تدريجياً وعبر الاتفاق والنمو لإرادة المجتمع وسلطاته.
كما أن احتكار السلطة لدى المرجعية واحتكار فهم الإسلام لعقل ديني واحد أو ثنائي، فردي شخصي أو ثنائي مذهبي، من شأنه خلق دكتاتورية مذهبية تحل محل المرحلة السياسية التي تم تجاوزها.
ولهذا فان نضال التقدميين من أجل ملكية دستورية متطورة، هو أيضاً نضال لديمقراطية الإسلام وفهمه.
وهذا الأمر لا يمكن أن يتشكل بين عشية وضحاها بل عبر نضال ثقافي طويل أولاً، تقل فيه الجوانب السياسية المباشرة وتتعاظم فيه عمليات التنوير والتثقيف، لتعي القوى المحافظة أن نشاط الديمقراطيين والتقدميين ليس هو من أجل إزاحتها عن مسرح السلطة والسياسة؛ بقدر ما هو حلحلة وضع تقليدي جامد استمر طويلاً، ولا بد من التنازلات المشتركة والوصول إلى نظام سياسي جديد في المستقبل وهو لا يزال في علم الغيب، بالنسبة إلى إمكانيات المختلفين وإلى مدى الإصلاح الراهن وليس إلى التقدميين الذين يعرفون المدى التاريخي الممكن تنفيذه.
وإذا كان ذلك كذلك، فلا يجب أن يضع التقدميون أنفسهم داخل هذه القوة السياسية الرئيسية الراهنة، بل على العكس أن يكونوا خارجها، من أجل حفزها على التطور لنظام مستقبلي أفضل، يتجاوز احتكار السلطة واحتكار الدين، ويشكل ثقافة ديمقراطية في مجالي تداول السلطة، وفي مجال ديمقراطية الإسلام.
وإذا كان الحكوميون والمذهبيون يشكلون القوة المحافظة الرئيسية المهيمنة وطنياً وعربياً وإسلامياً، تعبيراً عن نظام تقليدي عاجز عن اللحاق بالمنظومة البشرية، بسبب خياراته الراهنة، فإن التجاوز الموضوعي لهما يكمن في تشكل نظام رأسمالي حر.
وهنا تغدو الليبرالية هي حضور الفئات الوسطى ودورها التجاوزي للنظام المحافظ، لكنها عاجزة عن ذلك بحكم عوامل موضوعية تتعلق بضعف المؤسسات الصناعية الخاصة وعدم انتشارها وغياب علاقاتها بالمؤسسات العلمية. وبالتالي يغدو القطاع العام البيروقراطي هو العقبة لهذا النمو، مثلما تغدو المذهبية الشمولية عقبة لتطور العقل الإسلامي الديمقراطي الحديث، وعقبة لتطور الوحدة الوطنية في كل بلد عربي وإسلامي.
وفي الجزيرة العربية والخليج هناك عوامل أكثر مضاعفة للتخلف بسبب غياب الطبقة العاملة المحلية الواسعة، وانتشار العمالة الأجنبية المتعددة اللغات.
ولهذا فوجود رأسمال وطني واسع، وطبقات عاملة بحرينية وعربية وخليجية واسعة، لا يمكن أن يحدث دون السيطرة الديمقراطية على القطاع العام، وبالتالي السيطرة على تشكل عقل وطني وإسلامي عقلاني، عبر مصادر ثقافة وتعليم حرة.
إن مساعدة الليبراليين والإسلاميين التنويريين والتيارات المتقاربة كافة مع الحداثة هي ضرورة موضوعية، لكن هؤلاء يسعون لتشكيل نظام راسمالي حر مطابق لمصالحهم الاقتصادية، التي ليس فيها اعتبار لوضع الشغيلة المواطنين، ومدى انتشارهم وسيطرتهم على سوق العمل.
ولهذا إن التوجهات التقدمية تتفق في جوانب مع الليبراليين وتتناقض في جوانب أخرى، وتتفق مع مطالب قواعد الدينيين بانتشار العمالة المحلية. ولهذا لا يمكن للتقدميين أن يتطابقوا مع رؤية الليبراليين المفصلة على مصلحة فئات مالية وخدمية أكثر منها صناعية في الوقت الراهن.
ولهذا فإن تعاون التقدميين يتوجه لتدعيم الجناح الصناعي من الفئات الوسطى بشكل خاص، عبر حماية هذا الرأسمال وتطوير محليته وتجذره الوطني عمالة وقيمة.
وللفئات الوسطى الغنية برامج متعددة، وتطرح ليبرالية بلا أبعاد وطنية عميقة وبلا تجذر في تقاليد المنطقة وسيرورتها الخاصة، وتجلب موديلات أوروبية جاهزة وشكلانية غالباً . وهناك مثقفون يعملون في هذا الأفق غير أننا لنا أفق آخر.
فليس كل طرح حكومي يغدو مقبولاً إلا إذا عبر عن مصلحة الشعب، وكذلك بالنسبة إلى الدينيين والليبراليين، فما يجسد معيار الموقف مدى قدرة هذه الأطروحات المختلفة على تغيير حياة العاملين والصناعيين والتجار الصغار الخ.. أي قدرتها على شق طريق لتعددية حقيقية وليست مظهرية. ونحن لدينا معيار مصلحة الطبقة العاملة البحرينية والعربية كمعيار أساسي لتقييم المواقف السياسية. فليس لدينا معيار ثقافي مجرد!
هل يعبرالتقدميون عن طبقة معينة أم عن تحالف طبقي وهل يستطيع تنظيم أن يعبرعن كل الطبقات مثلما يحاول المذهبيون السياسيون والقوميون الحكوميون وغيرهم أن يفعلوا وفي النهاية لا يستطيعون سوى التعبير عن نظام تقليدي فات زمانه، عاجز عن ملاحقة العصر؟
ومن الواضح إن التنظيمات الحديثة لدينا تعبر عن الفئات الوسطى الصغيرة، في حين يعبر التقدميون عن هذه الفئات الوسطى وعن العمال كذلك، بل هم يعبرون عن المذهبيين وعن الحكوميين، لأنهم لم يقوموا يفرز بل ظهروا فجاة بلا تراكم نظري وسياسي!
وإذ ينفي المذهبيون السياسيون الليبرالية والقومية والتقدمية، أي كل اتجاهات العصر الحديث طارحين نموذجاً ماضوياً تقليدياً لا يمكن ظهوره إلا عبر تحطيم المجتمع، إذ يعجزون عن فهم الإسلام كحركة توحيدية ويعجزون عن فهم الحداثة كذلك. ومن هنا فهم يضربون الفئات الوسطى التي يصعدون على أكتافها، في حين الاقتراب من التحررية الاجتماعية (الليبرالية) ومن القومية ومن التقدمية، هو الذي يطور الفئات الوسطى باقترابها من حليفها الطبيعي وهو العمال.
إن دعم فصائل الديمقراطية الحديثة كافة من إسلاميين توحيديين نهضويين، ومن قوميين وليبراليين، هي من مهمات التقدميين، حين تقوم هذه التيارات بالاقتراب من مصالح الشعب.
لكن التقدميين لا يمكن أن يكونوا ليبراليين او مذهبيين سياسيين، لأن الليبرالية تعبير عن مصالح الفئات الوسطى لنمو مشروع رأسمالها الخاص، وهو مشروع في صيغته الراهنة لا يستجيب حتى لمصالح ظهور رأسمالية حرة، لأن مثل هذه الرأسمالية الحرة في وعى التقدميين لها الشروط سابقة الذكر. لكن لا بأس من الحوار مع تجليات الليبرالية الحالية العاجزة عن تجذير ليبراليتها بحكم طبيعة رساميلها القادمة من الدولة، ومعيارها هنا مدى نزولها للنضال من أجل ديمقراطية القطاع العام وبحرنته!
مثلما أن المذهبية السياسية مرفوضة لتعبيرها عن تقسيم الشعب والمسلمين. ومن هنا فأي تعاون ينبغي أن يكون موجها في مضمونه العميق لتجاوز هذه المذهبية الانقسامية وليس لتكريسها. اي لإنتاج وعي إسلامي تحديثى.
ولهذا فظهور تيارات ومنابر لدى التقدميين ينبغي أن يكون من أجل تعميق الرؤية التقدمية في فهم الليبرالية والإسلام والقومية، وليس لخلق أحزاب عبر هذه المكونات. فلا بأس أن يقترب تقدميون من الليبرالية بشرط ألا يذوبوا فيها، لأن لدينا تجمعات ليبرالية عدة تعيش هي ذاتها انقسامات ومخاضاً فلا داعي لزيادتها.
إن هذا كله يعتمد على مدى قدرة التقدميين على التطور الفكري والسياسي، أي تقديم دراسات فكرية وسياسية محلية، وتحليلات معمقة للاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة الخ .. تشكيل هنا منابر تعبر عن جهود التقدميين في تطوير الليبرالية، أي إنه موقف يميني، والمنبر الذي يعكس مصالح العمال، أي هو موقف اليسار، لأن الجماعة في الواقع لم تفرز من هو مع العمال ومن هو مع الفئات الوسطى ومشروعها. وكيف يقام التحالف بين الجانبين. وكلما حدث التعبير النظري والسياسي وعملية الفرز تقدمت عملية الوعي التقدمية.


