الفلسفة الغربية والنهضة العربية : كتب ـ عبدالله خليفة
يختلف زمن التطور الغربي الفلسفي عن التطور الفكري العربي، ليس بسبب اختلاف التشكيلتين، حيث تجاوز الغربيون التشكيلة الإقطاعية واستمر العربُ فيها، بل أيضاً في ضخامة الإنتاج الفلسفي الغربي وشبه انعدامه في فترة النهضة العربية، خاصة في هذا المخاض الغربي الفكري الكبير في القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي تصاحب زمن النهضة العربي الأول، حيث غادر الغرب فلسفات وأفكار النهضة، ولكن ليس بشكل كلي مطلق، فمازالت هناك بقاع لاتزال تستعر بصراع النهضة المتجسد في الصراع بين الحداثة والتقليد، بين البرجوازية والإقطاع خاصة في الأقطار الاوروبية الجنوبية والشرقية، لكن قلب أوروبا كان قد انتقل من فلسفات النهضة إلى فكر الحداثة المتصف بغلبة الاتجاهات المادية والمثالية الموضوعية خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عبر ولادة الهيغلية والماركسية والوضعية والداروينية.
«كانت فلسفات القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين قد دافعت عن تصور «كوني للعالم وكان المذهب الميكانيكي يرى أن آلة العالم قد أرسيت قواعدها مرة وإلى الأبد، وأنها مجموعة هائلة من التروس لا يفقد منها شيء، ولكن لا يخلق فيها شيء أيضاً»، «الفلسفة المعاصرة في أوروبا، إ. م. بوشنسكي، عالم المعرفة، العدد 165، الكويت، 1992».
إن توجه أوروبا الغربية خاصة لفلسفات تتوجه لاستيعاب الحركة الشاملة، تم أولاً بشكل مثالي موضوعي عبر فلسفة هيجل التي اعتبرت الحركة جزءاً من الفكرة المطلقة ذات الحيوية الداخلية القادرة على النمو والتجاوز والنفي، وبهذا فإن المثالية الموضوعية هنا راحت تضم العالم المادي عبر هيمنة الفكرة المطلقة ولكنها تكشف تحولات هذا العالم المادي عبر قوانين الجدل.
وكان الشكل الأول لتخطي الهيغلية المثالية قد تم عبر فلسفات مادية ميكانيكية، ففويرباخ وبوخنر وكارل فوجت «قد نفت مذاهبهم وجود العقل ذاته ودافعت عن الحتمية الشاملة».
لا بد أن نقول إن هذه التطورات الخصبة لنفي الميكانيكية ولتثبيتها في مذاهب جديدة، قد تشكلت على ضوء التحولات الشاملة في الصناعة والعلوم والتغيرات السياسية الديمقراطية في البُنى الاجتماعية؛ حيث أصبح بإمكان العقل البشري الوصول إلى قوانين المادة الداخلية على مستوى العلوم الطبيعية وإلى قوانين التطور التاريخي والاجتماعي والطبيعي.
ولهذا كانت المادية الجدلية نفياً لمثالية الهيغلية ولميكانيكية المادية الآلية. إن ارتباط المادية الجدلية بحركة الطبقة العاملة قد أطلق قدرتها على معرفة العالم والطبيعة بلا أسوار طبقية معينة.
ومن جهة أخرى فإن «الكانتية» والوضعية عموماً ارتبطت بقوى البرجوازية في المناطق الأقل تطوراً من حيث التحولان العلمي والديمقراطي، أي في ألمانيا تحديدا، حيث جرت موضعة العلوم في جوانب حسية جزئية، غير معترفة بالقوانين العامة للأشياء والظاهرات الطبيعية «والاجتماعية خاصة»، وهو جانب علمي مفيد لكنه ضيق الأفق ومحدود المعرفة، وهو من جهة أخرى يعبر عن قطع مسار الطبيعة عن مسار الظاهرات الاجتماعية والفكرية، بحيث ألا تمتد الدراسات العلمية لقوانين الحياة الاجتماعية، وهذا الفصل التقني سيكون مفيداً لهذه الطبقات وهي تشتغل على تطوير قوى الإنتاج أساساً.
هذا ما يعتبره جورج لوكاش بسبب «أن المصير المأساوي للشعب الألماني يقوم في كونه دخل متأخراً في التطور البرجوازي الحديث»، «راجع تحليته الموسع والغني في كتاب تحطيم العقل، الجزء الأول ص 33، دار الحقيقة، ط2 ».
أما المادية الميكانيكية فإنها استمرت عبر ظاهرات متعددة أهمها الداروينية التي كشفت قوانين تطور المادة الحية، والتي ستتمازج والوضعية عبر أوجست كونت والداروينية الاجتماعية عامة. وعبر نقلها قوانين البيولوجيا إلى العلوم الاجتماعية واصلتْ نقلَ قوانينَ الميكانيكا إلى المستويات الأعقد من الظاهرات الاجتماعية، رافضة قوانين المادية الجدلية، وبهذا فإنها كانت أمام طريق مسدود في هذا الجانب.
وقد واجهت الفلسفات المادية أزمة تطور في نهاية القرن التاسع عشر، بسبب أزمة العلوم الطبيعية وعدم قراءتها الجدلية للمادة، وكانت الفلسفة المادية الميكانيكية هي الانعكاس المباشر لمستوى العلوم السابقة، وهذه المادية الميكانيكية هي التي أخذ بها نهضويو العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كشبلي شميل وسلامة موسى.
إن هذه الأزمة الغربية الفلسفية لم تكن لأسباب فكرية فقط، بل لتحولات علمية ولأسباب اجتماعية غربية ~ كونية، فقد تراكمت في القرن التاسع عشر ثروة معرفية هائلة وظهرت اكتشافات كبرى، فقد عاشت الفيزياء التى صاغها نيوتن في أزمة بعد عدة قرون من هيمنة مفاهيمها الميكانيكية وظهرت فيزياء جديدة لم تعمم فلسفياً بشكل علمي، وأيضاً كيمياء مختلفة، كذلك بدأ تجاوز الرياضيات التقليدية، وهذا كله أحدث تشككاً كبيراً في مسألة المادة، ومن الناحية الاجتماعية والسياسية فقد انتقلت البرجوازيات الغربية للسيطرة الكلية على العالم، ولم تعد الفلسفات المادية والجدلية مناسبة لهذا التطور بسبب تركيزها على تحليل المادة والحياة الاجتماعية، ويقود الغزو الغربي للعالم والصراع على خيرات العالم الفقير إلى صراعات ضارية وهو الأمر الذي سيفجر الحروب العالمية وخاصة، التي ازدادت في أعقابها عمليات «انهيار العقل البرجوازي في تلك العقود».
فإضافة إلى استمرار المثالية فقد ظهر الاتجاه اللاعقلى، «وهو الناتج عن الحركة الرومانتيكية وخَلَفُها، ليعارض المذهب العقلي الهيجلي. وممثل هذا الموقف شوبنهور الفيلسوف الألماني «1788~ 1860»، الذي يرى أن المطلق ليس العقل، بل إرادة عمياء ولا عقلية. وإلى جانب شوبنهور ظهر المفكر الدنماركي كيركجارد «1813 ~ 1855» ليدفع إلى مدى أبعد الهجوم على المذهب العقلي»، «عن الفلسفة المعاصرة في أوربا».
ولهذه الظواهر أسبابٌ متعددة كبروز احتجاجات الفئات الوسطى والصغيرة ضد الأنظمة وهذه الاحتجاجات تتشكل بصورة فردية متضخمة حيناً وبصورة عدمية حيناً أخر، وأحياناً كعودة لفكر الأرستقراطية الكارهة للديمقراطية والأنسنة، خاصة في البلدان المتطورة رأسمالياً ولكن المتشكلة بإرادات عسكرية وسياسية متسلطة كألمانيا وإيطاليا، واللتين سترفدان الوعى العربى بالنمط الحيوي واللاعقلى وسيتمظهر ذلك في ولادة الأحزاب القومية العربية المشرقية خاصة.
وفي مرحلة تالية، وبعد الهجوم على المذهب العقلي الهيجلي، هاجم الاتجاه اللاعقلي المذهب العقلي العلمي، وهو هنا سوف يعتمد في هجومه على نظرية التطور عند دارون. وكان المعبر عن هذا الموقف نيتشه «1844 ~ 1900» الذي يعلن أولوية الاندفاع الحيوي على العقل، ويطالب بمراجعة كل القيم، وينادي بعبادة الرجل العظيم»، «المصدرالسابق».
علينا أن نقول هنا بأن الوعي العربي الطالع من القرون الوسطى المتدهورة، لم يكن بإمكانه نقل هذه التحولات الفلسفية الكبرى ولا حتى معرفتها بشكل واسع وقتذاك، وسيعتمد على نقل جزئي محدود لبعض الاتجاهات القريبة من مستوى معرفته ومن اتجاهاته المعارضة الغائرة، كالاتجاهات المادية الميكانيكية والوضعية، كما نقل طه حسين وإسماعيل مظهر بعض جوانب المادية الميكانيكية ممثلة في المدرسة التطورية الاجتماعية.
إن الاتجاهات المادية والتطورية الاجتماعية الميكانيكية كانت أقرب إلى مستوى الوعي العربي، كما أنها تقدم مادةٍ شبه موضوعية لمعرفة الواقع العربي ونقده، بدلاً من الاتجاهات اللغوية الشكلية والنصوصية التقليدية التي لم تكن تجعل الواقع كبؤرة لنقدها وتحليلها، مثلها مثل الفلسفات العربية الإسلامية السابقة المبهمة وغير المفهومة في هذا الزمن بشكل عام.
إن الوعي العربي النهضوي في مرحلته النضالية بين القرنين التاسع عشر والعشرين لن يلتفت إلى المدارس اللاعقلية والصوفية بشكل واسع، سوى في الاتجاه القومي الانبعاثي في بلاد الشام «زكي الأرسوزي خاصة»، ومن هنا فإن العلاقة واضحة بين اتجاهان شبلى شميل وطه حسين وسلامة موسى والعقاد وفرح أنطون وغيرهم في التركيز على الواقع بمختلف الرؤى، أي وضع الواقع كمادةٍ رئيسية أمام الوعى المدعو للحفر فيها وكشف سببياتها وتحولاتها، سواء عبر ذهاب طه حسين الى تعرية البنية الثقافية العربية التقليدية، وكذلك في نقل سلامة موسى ثمار المعرفة الغربية إلى واقع متخلف ديني هو غير معني بتحليله لأن لديه وصفة جاهزة هي التطورية الداروينية الميكانيكية، وكذلك فعل العقاد في نقد التخلف الإبداعي وطرح نموذج الأبطال الخ..
إن ذلك يبدو أيضاً في الصوفيين الجديد واللاعقليين كجبران خليل جبران وزكي الأرسوزي وغيرهما من الذين استخدموا أدوات دينية صوفية وكانوا أقرب للاتجاه الحيوي عند برغسون والمدرسة الحيوية عموماً، ولكن هاجس نقد الواقع هو المسيطر عليهم بقوة.
وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه الأجنحة اليمينية من الفكر الأوروبي في ذلك الزمن تقوم بالهجوم على ثقافة الطبقات الشعبية المادية والتطورية والعقل بوصفه أداة للكشف، كان المنورون العرب يبحثون عبر كل فكر تحديثي يعبر عن نقد للواقع وعن الرغبة في تغييره وعن إعلاء العقل. ولنتذكر هنا جمال الدين الأفغاني الذي بدأ حياته مهاجماً الفلسفة المادية «الملحدة» في كتابه عن الدهرية ثم تحول إلى تأييد الداروينية والتطورية الاجتماعية!
إن حصول المدارس الفلسفية المادية والتطورية على أغلبية المنورين العرب وتوجه القليل النادر للفلسفة الحيوية والرومانتيكية، يعبر من جهة أخرى عن ضعف الأساس الثقافي العلمي لدى النهضويين العرب، فالمدارس الداروينية والتطورية الاجتماعية المعتمدة على المناهج الميكانيكية كانت تنهار في القارة الأوروبية في الوقت الذي يقوم فيه بعض المنورين بالترويج لها، وبأشكال فجة أحياناً أو صادمة، وهي مناهج وفلسفات كانت غير قادرة على تحليل الظاهرات المركبة كالتاريخ والمجتمع والثقافة، وهذا مما جعل بعضهم يعادون الثقافة العربية الإسلامية بشكل ميكانيكي، دون أن يقرأوا الجدلية الداخلية المركبة لها.
وهكذا كان بعض المنورين العرب يأخذ نتائج ثقافة لفلسفات في طور الاحتضار، وهو غير قادر في الوقت ذاته على الانتقال إلى ثقافة أكثر تركيباً، كما هي حالة شبلي شميل.
لقد كانت الفئات الوسطى العربية المثقفة تستلهم مصادر غربية فكرية نقدية شتى، لكنها تلتقط الأفكار الأقرب إلى مستواها المعرفي، وأغلبها يقع في دائرة الأدب والفن والتاريخ، لتوظيفها في زحزحة السائد الثقافي المتخلف.
إن عدم قدرتها للتوجه إلى الميادين الأعمق كالفلسفة الهيجلية والمادية الجدلية بل وحتى الوضعية، كان يشير إلى هيمنة الطابع الأدبي عليها، وهو أمر سوف يتم تجاوزه في مفكرين قادمين، أخذت فيه المادة المعرضة تتسع وتتعمق عندهم، ويتم فيه جلب مدارس مادية أكثر تطوراً كما أن حضور المدارس التجريبية والوضعية والمثالية الموضوعية سيغدو هو المسيطر على المشهد الفلسفي. لقد انقلب المشهد الفلسفي الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين عن القرن التاسع عشر، قرن الفلسفات التطورية والكفاحية عموماً، إلى مدارس فلسفية لاعقلانية وحيوية صوفية وبرجماتية عملية مع هوامش للفلسفات الوضعية والتجريبية وهي التي كانت تضخها الجامعات الغربية، وهي كلها ترفض كشف القوانين الموضوعية للبُنى الاجتماعية، مما جعل الجيل التالي من المفكرين العرب يبتعد عن الفلسفات المادية متوجهاً للحل الوسط بين اليسار واليمين الفلسفيين، أي إلى الوضعية والتجريبية والمثالية الموضوعية كما سيظهر ذلك في أبرز الأسماء كزكي نجيب محمود ويوسف كرم وناصيف نصار وغيرهم.
لكن الفلسفات المادية ستتركز الآن في «المادية الجدلية» التي غدت هي وريثة الفلسفات المادية الميكانيكية عبر الضخ السوفيتي الشعبوي، وعبر انهيار الداروينية التي لم تعمر طويلا، كما ستتحول عربياً إلى تشويه للمادية الجدلية الحقيقية، وهو مسار سيظل مواجهاً للوضعية وغيرها.
وكما كان قانون البُتى الاجتماعية المسيطرة على المادة الفكرية المجلوبة من الخارج مهيمناً على العصر العباسي، فإن لهذا القانون نفسه سوف يتحكم في المادة المجلوبة من الغرب، هذه المرة وليس من عند الإغريق، فالبناء الاقطاعي – المذهبي سوف يتحكم في المواد الفكرية المجلوبة عبر الحدود، وسيخضعها لقوانينه الداخلية.
فتكون هذه المواد المستوردة في فاعلية الفئات الوسطى، تابعة لمدى استقلاليتها عن الاقطاع الحاكم، وهى أمور تعيودُ للتراكم المادي واتجاهه، ولطبيعةِ الصراعات الاجتماعية ومساراتها، ودور الأفكار في التوجه إلى بؤر تتطور الخ.. فنجد كيف أن المنحيين التطوري الاجتماعي والمادي يخليان السبيل للوضعية – التجريبية وللمثالية الموضوعية والذاتية والأفكار القومية ذات النزعة الحيوية والرومانتيكية، وللمادية الميكانيكية، ثم لاتجاهات بعث الإسلام كنظام إقطاعي مذهبي أي الاعتماد على النصوصية ورفض اتجاهات التأويل العقلانية، أي العودة لمرحلة ما قبل الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط، وهو ما يعبر عن انبعاث النظام الاقطاعي ~ المذهبي، رغم التطورات الراسمالية الجزئية. أي أن اتجاهات الفئات الوسطى وممثليها الثقافيين ستنحو نحو التراجع عن التحديث الأوروبي، والعودة للهياكل الإقطاعية، وستتعزز هذه الاتجاهاتُ عبر ابتعاد العالم العربي الإسلامي عن مراكز النهضة في مصر ~ لبنان إلى الجزيرة العربية – إيران، بل إن هذه المراكز نفسها ستواجه موجات التخلف والتفكيك الطائفيين، مما يجعل المناطق البدوية والفلاحية المهيمن عليها من قبل الإقطاع المذهبي المتخلف، تتحكم في إنتاج الوعي عامة، وهذا سيؤدي إلى تراجع حتى على مستوى الفلسفات الوضعية والتجريبية والمثالية.


