الرواية بين الإمارات والكويت(2 من 4): وسمية تخرج من البحرـ كتب: عبدالله خليفة
❈ ليلى العثمان
❈ وسمية تخرج من البحر
تقوم رواية «وسمية تخرج من البحر» لليلى العثمان على تقنية روائية بسيطة، فعبدالله الصياد ذو الخمسين عاماً، يتوجه دائماً إلى البحر، لكي يعمل فيه، أو يصارعه، بل كأنه يسير في طقس عاطفي، شاعري، يتحسس فيه ذاته، ووجوده.
إن المشاهد الأولى من الرواية، حين يتذكر عبدالله مدح أصحابه لصوته فينطلق مغنياً، داعياً الأسماك الى الحضور انما يستعيد فيها روحه.
في البحر هناك الاستعادة الكاملة للروح.. وف المدينة هناك الغياب الكامل للروح.. في هذا التناقض والصراع يكمن المعنى الأساسي لهذا العمل الفني، ذى البساطة التشكيلية، والعاطفية الرومانسية الشجية الملتهبة، والبنية الروائية المتناغمة.
و«البحر»، ليس بصفته الطبيعية المجردة، فهو البحر القديم، بحر الغوص واللآلئ، بحر السفن الشراعية الوفيرة، انه البحر بامتدادته الاجتماعية التآلفية، الشفافة، حين يستعيدها وعي رومانسي ، يجد الماضي اهزوجة من الحب والمشاركة.
أن عبدالله البحار العتيق، ارتبط بهذا العالم المائي الرقراق، واحبه الى درجة العشق الكامل، فهو يترك الوظيفة ليتحول الى صياد، وهو يحبس نفسه داخله رغم شجارات زوجته المشاكسة ضد هذا التواجد المريب، وضد كل الروائح التي يحملها منه، فيبقى «البحر» ضرة مستمرة لتلك الزوجة، المعادية بإطلاق للبحر،والمحبة باطلاق للمدينة، للبر…
ان المدينة، والبر، ليسا كائنين مجردين أيضا، فالمدينة هي المدينة التي اغتالت عالم البحر، هي التي مشت بتروسها وأرجلها الحديدة فوق مبانيه الجميلة العتيقة، واغتالت شوارعه وطيوره وازقته وتجمعاته.
(أين هي الآن خريطة المدينة القديمة، كل شىء نسفته الايدى باسم الحضارة.. اغتالت المباني الكبيرة طفولتنا، ودكت أفراحها) ص 13 .
فإذا كان الزوج عبدالله هو الماضي، هو السفن واللؤلؤ والدانات، وصوت عوض الدوخي، والبراحات، والعشق الرومانسي النبيل، فإن زوجته هي الفلل الحديثة، والاجهزة المستوردة، وكره العمل ورائحة البحر.
نقيضان وجدا نفسيهما تحت سقف واحد، كصراع البحر والمدينة، و الأصالة و«الحداثة»، وصراع الحب والصفقة، وصراع الماضي والحاضر، وصراع الانتماء والغربة.
وحين يتوجه عبد الله هارباً من بيت الزوجية، ومن المدينة، وتضاريسها، فاراً نحو البحر، فإنما يستعيد ذلك العالم القديم، وعاطفته المبتورة داخله، وقصة حبه التي انتهت بالفاجعة.
والقصة العاطفية، قصة حب عبدالله ابن «مريوم»، الدلالة، لوسمية ابنة التاجر الغني، هي الجزء الرئيسي من الرواية، وهي الدلالة الوحيدة، والامكانية اليتيمة، لتلاقح البحر والبر، الماضي والحاضر، الأغنياء والفقراء، الحب والعدم، في عالم الرواية.
وكونها الجزء الرئيسي من الحبكة الروائية، التي يتم استعادتها عبر فصول متقطعة، أو متواصلة كثيرة، هو الذي يعطي الرؤية الشعرية الرومانسية، إمكانيات تجليها وتجسدها.
فحين يتم القطع، والعودة الى الحاضر، يتم ذلك سؤيعاً، ومن خلال ومضات خاطفة جداً، لا تتيح امكانيات اخرى لنمو ايقاع الرواية، أو لتشكل احتمالات جديدة مضيئة للبطل، فلا تقود إلى تحليل عالم المدينة «الموارب»، واكتشاف إمكانيات جديدة لفعل البطل، وبالتالي تغلق الباب على الحاضر.
إذن فالحبكة الرئيسية تتعلق بالماضي، بقصة حب عبدالله ابن الفقراء لوسمية ابنة الاغنياء.. ففصول الافتتاح والعودة إلى الحاضر لا تزيد عن أربعة فصول من أحد عشر فصلاً، في حين تكون السبعة الاخرى متوجهة للتغلغل في تضاريس الماضي.
وتبدأ الحكاية من الطفولة، حيث الصغار المختلفو الجنس يلعبون معاً.. فمن هناك من عمق الطفولة، من تلك اللحظات التي تنتفي فيها الطبقات، ولا يوجد الا الحب والصفاء، يتأسس المضمون العاطفي الرومانسي الشفاف.
وعمق الطفولة هذا، مصاحب غريب لطفولة المجتمع، حيث التداخل الحميم بين الناس، وحيث لم ترتفع بعد، الأسوار الطبقية المحيطة العالية، تماماً كما المجتمع يعيش في حضن الطبيعة، بيوته ومواعينه وأسرته وطعامه من الطبيعة المحيطة، بل ليس ثمة فواصل بين البشر وحيواناتهم.
هنا يوجد حس الرواية الرئيسي تآلف الطبيعة والمجتمع والبشر، في عالم طفولي، شفاف، لا يعرف الفوارق والجدران والعنف.
وداخل رحم هذه العلاقات الطفلية بين عبدالله ووسمية، الطفلان الضاحكان، اللاعبان، المتشاجران .. لقد نما الحب قبل ان ينتبها لفواصل «الجنس» و«المنزل» والطبقة و«التقاليد».
وعلاقة عبدالله/ وسمية، تنمو عبر هذا المربع الصغير من بيته الى بيتها، وداخل ازقة الحي وقرب الشاطئ، ان المكان، بحد ذاته، ليس واسعاً، فسيرورته هي بين بيت وزقاق وشاطىء.. ورغم اشتغال عبدالله، فيما بعد، بين البحارة، إلا أن السفينة، وعلاقتها، لا تحضر.. كذلك نسمع عن اشتغال «مريوم» أم عبدالله كدلالة، تتجول بين الأحياء، لكن لا نستعيد علاقاتها وخبراتها داخل نسيج الرواية.. كذلك فإن والد وسمية، التاجر المتجول بين الموانىء البحرية المتعددة والأقطار، لا يحضر اطلاقا الى بنية الرواية.. وفي هذا الاختصار تركيز، ولكن قطع لعلاقات «الواقع» الواسعة، تمايزاته المختلفة، مستوياته المتعددة، أمكنته المتباينة، وتكثيف لمكان واحد وهو بيتي الحبيبين.. وعبر هذا المكان المحدد المكثف، نسترجع فسيفساء العالم القديم: سرير الماضي الذي أثمر الحب.. ان كل الاشياء العتيقة من بيوت، واحواش، وبرك، ودجاج، وطيور ولواوين، وطاسات، وخواتم، وسقوف الجندل، وقواقع، وعباءات الخ … كلها تستعاد عبر هذه الطاقة الحميمة لوعي معاصر، مغترب، يعيد تشكيل عالمه العتيق الجميل الذائب في تنور العصر.
وهذه الاستعادة لا تأتي قصدية، استعراضية، بل من النمو الجميل لعلاقة الحب الطفولية، التي تكبر فتبدأ الاصطدام بسلاسل الواقع.
وليس في النمو الطويل للعلاقة، تغلغل الى مستويات معقدة من الذات، أو البنى الاجتماعية بل عرض لعلاقة الحب البريئة، وهي تدخل حواجز الجنس والطبقات.
فما أن تكبر العلاقة، ويكبر الحبيبان، تبدأ الطقوس المكبلة للمرأة في الإعلان عن ذاتها، واسترجاع الفتاة من الزقاق والشاطىء واللعب، وتقوم بإسدال الستار على مفاتنها ووجهها وسحبها الى الاسوار.
كما تبدأ محاولات العاشق في اختراق الأسوار والعادات، عبر المغامرة الجريئة مرة، وعبر بضائع أمه الدلالة مرة أخرى.. ويكمن الحدث المركزي، في الرواية، في هذا الاختراق ودعوة وسمية الى اللقاء عند الفجر.
وبعد محاولات، ينجح اللقاء، ولكن تأتي مجموعة من الشرطة، لتفاجئ العاشقين، في صدفة غريبة تعكس مواتيف الرواية الرومانسية، فتذعر الفتاة الصغيرة، بعد سلسلة طويلة من المخاوف والترددات، فتلقي بنفسها في اليم، محاولة الغوص والاختفاء عن اعين الرقباء، اجراس الفضيحة.
تموت وسمية في هذا الحدث السريع الفاجع.. ويظل عبدالله طوال سنواته الكثيرة التالية يعيش على هذه الذكرى، لا يندمج في المدينة وتحولاتها النفطية السريعة، لا يحب امرأة اخرى، يتزوج أي امرأة تخطبها امه.. يلغى كل ذاته عند تلك اللحظة الطفولية البريئة الفاجعة.. بل هو يلغي ذاته، في الفصل الأخير، في الماء، وراء شبح وسمية.
تتضح آلية الرواية في تشكل ذه التعارضات المطلقة، بين البحر والمدينة، بين الماضي والحاضر بين عالم الغوص وعالم الرأسمالية المشوهة التابعة، بين والنضج، بين الاصالة والحداثة.
ان لحظة الطفولة المقامة فوق مجتمع غوص وبحر، لم تتفجر تناقضاته وصراعاته لوعي الروائية، حيث ثمة انسجام بين عناصره المختلفة الاجتماعية، ان هذه اللحظة هي الصفاء المفقود، هي الغابة العذراء التي لم تقتحمها بلدوزرات الحداثة، هي الريف البعيد عن علاقات المدينة النقودية هي الماضي الجميل المفقود..
حيث يحدث الخروج الأول على هذه الطفولة، فتظهر جدران بيت التاجر الكبير، وابنه فهد الشرس في محاربة الحب الوليد، تتشكل ملامح اغتيال الحب، واغتيال مشروع الانسجام بين عناصر الطبيعة والمجتمع.. ولو أن وسمية لم تمت، بذلك الشكل الميلودرامي السريع الفاجع، لماتت بشكل أخر.. ولكن آلية الرواية احتفظت لها بالموت، في البحر، في الغابة العذراء، في الريف غير المدنس بالتجارة.
في تلك السنوات فحسب، كانت امكانية الانسجام بين الاشياء والبشر، موجودة، أما بعدهها، فسوف تتفجر التناقضات، وتكتسح الراسمالية (انسانية) مجتمع البحر الساذج القديم…
اذن سيكون موت وسمية مخزوناً في اللاحق، ولكن كي تبقى تعويذة شعرية رومانسية، فلا بد أن تموت في السابق.
هكذا تنسحب الرواية من نثر الواقع الرأسمالي، نحو مناطق شعرية، ارتدادية، في الماضي، ولهذا نجد حياة عبدالله، في الحاضر، في العلاقات النقودية، شاحبة، انسحابية، لكون تواجده في هذه العلاقات، سوف يلغي امكانية الرواية، بآليتها الرومانسية الارتدادية الاجتماعية، وسوف ينمي عناصر تحليل الحاضر، وقطع العلاقة مع وسمية الطفلة الشفافة البريئة.
فكما كان المكان محدداً في الماضي، ببيتين وشاطىء، فكذلك كان المكان في الحاضر محدداً بعمل عبدالله الذي لا نعرف موقعه، ولا اصدقاءه، فكأن الرواية على مستويي الزمن، الماضي والحاضر، تكتفي ببقعة صغيرة، هي موقع تواجد البطل وعاطفته المتأججة.
ان الرواية تستعيد آليات الرواية الرومانسية الاجتماعية، فهناك البطل المتفرد، الاستثنائي العاطفة، وهناك المنطقة الطبيعية البكر العذراء، التي يلجأ إليها هذا البطل، صياغة لعالم انساني متفرد، حلمي، أو إنسحاباً اليه، وموتاً فيه، إذا تعذر صياغة هذا العالم الإنساني، في الحاضر، في الواقع.. لأجل أن تبقى العواطف الانسانية السامية، خارج الطبقات، والمصالح المتضادة، والتطورات النثرية للواقع.
وخلافاً لآلية وعي الرواية الرؤيوي، فإن آلية السرد تعتمد تضادات خاصة، صحيح أنها تجسد، في خاتمة المطاف، رؤية الوعي، ولكنها تفارقها، عبر هذا التحليل التفصيلي والواقعي للاشياء المفردة.. ان الكاتبة تصوغ عالماً يتراءى واقعياً محسوساً، غير الرصد المتأني لتطور العلاقة وحيثياتها، في المكان والزمان المحددين، بل وتنساق أحياناً نحو واقعية حرفية، تستعيد حتى المفردات الشعبية، بما يشكل أحياناً اقتراباً من الطبيعة.. ولكنها كذلك تصعد نحو ذرى شعرية تعبيرية، في قمم نمو العلاقات العاطفية وانكساراتها.
أن «وسمية..»، «تخرج»، «من البحر» ولا تغرق فيه» حيث انها تشكيلة انسانية رمزية، للنقاء المتعذر حدوثه في المدينة، والصاعد من البحر، فقط لا الطالع والنابت في المدينة الاغترابية الساحقة، لتتراءى وسمية حلماً ورمزاً للذين يستعيدون تماسك عالم البحر، شكلاً متجاوزاً لموت نثري كل يوم، في المدينة.


