وحدة فكر النهضة : كتب ـ عبدالله خليفة
طرح مشروع التغيير في العراق مسألة أي فكر يهيمن على البلاد ويقودها في مشروعه السياسي .
وقد رأينا نماذج من التناقض الحاد بين التطرف العلماني والتطرف الديني وكل منهما يسعى للتحكم المطلق في الخريطة السياسية والدينية المنوعة .
بدأت القصة حين اندفعت الجماعات الدينية المتطرفة في منع الخمور والهجوم على محلات بيعها وحرق هذه المحلات، وما تسبب ذلك من إزهاق أرواح واعتقال هؤلاء الحارقين، وثمة أناس يعتبرونهم أبطالاً وثمة أناس يعتبرونهم مجرمين، لكن القانون ياخذ مجراه ويعتقل هؤلاء وتنطلق القضية بغض النظر عن الحيثيات الدينية!
وهنا يعمل الفقه المحافظ المنتج في قرون سيطرة الإقطاع الديني على تحويل أية قضية شرعية إلى رافعة ضد التطور والحداثة، سواء كانت قضية خمور أو قضية تحرر نساء أو قضايا حقوق شخصية وممارسات جنسية حرة أو قضية فقراء، مستهدفاً في ذلك الوصول إلى السلطة السياسية المطلقة، إذا وجد إليها سبيلاً، وإذا لم يجد اكتفى بحضوره الكبير فى السلطة الاجتماعية، أي الهيمنة على الحياة اليومية للمؤمنين به. أو أنه يعمل بكافة السبل العسكرية أو السياسية الانتخابية المجيشة بهدير ديني تحريضي طائفي، للوصول إلى السلطة، وتحقيق برنامجه السياسي في هيمنة الملالي المنتمين لمذهبه على الحكم.
ومن الجهة المعاكسة يسعى بعض الفكر العلماني المتطرف إلى تبرير أي جانب من الحقوق الشخصية والحريات، واعتبار الإسلام هو العائق الأكبر أمام تطور وحرية المنطقة!
تقوم الديمقراطية العربية الراهنة المزعومة على استمرار النظام الطائفي الإقطاعي العربي القديم، بدون المناقشة في أن هذا النظام لا يمكن أن ينتج ديمقراطية حقيقية، تعتبر الانعطافة الديمقراطية المنشودة!
أي أن وجود دولة طائفية تهمين على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لا يمكن إلا أن يشكل معارضة طائفية مضادة، ولا سبيل لخلق ديمقراطية سوى بتجاوز الكتلتين : كتلة الدولة الطائفية، وكتلة المعارضة الطائفية!
ومن خلال الكتلتين تتشكل فسيفساء سياسية كاذبة في أغلب تلاوينها، فالقوى السياسية المقتربة من الدولة الطائفية تشكل معارضة ديمقراطية ترفض طائفية الدولة واحتكارها للسلطات، وهنا تتنطع هذه القوى في عرض ليبرالية مجردة كاذبة، أي أنها تركز في خطابها على مهاجمة طائفيي المعارضة، لا طائفية الدولة، أي لا تقوم بتحليل موضوعي ينقد كافة الطائفيين سواء الحكوميين والموالين للحكومة أو المعارضين، بل هي تقوم بعملية انتقاء انتهازية، وذلك بأن تعرض خطابات مجردة أو مقطوعة السياق وغير شاملة ودقيقة، وذلك بفرض إشاعة وعي تابع للسلطة الطائفية، التي تقوم بعرض جوانب ليبرالية جزئية من عملها ونشاطها، متغاضية عن الجوانب السيئة، بغرض تبييض صفحتها والدعاية لنهجها السياسي، أو على الأقل إبعاد موظفين وشرائح معينة من سيطرة خطاب المعارضة الطائفي المناوئ.
هذه لقطة صغيرة من الديمقراطية العربية الراهنة!
وفي الجهة المقابلة تركز المعارضة الطائفية على إخفاء طابع معارضتها الطائفي، أي إخفاء هويتها السياسية التي تعني وصولها إلى الحكم، وقلع حكم الطائفة الأخرى، كما يصور لها وعيها السياسي الطائفي.
فهي لا ترى قسمات اجتماعية أو وجود صراع اجتماعي بين الكتلة الساحقة من المواطنين المنتمين لهذا القطر العربي أو ذاك، وبين الكتلة الصغيرة من كبار الملاك وأصحاب الأموال والشركات المهيمنة على جهاز الدولة، وعبره شكلت ثرواتها.
إن الوعي الطائفي المعارض عادة يقوم بتمويه طابع المعركة الاجتماعي، وإخفاء دلالاتها الطبقية، وانعكاساتها السياسية، فيظهر معارضته كما لو كانت هي دفاع عن كل المواطنين، وكما لو كانت هذه المعارضة ستشكل سلطة أخرى غير طائفية، في حين إن المضمون الداخلي الغائر والظاهر يوضح انها جماعة طائفية أخرى، لا تختلف عن طابع السلطة الطائفي!
إذن فلو استمرت هذه العملية وجاءت الطائفة المعارضة للحكم، فإن التغيير سوف يجري في الشكل، أي أن كبار المهيمنون على الطائفة الأخرى هم الذين سيصلون إلى الحكم وبالتالي فإنهم سيمتلكون الشركات والمال العام، وفي حالة كونهم رجال دين فإنهم سوف يمتلكون ثروة البلاد وثروة السماء معاً!
ومن المؤكد إن الليبراليين التابعين للدولة، أي للطائفية الرسمية المسيطرة، أي لوجه الحكم الإقطاعي بوجهه السياسي، لديهم حق في نقد خطاب رجال الدين الشمولي، ولكن هذا الخطاب الديني الشمولي ليس حكراً على رجال الدين الطائفيين المعارضين أو الموالين، بل هو جزءٌ أساسي من خطاب الدولة الطائفية!
فالدولة العربية وغير العربية الدينية تقوم على أساس طائفي، وسواء كانت سنية أم شيعية أم مسيحية، أم شافعية، أم زيدية، أم مالكية الخ.. فإنها تقيم سيطرة المذهب، الذي هو تعبير أيديولوجي عن سيطرة الإقطاع السياسي/ الديني .
أي أن المذهب الإسلامي المعني، لا يمثل حقيقةً كل الطائفة الإسلامية، المفترض أنها هي التي في السلطة بحكم أن المذهب الرسمي للدولة يمثلها، لأن المذهب الرسمي هنا مجرد شكل، خالٍ من التمثيل السياسي للطائفة المعنية التي يقال بأنها هي التي تحكم!
فلو افترضنا جدلاً بأن الطائفة السنية هي التي تحكم في العراق يحكم أن المذهب الرسمي المعتمد في كل الدولة العراقية يقوم على المذهب السني. ولكن أي تحليل بسيط يبين خرافة هذا الوهم الإيديولوجي، في الطائفة السنية لا تحكم العراق، لا من الناحية المذهبية ولا من الناحية السياسية!
فالأحكام الشرعية المتعددة بين المذاهب ليس بينها أي فوارق فكرية أو سياسية جوهرية تقلب كيان المجتمع قلباً اجتماعياً جوهرياً شاملاً، بل هي اختلافات بسيطة حول الوضوء والإرث والصلاة الخ.. أي أن تكريس الدولة العراقية للمذهب السني في المحاكم والحياة العامة، مجرد تكريس لبعض جوانب عبادية شكلية لا تختلف نوعياً عن الممارسات الشيعية والإسماعيلية والزيدية الخ..
أي أن الفروق بين المذاهب الإسلامية مجرد فوارق شكلية، ليس فيها مثلاً اشتراط أن يكون الحاكم منتخباً بالاقتراع السري! أو من بينها مثلاً أن يكون الحاكم من الكادحين أو من طبقة الصناعيين أو أن تقطع يد الحاكم في حالة السرقة!
وبهذا فإن الحكومات المذهبية المتعاقبة في العالم الإسلامي، لم تكن تجري تغيرات جوهرية ونوعية في حكمها ساعة تبدلاتها الكثيرة والدموية في أكثر الأحيان!
فنحن لا نلحظ تغييراً حين أعقب العباسيون الإماميون الأمويين الانتهازيين الدينيين، أو حين جاء الإسماعيليون لحكم مصر وأطاحوا بالخلافة العباسية، أو حين أطاح صلاح الدين بهم وأقام الدولة على المذاهب السنية، أو حين أطاح الإثنا عشرية بالحكم المغولي أو التركي السني ! أو حين صار أهل شمال افريقيا مالكية بعد أن كانوا من الخوارج، وربما كان هذا يعبر عن خضوعهم للسلطة القاسية أكثر من اقتناعهم بالمالكية!
لم يشهد العالم الإسلامي في تحولات الحكومات المذهبية أي تغيير، فأختكِ مثلكِ، لأن الملاك الكبار، الحائزين على الثروات، هم الذين يستبدلون الكراسي، وهم الذين ينعمون بالامتيازات، ولم نجد حين استولى صلاح الدين وأطاح بالإسماعيلية بأن كادحاً مصرياً سنياً حصل على أرض، أو أن الفاتح الكبير والمحرر الكبير قد غير من طبيعة استغلال الفلاحين السنة أو المسيحيين، الذين لم تتغير عليهم كميات الخراج ولا سياط الملتزمين!
ولم نر ان الإثناعشرية حين حُكم باسمها في إيران أيام الدولة الصفوية أو أيام الجمهورية الإسلامية الحالية قد غيرت من وضع الفقراء والفلاحين ولا يزال هؤلاء مستغلين منهوبين للدولة والاقطاع الدنيوي والديني ممنوعين من الإصلاح الزراعي الذي حتى الشاه الراحل قام بتطبيق جزء منه!
فلم يستطع الفرد الشيعي سواء كان في الحكم الطائفي أو المعارضه الطائفية أن يحكم، أو حتى يقترب من السلطة، التي ظلت لأصحاب الملايين والمليارات حالياً!
إذن فإن الحكومات العربية وغير العربية الدينية التي تحكم باسم المذاهب والطوائف لا تمثل حتى الطوائف التي تزعم تمثيلها، وكذلك فإن المعارضات الطائفية التي تزعم تمثيل الطوائف هي لا تمثل الطوائف!
والأمر بسيط لأن الطائفية دكتاتورية!
والأمر يعود أيضاً لهذه الأدلجة التي تمت للمذاهب، ولعمليات تسييسها ولاخفاء مضامينها، عبر السيطرة المستمرة لكبار المتنفذين والأغنياء والمتسلطين عليها، والذين قاموا بشكلنتها، أي بجعلها شكليةً، متمحورة في الأشكال العبادية التي عملوا على تركيز الاختلاف فيها، والمحافظة على هذه الاختلافات بغرض إبقاء سيطرتهم السياسية والاقتصادية على جماهير المسلمين العاملة، واستمرار استغلالهم لها، وإبقائها في ظروف الفقر والعوز والتخلف والفرقة والعداء!
إذن أمام قوى المسلمين المختلفين المنهوبين المستغلين المبعدين دائماً عن الحكم الحقيقي، أن ينسحبوا من عباءات التسييس المذهبي ويتوحدوا!
إن التسييس المذهبى هو دكتاتورية، لأنه رفض لوجود الفقراء والمستغلين، لأنه رفض لكيانهم الاجتماعي المستقل، رفض لوجودهم كقوى اجتماعية مختلفة عن الأغنياء المتحكمين في الطوائف كلها!
فلماذا يخافون أن يتوحد الفقراء سنةً وشيعة ومعتزلة وزيوداً ودروزاً ومسيحيين وعلمانيين وليبراليين وماركسيين؟
لماذا يشكلنون المذاهب ويجعلونها أشكالاً تخفي سيطرتهم المالية على الأراضي والبنوك والمال العام، ولا يريدون لفقراء المسلمين وعامليهم وفئاتهم التجارية البسيطة أن تتوحد وتدافع عن حقوقها وعن أوضاعها السيئة في الأجور والسكن والصحة والتعليم؟
إن هذا بسبب أن الكثير من المثقفين المسيسين تابعين لمثل هذا الوعي الطائفي الطبقي التابع للكبار .
لماذا جعلوا أقوال الأئمة شكلانية ووسائل بهدف سيطرتهم على البساتين والأسهم والعقارات؟
لماذا لا يحررون الأئمة من هذه السيطرة ويطرحون برامجهم السياسية والاقتصادية بشكل مكشوف ودون تستر بالمقدس؟
لماذا لا يجتمعون في طبقة مالكة من شتى المذاهب تطرح برنامجها الاقتصادي والاجتماعي الذي يحفظ ويوضح مصالحها وحتى أن تجذب الناس المختلفين اجتماعياً من خلاله؟!
لماذا يزعمون أنهم يتعاركون على الدين والمذاهب وهم يتعاركون على المصالح والكراسي؟!
هذا يتطلب نهضويين وديمقراطيين ينبثقون من شتى المذاهب ويؤسسون حركات ديمقراطية عميقة تقوم على هذه الأسس الفكرية!
حركات تقوم بإبعاد المذاهب عن هذا الاستخدام السيئ للمذاهب وتجمع الفرقاء الاجتماعيين كلٌ وأهدافه دون تستر براية مذهبية أو بسلطة طائفية!


