محمد باقر الصدر: الأنظمة ـ كتب ـ عبدالله خليفة

في كتابه (فلسفتنا) يعتبر محمد باقر الصدر المفكر الديني الراحل وجهة نظره بأنها (مجموعة مفاهيم الإسلام عن العالم)، ويعتقد بأن ثمة صراعاً فكرياً مريراً (لا بد للإسلام أن يقول كلمته) فيه ص 6، فيتصور بأن ما يقوله هو المعبر عن الإسلام لا وجهة نظر شخصية أو وجهة نظر تيار أو مذهب.

وهو من البداية يؤكد (صحة الطريق العقلية في التفكير، وإن العقل، بما يملك من معارف ضرورية فوق التجربة، هو المقياس الأول في التفكير البشري، ولا يمكن أن توجد فكرة فلسفية. أو علمية دون إخضاعها لهذا المقياس العام، وحتى التجربة التي يزعم التجريبيون أنها المقياس الأول، ليست في الحقيقة إلا أداة لتطبيق المقياس العقلي، ولا غنى للنظرية التجريبية عن المنطق العقلي.): (فلسفتنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، 1979، ص 7 بيروت).

 فهو يعتبر (العقل) هو المهيمن على التجربة وعلى الفكر التجريبي، وهذا العقل غير موضح الفصيلة في بداية كتابه السابق الذكر.

ولكي يمهد محمد باقر الصدر لمناقشة وتفنيد الماركسية، باعتبارها الخصم الرئيسي للفكر الديني كما يتصور، فإنه يناقش طبيعة الأنظمة السائدة في زمنه وهي:

1 – النظام الديمقراطي الرأسمالي.

2 – النظام الاشتراكي.

3 – النظام الشيوعي.

4 – النظام الإسلامي.

وهو يعتبرُ بأن مشكلة الإنسان عميقة الجذور لكننا لديه لا نعرف مسيرة العلاقات الإنسانية إلا بشكل ضبابي أخلاقي مجرد، يقول:

(فإن هذه العلاقات التي تكونت تحقيقاً لمتطلبات الفطرة والطبيعة في حاجة بطبيعة الحال إلى توجيه وتنظيم، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه يتوقف استقرار المجتمع وسعادته)، (ص 11).

وهكذا تتشكل لديه الإنسانية عبر الفطرة والطبيعة وبالتالي فإن تاريخاً غائراً عميقاً يتوارى هنا، وتظهر الإنسانيةُ المعاصرة كمذاهبَ فكريةٍ فلسفيةٍ سياسية، مقطوعةِ السياقِ عن سيرورةِ التاريخ والطبقات، وبالتالي فإنه لا يقوم بأي ربطٍ بين المذاهب والقوى الاجتماعية، محولاً المذاهب إلى كينوناتٍ متجوهرةٍ على أنفسها منذ البداية، ويعتبر النظامان السائدان في العالم في زمنه هما (النظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة أخرى)، (وأما النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص).

عبر قطع الأنظمة والأفكار عن سياقاتها الكبرى يقوم بعد ذلك باختيارِ جانبٍ رئيسي من النظام ليعتبره هو النظام الكلي، فيقول عن النظام الرأسمالي بأنه قائم على (الإيمان بالفرد إيماناً لا حد له. وبأن مصالحه الخاصة بنفسها تكفل ~ بصورة طبيعية ~ مصلحة المجتمع في مختلف الميادين) ويعلقُ محمد باقر على هذا النظام من الوجهة الفكرية قائلاً: (ومن الواضح إن هذا النظام الاجتماعي نظام مادي خالص، أُخذ فيه الإنسانُ منفصلاً عن مبدئه، وآخرته، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادية، وأُفترض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادية الطاغية… لم يُبن على فلسفة مادية للحياة وعلى دراسةٍ مفصلةٍ لها)، ولكن هذا لا يعني بأن الباحث محمد الباقر لا يعتبر النظام الرأسمالي صاحب ثقافة مادية (فلسفية هنا)، ( بل كان فيه إقبال على النزعة المادية: تأثراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي  وبروح الشك والتبلبلِ الفكري الذي أحدثه انقلابُ الرأي، في طائفةٍ من الأفكار كانت تعدُ من أوضح الحقائق وأكثرها صحة وبروح التمرد والسخط على الدين المزعوم، الذي كان يجمدُ الأفكارَ والعقولَ، ويتملقُ الظلمَ والجبروتَ)، (ص 17 ~ 18). نحن نرى هنا إن عشرة قرون من التطور العلمي و الثقافي والروحي الأوربي تــُركز في مظاهرٍ مختزلة، فهناك تمردٌ وسخط وهناك شك وبلبلة وهناك فلسفة تجريبية ، لكن يبدو إن ليس هنا ثمة بناءٌ فكريٌ وأخلاقي كما يتصور الباحث، فقد دمر الغربيون الدينَ المزعوم ، لكنهم لم يشكلوا وعياً دينياً آخر حسب تصوره، أو أنهم بلا مظاهر روحية وثقافية غنية وعظيمة، وهذا الاختزالُ الذي يقومُ به الباحثُ بإلغاء الدين المعاد تجديده أو فصله عن الدولة الغربية، يغدو لديه إبعاداً كلياً للدين عن المجتمع وعن الثقافة، وهي الأمور التي لم تجرِ في الغرب، كما أن ثقافة أخرى غير دينية وأخلاقية كذلك  لم تتشكل مهيمنةً على كل الفضاء الروحي، وهو بعد هذا الإلغاء لثقافة روحية أخلاقية وهامة في الغرب يستنتج:

(كل هذا صحيح، ولكن النظام الرأسمالي لم يركز على فهم فلسفي مادي للحياة، وهذا هو التناقض والعجز، فإن المسألة الاجتماعية للحياة تتصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكل صحيح إلا إذا أقيمت على قاعدة مركزية، تشرحُ الحياةَ وواقعها وحدودها، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة)، (ص 19).

وهذه التعابير الغامضة يُـقصد منها عدم وجود أساس ديني للنظام الرأسمالي الغربي العلماني، فبدون وجود رجال دين يهيمنون على النظام فإنه يخضع لزوال الأخلاق: (والدليل على مدى اتصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها أن الفكرة تقدم على أساس الإيمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الأفراد، بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها، إلى الدرجة التي تبيح إيكال المسألة الاجتماعية إليها، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأمة عليها)، (ص 19ـ 20).

إن الثقافة الروحية والفكرية الأخلاقية تــُفهم من قبل السيد محمد باقر بأنها إيكال أمر السيادة السياسية إلى رجال الدين وبدون ذلك فإنه لا توجد حياة صالحة للأمة، وهذا يعني ضرورة هيمنة رجال الدين على المؤسسات السياسية لكي يكون هناك تطور روحي وأخلاقي في المجتمع!

ومن هنا فإن (القيم المادية؛ بمعنى الابتذال السوقي هنا) هي التي تسودُ في الحياة الديمقراطية الرأسمالية حسب رأيه. ولهذا قام الباحثُ بإزالة التطور الفكري والأخلاقي الطويل من نسيج الحضارة الغربية خلال القرون العشرة الأخيرة، وغيّب مختلفَ أشكال الثورة الثقافية والفكرية والفلسفية الغربية التي تفجرت كثقافة النهضة ثم التنوير ثم ثقافة العصر الصناعي والثورة الديمقراطية البرجوازية ثم صعود ثقافة الطبقات العاملة، وذلك فقط بسبب إبعاد الدين عن السلطة السياسية، في حين أن الدين المسيحي مع غيره من الأديان لا يزال يقوم بالسيادة العبادية على الحياة الاجتماعية في الغرب خلال هذه القرون كلها.

أي أن الغرب (العلماني) لم يحطم الهيمنة الدينية المسيحية على الناس، حيث قامت القوى المهيمنة بنشر والحفاظ على الدين في الوعي الجماهيري بمختلف الأشكال، مثلما يوجد وعي لا ديني غير أنه غير مهيمن، ولهذا فإن موضوع سيادة الدين على الحكم هو الذي يجعل الحياة مادية غير روحية في تصور السيد محمد باقر!

(وكان من جراء هذه المادية التي زخر النظامُ بروحها أن أُقصيت الأخلاق من الحساب، ولم يلحظ لها وجود في ذلك النظام.. وأعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى.. فنشأ عن ذلك ما ضج به العالم الحديث من محن وكوارث..)، (ص 20). 

إن العالم الصالح في نظر الباحث هو الذي يتمكن رجالُ الدين من إدارته حيث تغدو الأخلاق في بؤرة الاهتمام، فالعالم الرأسمالي الذي لم يسيطر عليه الروحانيون غدا بلا أخلاق ، وصار التكالب على الماديات، وهنا يجري في وعي محمد الباقر تغييب الصراعات الاجتماعية التي شكلت مسار التطور، وكذلك نمو المستويات الثقافية والأخلاقية الغربية عبر هذا الصراع الاجتماعي نفسه ، فالتكالب على الماديات يعتبره سبب الكوارث، في حين أن النظام الغربي يجعل الصراع على (الماديات) كالأرباح والأجور والخدمات الخ.. جوهر نشاطه السياسي الرسمي والشعبي، في حين أن الجانب الروحي والاجتماعي مباح للدين وغير الدين!  ففصل الدين يجري فقط في إدارة المجتمع السياسية أما غير ذلك فإن للدين دوره الكبير، ولهذا فإنه حتى الأخلاق الدينية لها مكانتها!

ويتصور الباحث محمد باقر إنه عبر هذه الحياة المادية الاستهلاكية (لا توجد قيم) وتتحكم (الأكثرية في الأقلية ومسائلها الحيوية) ص 21، وهو يقصد هنا تحكم الجمهور المادي في الجمهور الروحي الديني، (وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليتها الاجتماعية؟؟) ص 22، أي أن إبعاد رجال الدين عن السيطرة الفكرية على الجمهور الذي لا يعرف القيم الروحية هو أمر يؤدي إلى حيونة الإنسان.

والباحث محمد باقر هنا يعود إلى الخلفية الشرقية وإلى قيام بعض اتجاهات الدين الكفاحية دورها التحويلي والأخلاقي، وهو يتصور بأنه مع غياب ذلك لا يعود الغرب سوى غابة!

إن تحويل الجمهور الغربي بأغلبيته إلى قطيع حيواني، هو مسألة لا علاقة لها بالتطور الحقيقي، ولكنه هنا يتشكل في وعي السيد محمد باقر مثلما يتشكل في وعي بعض عامة المسلمين عبر تعميم بعض المظاهر و عزلها عن اللوحة العامة وتضخيم هذه المظاهر بشكل كاريكاتيري، في حين أن التطور الأخلاقي والثقافي الرفيع يجري في الغرب بمواكبة النضال ضد مظاهر ابتذال الإنسان واستغلاله. فالنضال من أجل تطور حياة الإنسان المادية لا ينفصل عن النضال لتطور حياته الأخلاقية.

إن هذا الإسقاط الديني الإيديولوجي للسيد محمد باقر جرى في أزمنة لم تكن الرؤية الشرقية للغرب متعددة وعميقة وذات مستويات مختلفة ، كذلك فإن الإسقاط يجري من مواقع الفئات الوسطى والصغيرة الإسلامية التي ترفض هيمنة الشركات الكبرى الغربية في الغرب والشرق كذلك، وهو ما يؤدي إلى دهس إنتاجها المادي والثقافي. وهو أمر يشعر المتصدون للقيادة الدينية والسياسية بخطورته على العالم.

إن محمد الباقر يفسر الأسلوب الرأسمالي للإنتاج بشكل فكري أخلاقي، (كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وإنما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات)، (ص 35). 

فالملكية الخاصة لم تنتج ثقافتها المختلفة عبر العصور، بل لعبت روحيةُ المصلحة الشخصية الأنانية هذا الدور الاستغلالي، وحين تــُضاف القيم النبيلة إلى الملكية الخاصة فإنها تنتج أدواراً اجتماعية مختلفة في رأيه، ومن هنا كان يمكن للنظام الرأسمالي الغربي أن يكون شيئاً آخر لو كان هناك رجال دين مختلفين غير استغلاليين وفاسدين ، حيث يمكن لرجال الدين النزيهين المتحكمين في جهاز الحكم أن يصنعوا غرباً مختلفاً!

وهنا يفكر محمد باقر كذلك من خلال تاريخه الاجتماعي الشرقي، حيث الملكية الفردية الإنتاجية في الحقل والحرف والملكيات الصغيرة تتوازى مع ملكية الدولة، وحيث لا تزال العلاقات الاجتماعية لم تترسمل بشكل واسع، كما أن هذا الوعي يعبر عن حياة الركود طوال عصور حيث لعبت الدولُ المركزية عبر الأديان والمذاهب دور المهيمن، فهنا اندمج الدور (الأخلاقي) للملكية الخاصة مع الدور الحكومي ودور رجال الدين ، وحيث أُعتبرت الملكية الخاصة خالدة لا يسبقها تاريخٌ مشاعي طويل، وبالتالي فإن محمد باقر يريد أن يشرقن ويمسلم الغرب، الذي غادر التاريخ الشرقي حيث الترابط بين الملكية الخاصة الصغيرة والإدارة الحكومية وسيطرة الأديان والمذاهب، وقد جعل الغربُ قوى الإنتاج في ثورة مستمرة مرتبطة بالسوق المحلية والعالمية، فهي تعيدُ تشكيلَ البنى الاجتماعية والفكرية بشكل دائب، لكي تسهمُ في عملية التغيير الاقتصادية التي يتحكم فيها الرأسماليون وعبر صراع دائب مع العمال.

ولهذا فإن السيد محمد باقر يرى التجربة المسماة (اشتراكية) بنفس الرؤية، فيقرأها بالصورة التالية: (أما مضاعفات هذا الإنتاج فهي جسيمة جداً: فإن من شأنه القضاء على حريات الأفراد، لإقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيات الخاصة. وذلك لأن هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامة)، (باعتبار  إن الإنسان المادي لا يزال يفكر تفكيراً ذاتياً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود)، وهذا كله جعل الاشتراكيون يشكلون (قوة حازمة تمسك زمام المجتمع بيد حديدية، وتحبس كل صوت يعلو فيه، وتخنق كل نفس يتردد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر..)، (ص32). 

يعتبر محمد باقر كما تقول (الماركسية ~ اللينينة) بأن التجربة التي جرت في الاتحاد السوفيتي والصين وغيرهما بأنها تجربة (اشتراكية)، وليست رأسمالية دولة شمولية، وهو لا يؤيد هذا البناء من ذات منطلق الملكية الخاصة الصغيرة التي ستُحطم هنا من خلال الدولة وليس من خلال الرأسماليين كما في الغرب، ولكن بمضاعفات أخرى وهي غياب الحرية الفردية كذلك، وهو يجعل هيمنة الملكية الخاصة جزءً من (الطبيعة الإنسانية)، كما أنه يتنبأ بشكل صحيح بعودة (الاشتراكية) إلى الرأسمالية العادية لأن المديرين والمهيمنين على المال العام هم أفراد، أي كما لاحظ تروتسكي بأن البيروقراطية تنخر (الاشتراكية) المفترضة كما تنخر التجارب التنموية الرأسمالية الفردية في العالم الثالث الأخرى.

لكن منطلقات محمد باقر دينية مثالية ، حيث تتناغم لديه الملكيةُ الخاصة الصغيرة والدينُ والدولةُ المسيطرة الشاملة في علاقة شرقية أبدية. دون أن يقرأ بأن رأسمالية الدولة الشرقية (الاشتراكية) جرت بسبب عوامل نهضوية تسريعية، وبهذا فإن المركزة الاقتصادية الحكومية أدت إلى تجاوز هذه البلدان منظومة الدول المتخلفة، وأجرت ثورة ثقافية وتقنية، بسبب عدم جعل الملكية الخاصة الصغيرة والمذاهب تتحكم في البناء الاقتصادي العام، ولكن كان لذلك ثمن باهظ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 20, 2024 12:47
No comments have been added yet.