الوعيُّ القرآني قفزةٌ نوعي

في حياةِ القبائل العربية الجاهلية نمطٌ إجتماعي جامد، جعل حياةَ المجموع الخاضع لمهماتِ القبيلة هو كل شيء، والقبيلةُ مثل الحجر الصوان لا ينفذ فيه الفردُ، ويشكل إستقلاليته.
الاستقلاليةُ الشخصية، عبقريةُ الفردِ في الرؤية والمسار، وتوحدُهُ مع المجموع للخير والتقدم العام، هي السماتُ المُزَّالة من تكوينٍ بشري عضوي أشبه بالفصائل الحيوانية، فكانتْ القبيلةُ الشرطَ الوحيد الممكن للبقاء في ظروف طبيعية شرسة لمدة آلاف من السنين.
وقد عبّرَ الشعرُ الجاهلي عن بدءِ التفتح، عن ظهورِ الفردِ المستقل بأشكالٍ بسيطة محدودة، ففي تمردِ طَرَفة بن العبد لمحةٌ ذاتية قوية، وفي وقوفهِ مستقلاً بين الكتلِ الاجتماعيةِ المتضادة بروزٌ مدهشٌ لفرديةٍ جامحة قليلاً رغم إدمانه وقلة تبصره في قضايا الصراع الاجتماعي السياسي.
في حركةِ أمريء القيس إستقلالية وتحدٍ للقبيلة، وإحتفالية بمظاهر الطبيعة والفرح، ولكنه ظلَّ مشدوداً لحبالِ القبيلة حتى جاءتْ بأجله.
شعراءٌ آخرون كالنابغة بحثَ عن مصلحتهِ الخاصة، وكيف يكسبُ النقود، آخرون إندمجوا بملحمية صراع القبيلة، كعمرو بن كلثوم، أو الحارث بن حلزة ومن خلال رؤى متضخمةٍ أو حكيمة، لكن القبيلة ظلتْ تزيلُ ذاتيةَ الفرد حتى لو تمرد كالصعاليك.
هذا الوعي الشعري المسيطرُ على النتاجِ الثقافي كان تعبيراً عن الأنا القبلية، فالقبائلُ هي التي تشعرُ من خلال الأفواهِ الفردية، والقبائلُ كائناتٌ إجتماعيةٌ متصادمة، تتحركُ من أجل العشب ومصالحها الخاصة، وتلغي مجموعَها وتاريخها.
جاءَ الشعرُ والنثرُ الدينيان الجاهليان صدىً للحراك الاجتماعي الروحي الديني في الهلال الخصيب ومصر والعراق، لكن عبرَ نشاطٍ مجرد، يُحضرُ الثقافةَ الدينيةَ عن اليومِ الآخر والإلهِ وغير ذلك من مفاهيم مركزية روحية إجتماعية كبرى، بدون تغييرٍ للبناءِ الاجتماعي السياسي العربي الممزق والمتآكل.
مكة لعبتْ دورَ التوحيد. الفردُ الذائبُ في القبيلة والضائع الوجود والعمر في الحروب التي لا تتوقف وجدَ شخصَهُ المستقلَ بعض الاستقلال في المدينة التي وَحدت كيانات قبلية في تكوين حضاري.
أمكن للمثقفِ الفاعلِ المغيرِ المستقل أن يظهرَ في شخصية النبوة. هي التي أستوعبتْ ثمارَ الوعي الديني المناطقي العالمي، ولم تنفصلْ عن(الشعب).
التكوينُ الذاتي المستقلُ المرتبطُ بمهماتِ التحويل العامة للأمة في شكلها الجنيني القبلي وقتذاك، خصائصٌ لم تظهرْ إلا عبر حراك ثقافي سياسي، جوهرهُ تحليل العلاقات الاجتماعية المُفكَّكة ونقد رموزها، المتمثلة في الديانة الوثنية، فالصنميةُ هي عشوائيةُ وترابيةُ حياةِ القبائل، وغياب التكوين الشعبي الموحَّد، وعدم العلاقة الديمقراطية بين الفرد والجماعة، بين الشيوخ والأجراء.
ولهذا كانت اللغةُ القرآنيةُ تجاوزاً وتحليلاً ونقداً تداخلت فيها البلاغة بالحفر المعرفي، بتغيير التوجهات الإيديولوجية التفتيتية.
الحرية النسبية التي ظهرتْ هنا بتفكك سطوات القبائل، وتصاعد ديمقراطية جنينية عبر وجودِ فئةٍ وسَطيةٍ تحديثية هي فئةُ التجار التي تحالفتْ مع الفقراء، أمكن لها أن تحيلَ واقعاً كبيراً لجنينِ الأمة العربية إلى إمبراطورية ثقافية كبرى مختلفة.
هذا النموذجُ لن يتكررَ في القرون التالية ولهذا بقيتْ اللغةُ القرآنيةُ نموذجاً لا يُدركُ جوهرُهُ، وكلما أمكنَّ ظهور فئاتٍ وسطى مستقلة عن الهيمنات العامة الداخلية والخارجية، العربية والأجنبية، وتخلق جسوراً مع العامةِ لتشكيل بناء مشترك أكثر تقدماً، كلما حدثتْ لحظاتُ تقدمٍ على صعيد حرية الفرد وتقدم المجموع.
في الزمن الراهن للأمة العربية توسعت هذه اللحظة وصارت شعوباً ودولاً، والتحنيط الذي قامت به الأجهزةُ الحكومية، وتذويب الفرد في التراب، وضياع المجموعات بين التيارات التغريبية الشمولية، تم كسره بقوة وشجاعة منقطعة النظير، تذكرُنا بملاحم عرب صدر الإسلام، ولا شك أن ترسيخ الحداثة والديمقراطية، أي إستمرار خطى التقدم، وتوسع حريات الأفراد والجماعات في ظل دساتير متطورة ورقابة شعبية على الثروات العامة، سيجعل الأمة العربية في قفزة جديدة، وتكون نموذجاً للأمم الإسلامية والنامية عموماً.


