الحج.. الفريضة التي أنشأت دولا وأشعلت مقاومة ومزجت بين المسلمين

 

من بين عشرات المؤتمرات التي حضرتها،لم أنتفع بواحدة منها كما انتفعت بمؤتمر "طرق الحج في إفريقيا" الذيانعقد في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم، قبل سبع سنوات، عام 2016م، فلقد قُدِّمفي هذا المؤتمر نحوٌ من ستين ورقة علمية تبحث في هذا الموضوع، فوجدتني أمام بحرخضمٍّ من العلم الجديد النافع، وشعرتُ للمرة الأولى بالتأثير الفاصل الضخم لشعيرةالحج في حياة الأمة الإسلامية،وكم تشوقت لحضور مؤتمر مماثل عن طرق الحج من آسيا ومن أوروبا، إذن لتمَّت الفائدة!

لقد كانت شعيرة الحج سببا في نشوء دولإسلامية عظيمة، وفي تطوير دول مسلمة متخلفة تعرَّف أمراؤها ووزراؤها في رحلتهم إلىالحج على طرائق وأساليب تُنَمِّي بلادهم، واصطحبوا معهم أحيانا رجالا يهتدونبعلمهم في الدين أو في الدنيا، وقد سلك المسلمون في طريقهم إلى الحج طُرُقًا، فإذبهذه الطرق تنبت على ضفافها مراكز تجارية وسرعان ما تتحول إلى قرى ثم إلى مدنعامرة. وكم كان في بلاد المسلمين موارد لا تجد الأيدي العاملة، ومشروعات لا تجد منينفذها، فجاء الحجاج المارون بها والذين قد احتاجوا إلى النفقة، فظلوا يعملون بهاحتى يوفروا ويستكملوا أجرة الطريق إلى البيت الحرام، فتمَّت المشاريع بفضل هؤلاءالحجاج. وكم نشأت في طرق الحج من المبادلات التجارية، ثم من المصاهرات والأنساب ماتمازجت به الشعوب والقبائل وتضافرت وتعارفت، ما كان هذا كله ليحدث لولا الحج. وكماصطحب المسلمون معهم من العلماء والدعاة ومن الشعراء والأدباء ومن التجار والخبراءما تغيرت به أحوال بلدانهم في الدين والدنيا معًا.

إننا أمام مشهد حافل بالقصص الفارقةالمؤثرة في تاريخ المسلمين، وكلما ازداد المرء علمًا بهذه القصص استشعر هذا الفضلالعظيم لرحلة الحج على المسلمين.

في هذه السطور، سأذكر بعض شذراتمنثورات من هذه القصص، أحاول بها فتح الباب للقارئ الكريم ليتأمل ويتدبر في فضلالحج على المسلمين، وخير القرّاء من سيُعْمِل ذهنَه وعقلَه في تطوير الاستفادة منرحلة الحج لخير المسلمين في دينهم ودنياهم في قابل الأيام.

 

(1)

كانت دولة المرابطين، تلك الدولةالإسلامية العظيمة، ثمرة من ثمرات الحج، ففي رحلته إلى الحج التقى يحيى بن إبراهيمالجدالي ببعض العلماء، فعرف أن قومَه في ضلالة، فاصطحب معه الفقيه المؤسس عبد اللهبن ياسين، فكانت هذه بذرة دولة المرابطين.. هذه الدولة استطاعت توحيد المغربالأقصى، ثم دافعت عن الأندلس وأجَّلت سقوطها لقرن على أقل تقدير، ونشرت الإسلام فيغرب إفريقيا!.. ولو تصوَّرنا تاريخ المغرب بغير دولة المرابطين لوجدنا أنفسنا أمامصورة كئيبة للغاية لمسار التاريخ في ذلك الوقت!

وقريبا من هذا أيضا حالة دولة الموحدينالمغربية، فقد أنشأها محمد بن تومرت بعد رحلته إلى المشرق، وكان منها رحلته إلىالحج، وهذه الدولة أيضا كان من مزاياها دفاعها عن الأندلس، وكانت أوسع مساحة مندولة المرابطين، ولها سهم في معاونة صلاح الدين يوم كان يحارب الصليبيين، إذأمدَّته برجال وسلاح في البر والبحر!

 

(2)

قام الحجُّ بدور عظيم في إشعال حركاتالمقاومة ودعمها ضد الاحتلال الأجنبي، ومن أشهر ما يُذكر في ذلك ما تدفق على مصرإبان الحملة الفرنسية، إذ ما إن تسامع أبناء الحجاز بأن الفرنسيس احتلوا مصر حتىنزلت منهم جماعات لمحاربتهم إلى جوار إخوانهم المسلمين في مصر.

ومثلُ ذلك حصل أيضا في السودان أيامالحركة المهدية ضد الاحتلال الإنجليزي، إذ كان الحجاج هم من حملوا أخبار المهدي منالسودان إلى الحجاز، فتدفق عليه الأنصار الذين قاتلوا الإنجليز ذلك القتال الباسلالمشهور الذي هو من مفاخر هذه الأمة في ظل موازين قوى منهارة لصالح المحتل!

ولهذا ظلت السلطات الإنجليزية تراقبحجاج مستعمراتها، وتعمل جهدها على أن تحاصر ما يتسرب إليهم من أفكار المقاومة،سواءٌ بتعويق الحج نفسه، أو بوضع السياسات المختلفة لدى حكام مستعمراتها أو لدىصنائعها في نجد والحجاز لتحول دون ذلك.

ولأجل ذلك حضر الحجُّ في المنازعة بينالسلطان عبد الحميد والاحتلال الأجنبي، وظهر ذلك بقوة في خط سكة حديد الحجاز، الذيأراد به عبد الحميد توثيق الصلات بين أنحاء السلطنة العثمانية في العراق والشاموالحجاز وبين عاصمة الخلافة ومن ورائها ديار المسلمين في أوروبا كالبلقان ونحوها،بينما سعى الإنجليز جهدهم لتعويق هذا الخط، حتى تمكنوا من تعطيله على يد صنائعهمفيما بعد.

وظهر أيضا في رحلات الحج التي قام بهاالولاة المسلمون، إذ كان عبد الحميد حريصا على الحفاوة بهم في الحجاز، ويرسلتعليماته إلى ولاة مكة والمدينة، فينشأ بينه وبين هذه الأنحاء صلاتٌ سياسيةتُقَوِّي ما ضعف أو انقطع من الروابط الإسلامية، ومن أمثلة ذلك حجُّ سلاطينزنجبار، وما لقوه من الحفاوة بتوجيه من عبد الحميد، وهو الحج الذي كان بداية تواصلالعلاقة بين زنجبار والدولة العثمانية، مما سخط له الإنجليز، وسبب لهم المشكلات فيمستعمرتهم الإفريقية.

 

(3)

ذكر د. محمود مكي، من شيوخ المؤرخينالسودانيين، خلاصة نفيسة لأبحاثه في تاريخ الإسلام في قارة إفريقيا، تلك هي أنالمناطق التي مرَّت بها طرق الحج هي المناطق التي ازدهر فيها الإسلام وانتشر،والعكس صحيح، ولهذا فإن سكان غرب إفريقيا هم الأكثر حبا للعرب والإسلام، ومن هناأيضا، فإن الاحتلال الأجنبي لما احتل القارة الإفريقية عمل على عرقلة الحج، فصاريضع العراقيل ويعطل الموانئ، مما تسبب في تراجع وتناقص انتشار الإسلام في بعضالمناطق مثل جنوب السودان.

قلتُ (إلهامي): وهو الأمر الذي دفعالمسلمون ثمنا فادحا له ببقاء جنوب السودان وقد غلبت عليه الوثنية، مما أدى معالمؤامرات وطول الزمان إلى انفصال جنوب السودان، ثم إلى المحاولات المعاصرة لتمزيقالسودان نفسه كذلك.

ونحن نرى الحجَّ قد ربط بين المسلمينفي المشرق والمغرب برباط وثيق، ففي أقصى المشرق في ماليزيا وإندونيسا، وكذلك فيأقصى المغرب الإفريقي نرى أسماء البنات والشوارع وغيرها تحفل باسماء مثل: زمزم،صفا، مروة، كعبة، مكة.. هذا فضلا عن لقب "الحاجّ" الذي جعل لصاحبه رنينامحببا في الأسماع والقلوب، واختلط في بعض البيئات الإسلامية بمعنى العلم والسيادةوالولاية.

وإذا استحضرنا أن الحج قديما لم يكنكما هو الآن، بالطائرات والباخرات والحجز المسبق الذي تنظمه السفارات ومكاتبالسياحة ذات الترتيب المسبق والمواعيد الدقيقة، إذا استحضرنا هذا علمنا أن الحاجقد يستغرق الشهور والسنين، وقد يتعرض في الطريق للمعوقات كانقطاع الطريق ووقوعالمرض ونفاد المال وآفات الصحاري والأدغال من السباع والحيوانات، لهذا كله قد يخرجالحاج من بيته ثم يتأخر في الطريق فلا يدرك الحج، فيبقى حيث وصل في مصر أو السودانأو العراق أو الشام سنة أخرى حتى يأتي موعد الحج، فيقضي هذا الوقت في العمل أو فيطلب العلم أو في التجارة، وقد يتزوج ويطيب له المقام. لقد أثمر هذا كله تمازجاإسلاميا قويا بين الشعوب البعيدة، والتي ما كان لها أن تتعارف ولا أن تتصاهر لولارحلة الحج.

وربما وصلت رحلة الحج إلى عشر سنين،وربما خرج الرجل وزوجته معه فاستكملا حياتهما معًا في رحلة الحج، ومن طريف ما يُذكرهنا ما رواه فيلبي من أنه رأى في الحج رجلا بدأ رحلته إلى الحج هو وزوجته ومعهماولد واحد، فظل يمضي ويعمل –كغيره من أهل إفريقيا- في مزارع القطن بالسودان حتىيستكمل نفقة الرحلة، فلما انتهت رحلته إلى الحج كانت قد استغرقت 14 سنة، وصار لهمن الأولاد ستة!! بل ذكر فيلبي أنه رأى رجلا قضى في رحلة الحج سبعين عاما، وذلكأنه أخذ يقيم في كل حاضرة علمية فيتلقى العلم فيها زمنا حتى وصل إلى مكة!!وهذا إن لم يكن من مبالغات فيلبي، فإنه ربما يكون خلطا من الرجل نفسه، إذ كانطاعنا في السن وقتها.

ومن اللطائف التي استفدتها من د. ربيعالحاج، في هذا المؤتمر، أن الموانئ التي أقامها الإسلام في السواحل الشرقيةلإفريقيا كانت تنعم بالأمن والأمان، إذ تعايش فيها الحجاج من أهل البلاد بأخوةالإسلام، على عكس الموانئ التي أنشأها الاحتلال الأجنبي فيما بعد، والتي قامتأساسا للتجارة وامتصاص موارد البلاد، فقد كانت تعجّ بالمشكلات والاضطرابات!

 

(4)

بعض الطرق ما كانت لتنشأ ولا لتتمهدلولا الحج، من أصعبها وأشهرها ذلك الطريق الصخري الذي شقَّه الشيخ الملك عجيبالمنجلك إلى سواكن، وحجَّ منه بالفعل، فزار مكة والمدينة وأوقف بها أوقافا كثيرةعلى الحرمين، في ذلك المؤتمر سمعتُ اسم الشيخ عجيب لأول مرة، ثم تبيَّن أنه كان منالملوك العلماء العادلين، ألَّف عنه د. صلاح محيي الدين كتابه "الشيخ عجيبوالدولة الإسلامية في سنار".

وبعض الممالك ما كانت لتتطور لولاالحج، ومن أشهر ما يُذكر في ذلك أن سلطان مملكة كانم وبرنو الإفريقية (في وسطإفريقيا الآن بين تشاد والنيجر ونيجيريا) الذي أدى الحج عاد إلى مملكته بالأسلحةالنارية، فكان للسلطنة في وقته مهابة ومكانة وسمعة كبيرة، واستقدم الأتراكواستعملهم في صناعة السلاح ومصانع البارود.

وبعض العلوم ما كانت لتنتقل لولا الحج،وهذا حديث طويل جدا جدا جدا، وإذا شئنا أن نضرب مثلا في انتشار العلم عبر طريقالحج، فسنجد مثالا ناصعا في رحلة الحج للشيخ العلامة الكبير محمد الأمين الشنقيطي،صاحب تفسير "أضواء البيان"، فقد سَجَّل الشيخ رحلته إلى الحج، فقَيَّدفيها ما طُرح عليه من الأسئلة في البلاد التي مرَّ بها، وكان السائلون من قضاةالبلاد وأعيانها، والقارئ لهذه الرحلة يجدها قد احتشدت وتكدست بما فيها من العلومفي العقيدة والكلام والفقه والأصول والتفسير والحديث والأدب والشعر، فوق ما فيهابالتبعية من المعرفة بالبلدان والأعيان والأحوال الاقتصادية والاجتماعية لهذهالنواحي.. وسائر هذه البلدان هي التي مرَّ بها الشيخ في طريقه إلى الحج.

وكنتُ قدقدمتُ في هذا المؤتمر ورقة عن تاريخ مصر والتطور الذي حصل فيها بين رحلتيْ اثنينمن المستشرقين: جوزيف بيتس وريتشارد بيرتون، فلقد كان من بركات هذه الفريضة أنهااحتفظت لنا بمشاهد من تواريخ بلادنا ضمن رحلات الحج التي سجلها الرحالة الزائرون،ونرى فيما بين الرحلتيْن كيف انحطت أحوال مصر وصارت مطمعا للأجانب في عهد أسرةمحمد علي، على غير ما هو شائع في التاريخ المصري المعاصر.

وهكذا تظلرحلة الحج تواصل عطاءها في التقريب بين المسلمين، وتمتين ما بينهم، وتغذية المعارفوالعلوم، وتوثيق الصلات والعلاقات، والتعاون على البر والتقوى، ومن يدري: لعل فرجأمتنا وخروجها من نكبتها المعاصرة تكون بذرته التقاء رجليْن أو ثلاثة في رحلة الحجهذا العام، أو العام الماضي أو العام المقبل.. يدبر الله الأمر ويصرف المقادير،والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

نشر في مجلة أنصار النبي، يوليو 2023


وقدنُشِرتْ أوراق هذا المؤتمر في كتاب من أربعة أجزاء، وكان الكتاب منشورا على موقعالجامعة حتى وقت قريب، قبل أن تبتلى السودان ببلواها الأخيرة التي أفسدت كل شيء،ومن ضمن ما فسد: موقع الجامعة، وما عليه من المواد!

صالحمحروس محمد، "رحلات حجاج شرق إفريقيا وأثرها في القرنين التاسع عشروالعشرين"، ضمن: مؤتمر طرق الحج في إفريقيا، 2/18، 19.

فيلبي،حاج في الجزيرة العربية، ط1 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2001م)، ص38، 39.

لمطالعةالورقة، ينظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ، الجزء الأول.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 03, 2023 08:58
No comments have been added yet.