الرواية بين الإمارات والكويت(3 من 4): المرأة والقطة ـ ليلى العثمان ـ كتب: عبدالله خليفة
✤ ليلى العثمان
✤ المرأة والقطة
تدور رواية «المرأة والقطة»، حول هذه المرأة الشريرة التي تتكرر الحكاية الشعبية، لكنها هنا ليست زوجة الأب الشريرة، بل العمة، أخت الاب، وهذا التغيير يعني ان العائلة المعاصرة غدت أكثر تناقضا.
إن عناصر الحكاية بسيطة، فالشخصية المحورية: سالم، يجد نفسه في بيت تحكمه أخت أبيه القاسية والمتجبرة. والتي جعلت اباه بلا قيمة، وقد بدأت قسوتها تجاه سالم تنمو منذ أن انتزعت منه قطته الانثى «دانة»، والقتها في دورة المياه، ثم أجبرته على الزواج من حصة، الفتاة الصغيرة، ففوجئ بجمالها ورقتها، واحبها بعمق لكنه لم يكن قادراً على ممارسة فعل الرجل الخصب. وبقيت حصة هذه الممارسة دون جدوى. فوجئ سالم – مرة اخرى – بامتلاء بطنها الغريب، فاتهم أباه بهذه الفعلة المشينة وانفجرت أعصابه وبدأت ملامح جديدة لشخصية عصابية. لم تكن لها أية بوادر سابقة. وقد دعياه، أبوه وعمته، إلى قتل حصة، وتنظيف بيته الملوث. لكنه في لحظة غريبة ثالثة، وميلودرامية، اكتشف أن حصة لم تحمل من قط خارجي، أو من ابيه، أو من رجل آخر، لكن ربما .. منه !
وتوجه الى امة المبعدة عن بيت أبيه ليخبرها بهذا النبأ العظيم، وما أن رجع حتى وجد حصة مقتولة بالحبل الذي حمله ذات يوم لخنقها. وكان سبباً في اتهامه بقتلها.
إن هذه السلسلة من الأحداث، تسترجع عبر وعي الراوي، البطل، الشخصية المركزية سالم، فالشخصيات الأخرى لا تظهر إلا من خلال هذا الوعي، وهو وعى صادق، «موضوعي»، في نقله وتصويره للأحداث. وهى موضوعية تُجسد عبر أحادية الصوت، وليس بتعدد الأصوات.
تتم الاستعادة داخل المكان الذي انتقل إليه سالم بعد تلك الأحداث المتفجرة. ان مستشفى الاعصاب يتيح هذا الاسترجاع المتوغل فحسب، في الماضي، فلا يغدو للحاضر أي وظيفة فنية، وأي تداخل حدثي علائقي، مع الماضي.
وتكمن حيلة الاسترجاع والاستعادة في قضية «العلاج»، ولغة ما قبل الاسترجاع، ولغة الاسترجاع ليس فيهما تباين أو اختلاف، فلا يظهر الاسترجاع على هيئة منولوج هذياني، متوتر، يعكس طبيعة شخصية عصابية، ذات تفجر وتقطع وتوتر عال، بل تظهر بصورة انسانية هادئة، ولغة فاتنة. إن التفجر والتشظي الداخلي للشخصية لم يظهر على لغته فكانت هناك مسافة بين الشخصية واللغة.
وكأن الكاتبة هنا، هي بنفسها التي تعبر وتقص الحكاية المرضية لسالم.
ويقودنا هذا القص الى بيت سالم حيث الأب والعمة والقطة. ان سالم، منذ البدء، يروى لنا قصة صراعه مع عمته التي سحبت القطة الاليفة الجميلة من بين احضانه مرارا، ثم ألقتها في بئر دورة المياه. لكن هذا الإلقاء لم يحدث عندما تعرفت دانه على قط خارج المنزل، وحملت منه، أي حين انتفخ بطنها ورات العمة الشرسة فعل الحب وهو يروي ذلك الجسد الصغير بالحياة.
فالرواية إذن تقيم تناقضات مطلقة بين الخصب والجدب، بين الحياة والموت، بين الحب والكره، بين الخلق والعدم.
فالعمة هي هذا الرمز للجدب والخريف و الموت والكراهية، انها الصورة لكل ما هو بشع، وحين تستولي على «البيت» بعد حريق قامت به امرأة عاشقة لأبيها، فقتلته وقتلت زوجته – أي أمها – حملت هذه المرأة الكراهية الشديدة لكل ما هو قريب من الحب والخصب.
فقامت بتربية أخيها، وسيطرت عليه سيطرة مطلقة، وزوجته مراراً وأفشلت زيجاته المختلفة، فما تكاد العلاقة تقترب من الخصب والإنجاب حتى ينهار الزواج.
إن البيت لابد أن يظل، في لا وعيها، خرباً مجدباً، سواء كان هذا الخصب ولادة أم امتلاء بطن حصة، بشكل غريب ومريب.
وإذا كانت هذه المرأة، ذات صفة إطلاقية كاملة، بشعة، فإن الطرف الخير، والخصب، ذو صفات إطلاقية جميلة. فسالم هو الطيبة والحنو والخير والوداعة، انه كعبدالله بطل «وسمية تخرج من البحر»، وكوسمية، نقي، قادم من الطبيعة البكر، من الطفولة التي لم تتلوث بشر.
لكنه، في هذا البيت المجدب، ليس قادرا على فعل الخصب. فسالم حينما يحاول ان يعاشر زوجته، تندفع إلى صور العمة وهي تفترس القطة، فيرتجف ويتوقف.
ان هذه العقدة تبدو مبسطة، نظرا لبساطة الحدث. حيث السببية الواحدة لفعل الجدب وحيث واقع علاقات الشخصيات فيه، يبدو مبسطاً، لا تفاعلات متعددة فيه.
وهنا نجد طبيعة خاصة للرواية الخليجية النامية ببطء، من احضان القصة القصيرة، وهي صعوبة سيطرتها على تصوير الحياة بتعدد مستوياتها.
هنا نجد بيتا مقطوع الصلات بالعالم الخارجي، بالظاهرات والاحداث وتكمن حياته داخله، بل في مربع مكثف: سالم – العمة – حصة – الأب. وغالبا ما يتم تناول مستوى واحد من عوالمهم و علاقتهم بالعقدة القصصية، أي فعل الخصب، بينما تتوارى عقدهم ومشكلاتهم الاخرى تماماً.
بل ان هذه العقدة الأساسية لا نراها الا من خلال وعى البطل المركزي: سالم، ولا نستطيع أن ندخل أعماق الشخصيات الاخرى. ولهذا يغدو الحدث والعقدة المبسطة مسيطرين على تصوير الشخصيات والتركيز على عالمهم البيتي الضيق.
وحين يحدث الصدام أولا بين سالم وحصة، حيث يراها تتجه الى خارج الغرفة والبناء، ثم تعود متوردة منتشية، يبقى الصدام، فوق ذات العقدة، ولا يتوسع عبر العلاقات بشخصيات أخرى، أو عبر دخولنا إلى ذات حصة وهواجسها وأحلامها، أن الصدام لا يغنى لنا الشخصيات أو يدفعها باتجاهات غير متوقعة.
وحين يحدث الصدام بين سالم والعمة أو الأب، لا نكتشف مستويات جديدة من الذكريات، او الاحداث، او الاعماق المتوارية، فنبقى أيضا ندور حول ذات العقدة الآنية..
وهنا تبدو مشكلات على مستوى البناء الحدثي، توضح ضرورة واختراق هذا الشكل المحدد من العقدة، فنحن لا نعرف كيف حملت حصة، رغم عجز سالم الجنسي؟ ولماذا يتركها فجأة ليذهب إلى أمه، وهل اغتيال حصة من قبل العمة او الاب؟ أو لماذا يتأخر في شراء الخبز قبيل الاغتيال بقليل؟
الشخصيات، كالأحداث، تبدو ذات مستوى واحد، عبر هذا التناقض الاطلاقى بينها، فالعمة هي الشر، بينما سالم وحصة هما الخير، ويقف الأب مشلولا عاجزا، بلا صفة محددة، وكان يمكن أن يشكل تناقضه هذا جزءا من حركة درامية ما.. أما العمة فكانت تحمل إيماءات رمزية عديدة، وكان يمكن لهذه الإيماءات أن تنمو، عبر إعطاء شخصية العمة فرص التجلي والتلون.
يتركز ويتكثف كل شيء في الرواية، إلا بعض الاستطرادات السردية، فالشخصيات تظل قليلة ومحصورة في المربع: سالم ــ العمة ــ الزوجة ــ الأب، بل ان الضلعين الاخيرين يظهران بشكل أقل، ليتركز الحدث القصصي بين سالم والعمة. ويغدو الحدث مضغوطاً ومكثفاً، هو الآخر في تتبع الصراع بين الاثنين، وهو صراع أنى، حدثي، يتوغل قليلا في ثنايا الخلجات النفسية، وهو مقطوع الصلة بخارجه، بالواقع، بالصراعات الاجتماعية والسياسية، والحياة ككل.
كما يغدو المكان مكثفاً تماماً، عبر نمو الحدث داخل البيت، بل في غرفة أو غرفتين، ولا يلعب المستشفى كمكان الا دور التمهيد للدخول إلى المنزل.
كل هذا يجعل طبيعة الرواية هنا أشبه بالقصة القصيرة، وقد اتسعت سردا وتكثفت شخصيات ومكاناً واحداثاً ودلالات.
إن قدرة ليلى العثمان على بناء الرواية العصرية، الشعبية، المقروءة، واضحة، فهي تقوم بسبك المرتكزات الأساسية للرواية، من خلق الحدث المتنامي، المشوق، الذي تتضافر فيه لغة السرد الجميل والحوار البنائي، الدافع للحدث، وشبكة من الشخصيات المتداخلة، والمتفاعلة، لكن تبقى عملية توسيع هذا الحدث، ليعبر عن دلالات أعمق، مطروحة ومطلوبة في التجارب القادمة.


