إشكالية البحر والواقع

ــــ اشكالية البحر في أدب عبد الله خليفة ، وتوتر هذه العلاقة بين انسان الجزيرة والبحر كما طرحتْ في روايتك ” اللآلي ” ، كيف تقرأها لنا ؟
إشكالية البحر والواقع
إن البحر شكلَّ خلفيةَ القصة القصيرة في البحرين والخليج العربي ، فمنذ بدأت هذه القصةُ فإن أقدامَها الصغيرة كانت تخوضُ في المياه وفي المصائد المليئة بالخناجر والشباك ، وبهذا كانت الرواية ابنة البحر والغوص ، الذي راحت تنزع أرديته وهي تدخلُ في العصر .
حين كنا أولاداً كانت عباءة الغوص الرمادية المزدانة بالقواقع والشوك والمحار والدماء تنفضُ أشباحها على خيالاتنا الصغيرة ، فنروح نسبحُ فيها فناً ، ونشكلُ أوجاعَ ذلك الإنسان السابق عبر القصة والرواية ، وهكذا تشكلت أولى الروايات البحرينية وهي تمزج بين معاناة بحارتنا وبين عذاباتنا كشباب يتفتح على العمل النضالي الوطني ، وحين كتبتُ ( اللآلىء ) في إحدى الزنازين ، حاولتُ أن أستخدم أحدث القتنيات الفنية وهي عملية المنولوج المطول للربان الذي كان يقودُ الغاصة في رحلة التيه والعذاب والصراع ، تجنباً لأسلوب العرض الواقعي التسجيلي المبسط ، وهكذا فإن البحر والسجن والتأمل والصراع ولدوا تجربة الرواية ، فالبحرهو تاريخ المنطقة وتراثها وليس هو المياه والجزر والينابيع فقط ، هو الماضي التقليدي القريب ، الذي لا يزال ينزف في أجسادنا وكلماتنا . .
إنه الربان غير التقليدي ، واللغة والمكان والتراث كانت تحاول أن تتحدث وتغدو عصرية متحررة ، مثل البلد مثل أجسامنا المحصورة في صناديق سافرة . .
ــــ كونك مشروع ثقافي ، فكيف تنظر الى مستوى الثقافة الخليجية ، وكيف لك أن تقرأها على مستوى الرواية ؟
رواية الخليج
غدت اهتماماتي كثيرة ، ومنها عملية النظرِ إلى النوع الروائي وهو يتشكلُ في الجزيرةِ العربية والخليج ، وقد جرى هذا الاهتمام عبر القراءة الحرة أولاً ثم عبر طلبات تقدمت بها منتدياتٌ وندواتٌ لعرضِ تجربة المنطقة ، في هذا النوع الإبداعي الذي راح ينمو بسرعةٍ كبيرة ، فقدمتُ دراسات كانت عملية تتبع مستمرة على مدى العقدين السابقين لنشوء وتطور الرواية في المنطقة ، كانت الدراسات تتجه نحو مواقع روائية وتجارب روائية محددة ، عبر التركيز على عمل روائي أو مجموعة من الروايات لكاتب واحد ، وبعدها غدت دراسة واسعة لتجارب كثيرة .
وهذه العملية قادتني إلى استنتاجات ، هي بمثابة اكتشافات للنصوص وللواقع الذي ظهرت فيه ، فكانت هناك بنيتان للرواية ؛ بنية ما قبل الرواية ، وبنية الراوية ، وبنية (ما قبل الرواية) هي بنية منتشرة سائدة تتمثل في تشكيلات قصصية مهلهلة لا ترتكز على محاور بنائية قوية ، ولا على نماذج ولا على أحداث جوهرية مغروزة في الواقع ، بل تستند على مغامرات تطفح على الأشياء والعلاقات ، وبنية الرواية المضادة والمتنامية بخلاف تلك الأشكال الخاوية ، وهي ترتكز على مدى تقدم الوعي الفني الواقعي ، وفهمه لتطور التاريخ والإنسان، ولهذا فإننا نجد في رواية الخليج الحقيقية المحاولات الأولى العميقة لدرس وتفحص الحياة الاجتماعية وكيفية سيرورة المشاعر والأفكار ، لكن هذه الوراية الجادة لا تلاقي رواجاً لأسباب كثيرة ، حيث يقبل الشباب خاصةً على رواية التسلية . .
إنني أجد في بعض كتابات الشباب في السعودية وعمان محاولات جريئة لاختراق شبكة العلاقات المستورة بأشكال كثيرة من النفاق والبهرجة والخداع ، فتجد كتابات تنفذ إلى صراعات الفقر والغنى ، الفساد وقوته وانتشاره والأنتماء وضعفه ، وندرة نماذح المقاومة في واقع رث متخلف أمي . .
ــــ إن حضور التاريخ في أعمالك يشكل ذاكرة وطنية ، فكيف ينظر الآخرون اليها ، وهل أوقعك هذا التاريخ في صدام مع السلطة والآخرين ؟
التاريخ في الرواية
تغدو الرواية روايةً تاريخية حين تتوجه إلى مساحة زمنية سابقة وتعرضها بأساليبها المختلفة .
كنتُ قبل أيام أقرأ كتاب جورج لوكاش ( الرواية التاريخية) بعد أن كنتُ قرأته سابقاً ، لكنني رحتُ أقرأه في هذا الوقت وأتتبع عملية رصده للرواية التاريخية عالمياً ، في القراءة الأولى كنتُ أتفق معه كثيراً ، في القراءة الثانية صرتُ أختلف معه كثيراً !
لكن هناك حكمٌ لديه يظل هاماً وهو أن الرواية سواء كانت اجتماعية معاصرة أم رواية تاريخية ، ينبغي أن تكون ممتعة ، غنية بقدرتها على تحليل وتجسيد الإنسان والحياة والتاريخ ، لكن هناك النموذج المبسط في رواية(والتر سكوت) البريطاني ، والنموذج العميق عند تولستوي مثلاً . لكن النموذجين يحافظان على بنية روائية ممتعة وغنية . لكن العديد من الروايات التي يعرضها لوكاش في كتابه لأسماء لامعة ليست بمثل ذلك الوهج المفترض كمدحه لمسرحيات جوركي مثلاً أوتنقيصه من أهمية زولا . .
ولكن الرواية التاريخية عربياً لم تكن بذلك الغنى العالمي رغم ضخامة التاريخ العربي . لقد قمتُ بدرسِ هذه الرواية لدى جورجي زيدان ونجيب محفوظ ، في دراسة لم تنشر في كتاب ، فكانت استنتاجاتي أن الرواية العربية التاريخية تحتاج إلى أعمال كبرى ، ولهذا عكفتُ على قراءة التاريخ والفكر العربيين ، من أجل أن أحضر نفسي لكتابة رواية تاريخية كذلك . .
وقد كانت الرواية التي كتبناها عن الماضي الخليجي القريب أشبه ما تكون برواية تاريخية ، لكنها رواية اجتماعية معاصرة في ظني . فهي تعرضُ وتنقد وتكشف نسيجاً اجتماعياً لا نزال نعايشه ، رغم أنه صار من التاريخ ، فلا توجد في الواقع سدود بين الرواية التاريخية والرواية الاجتماعية ، لكن الرواية التاريخية تتعلق بالتاريخ المنتهي ، في العصور السابقة .
ولهذا فأنا بدأت بالنوعين الممزوجين رواية اجتماعية ترتكزُ على التاريخ ، ورواية تاريخية ذات قراءة اجتماعية ، لكن التاريخ ليس هو التاريخ الفعلي المتحقق فقط ، أي الذي حدث فعلاً ، بل هناك كذلك التاريخ الذي لم يحدث ، وهو الجانب الذاتي المنسوج داخل ذلك التاريخ الفعلي ، ليس بغرض العرض المدرسي كما يفعل جورجي زيدان ، بل بغرض تحليل وتجسيد رؤية معينة للتاريخ وللحاضر كذلك . وبهذا تغدو الرواية عرضاً درامياً لإشكاليات الإنسان والسلطة والحقيقة الخ . .
ولهذا فإن الرواية حين تكون موضوعية غير متحاملة على الشخوص التاريخية الحقيقية ، فإنها لا تسبب مشكلات مع الناس ، أي حين تكون صدقاً وحتى لو كان جارحاً فهو مشرط تحليل وتشخيص . .
وعلى هذا الدرب كتبتُ ( الينابيع ) بثلاثة أجزاء لم تنشر مكتملة ، وروايتين تاريخيتين ( رأس الحسين ) و(عمر بن الخطاب شهيداً ) لم تنشر كذلك حتى الآن .


