أسلوب القصة عند الجاحظ في (البخلاء)

المسالم والأناني            أسلوب القصة عند الجاحظ في (البخلاء)

اعطى عبدالحميد الكاتب النثر العربي الخطوط الإنشائية العريضة ، دون ربط هذا الإنشاء بجنس أدبي قصصي ما ، وهو ما تجاوزه ابنُ المقفع الذي بدأ من هذا الإنشاء العام ، داخلاً به في المنحى الأخلاقي التحليلي كما في كتابه(الأدب الصغير والأدب الكبير) ، ثم تجاوز هذا أيضاً في صياغته القصة ، وإن كانت مترجمة كما في كليلة ودمنة ، لكن عبر هذا المؤلف جمعَ بين خطوط الصياغة الإنشائية الأولى المجردة وبين موضوعات الحكمة وجنس القصة ، وبهذا فقد انعطف بالنثر من كونهِ كياناً إنشائياً ، كما في الرسائل ، إلى كونه جنساً قصصياً.
لا شك أن هذا الإدخال ساعد فيهِ عنصرُ الترجمة ، وهو ما يشير إلى عمليةِ نقلٍ من أدب قومي إلى أدب قومي آخر ، كذلك فإن العنصر الخيالي الحيواني المستخدم في كليلة ودمنة ، يجعل من هذا النثر القصصي المترجم والمصاغ عربياً ، على ضفاف تحليل الحياة المعاصرة وقتذاك ،(1).
والخطوة التالية قام بها الجاحظ ، الذي كان عضواً نشطاً في حركة المعتزلة ، ونستطيع أن نعتبره القائد الأدبي للجماعة في العصر العباسي الأول ، وهو إذ يصل إلى طرح مفاهيم فلسفية تجريدية للحركة فكذلك هو مبدعٌ كبيرٌ شكل موسوعة في كل فن ثقافي ، وإذ له كتابات التحليل للثقافة العربية البيانية ، فإن له صياغة النثر القصصي الداخل في تحليل الحياة المعاصرة وقتذاك ، من جوانب متعددة فيها ، عبر قراءته للفئات الاجتماعية الحقيقية ، وعرض وجهات نظرها وحكاياتها جنباً لجنب.
لقد برزت موضوعية القصة الواقعية التسجيلية لديه ، عبر عرض الحكايات بصدق ، فهو يسجلُ ليس بشكل فوتغرافي مبسط ، بل هو يُضفي على هذه الصور ألواناً من فن الخطابة ، ومن التجسيد الحكائي ، ومن التحليل العرضي .
ففصل سهل بن هارون الذي يبدأ به كتابُ(البخلاء) يعرضُ المرافعة الدفاعية أو الخطبة وهو شكلٌ أدبي مفتوح ، يعتمد التقرير أكثر من التصوير ، يقول سهل:
(عبتموني حين قلتُ للغلام: إذا زدتَ في المرق فزد في الإنضاج ، لنجمع ما بين التأدم باللحم والمرق ، ولنجمعَ مع الارتفاق بالمرق الطيب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا طبختم لحماً فزيدوا المرق ، فإن لم يصب أحدكم لحماً أصاب مرقاً .
وعبتموني بخصف النعال وبتصدير القميص ، وحين زعمت إنه أبقى وأوطأ وأوقى ، وأنفى للكبر وأشبه بالنسك ، وأن الترقيع من الحزم..) ، (2)
يحول الجاحظ المرافعة الذاتية لشخصية سهل بن هارون في دفاعه عن البخل إلى ما يشبه اللغةٍ الموضوعية الرصينة ، التي تستعينُ بالمشاهد والمرويات التراثية ، وبأشكال اللغة الجدالية الفكرية للعصر ، للتدليل على أهمية الاقتصاد في الحياة حتى يتحول الدفاع الرصين إلى كاريكاتير ساخر .
إن الشخصية المسجلة تـُؤخذ كأقوالٍ منتقاةٍ مرصوفة بروحٍ فكاهية مرحة ، لكن مشهديات حياتها الأخرى تغيب ، بل أن هذه الشخصية تنقطعُ تماماً ولا تبقى سوى الخطبة الاستهلالية في الكتاب ، وهو ما يقطع بين ماض ومستقبل الشخصية ، وجذورها وسيروتها وتناقضاتها المختلفة ، فتتحول الخطبة إلى ملحة ساخرة موجهة نحو عرض كيفية البخل من خلال الدفاع عنه بقلم مثقف .
إضافة لاستخدام الخطب ونموذجها في تجسيد الموضوع الأدبي فهو يستخدم بوفرة كبيرة اللوحات القصصية الصغيرة والكبيرة لعرض الموضوع من جهاتٍ أخرى ، وفي أمكنةٍ مختلفة ، وعند شخصيات مختلفة .
نقرأ من هذه المشهديات:
(وزعم أصحابنا أن خرسانية ترافقوا في منزل ، وصبروا على الارتفاق بالمصباح ما أمكن الصبر . ثم أنهم تناهدوا وتخارجوا ، وأبى واحدٌ منهم أن يعينهم ، وأن يدخل في الغرم معهم ، فكانوا إذا جاء المصباح شدوا على عينيه بمنديل ولايزال ولا يزالون كذلك إلى أن يناموا ويطفئوا المصباح ، فإذا أطفؤوه أطلقوا عينه) ، (3).
إن الجاحظ يشكل لوحات دقيقة بلغة مكثفة تصويرية ، ولكن تبقى اللقطة جزئية مرصودة بشكل قدحي مسبق ، وهو على طريقة الروي القولي السائد يأخذ الروايات من أصحابه ومن معارفه . وهو يغوص في هذه الظاهرة في تلافيف صغيرة فيها ، دون أن يهتم بربطها بظاهرات أخرى إلا من جوانب الاجتماعية تأتي داخل هذا السرد ، دون أن يقصد إليها ، فبؤرة السرد تأخذه دائماً إلى قلبها:
(قال أصحابنا من المسجديين:
اجتمعَ ناسٌ من ينتحل الاقتصاد في النفقة والتثمير للمال من أصحاب الجمع والمنع . وقد كان هذا المذهب عندهم كالنسب الذي يجمعُ على التحاب ، وكالحلف الذي يجمع على التناصر ، وكانوا إذا التقوا في حلقهم تذاكروا هذا الباب وتطارحوه وتدارسوه التماساً للفائدة واستمتاعاً بذكره) .
إن هذه المجموعة المكونة من صغار المنتجين والباعة ذات عائدات اجتماعية معينة ، لكن الجاحظ يدعُ كلَ هذه الظروف المحيطة بهم ، مركزاً على خلة الاقتصاد المرئية كعادةِ بخلٍ شديد ، وينغرس في ظروفهم واصفاً إياها بذات اللغة المعبرة الدقيقة:
(فقال شيخٌ منهم:
ماء بئرنا – كما علمتم – مالحٌ إجاجٌ ، لا يقربه الحمار ولا تسيغهُ الإبلُ وتموت عليه النخل ، النهرُ منا بعيد وفي تكلف الَعذب علينا مؤونة) ،
وسواء كانت هذه الخصلة لدى مثل هؤلاء الحرفيين والمزارعين أم لدى أحمد بن خلف اليزيدي الذي ورث الكثير ، ويخاف أن يدعو أصدقاءه لعشاء ويستفيد من دعواتهم الكثيرة له .
إن الخصلة هذه ومظاهرها المختلفة المعزولة عن مظاهر الحياة الأخرى هي ما يشكلُ طبيعة النثر هنا ، وهي تتمظهرُ عند هذه الشخصية المعروفة أو عند أهالي مرو الكثيرين غير المحددين .
فهنا ما نطلق عليه بنية التجاور(القصصي) ، رغم أن بعض هذه المتجاورات ليست قصصاً ، بل حكايات صغيرة ، أو لقطات سريعة .
وبنية التجاور القصصي هذه مكرورة ، فالجوهرُ واحدٌ ، هو تجسيد تلك الخصلة وذمها والسخرية منها ، وهذه المماثلة تقود إلى عدم نمو القصص أو الحكايات مع بعضها البعض ، وإفادة بعضها البعض بكشفِ نواحٍ جديدة ، أو عرض جذور متناقضة وأسباب لهذه الخصلة ، أو عرضها مع خصلة مضادة تكشفُ جوانب جديدة ، أو أن الشخصية التي تظهرُ تواصلُ الحضورَ وتتعرض لمشكلات وتطورات تعمق فهمنا لهذه الرذيلة أو الفضيلة .
فهذه الخصلة التي يعيشها نفرٌ من الفئات الوسطى الصغيرة والكبيرة ، وكذلك بعض الأفراد العاديين ، غير معروضة في زمنيةِ هذه الفئات ، حيث أنها تدخل مدناً جديدة التكون ، صعبة الظروف ، ذات طبقة حاكمة باذخة ، فيظهرُ هؤلاءُ الشخوص في فضاءٍ مجرد ، لا صعوبات عيش يعانونها ولا مخاوف يستبقونها ، والمؤلفُ يأخذ التصرفات ويصفها في حدثها الجزئي بموضوعية ، فلا يبالغ أو يضخم ، بل يصورُ بشكل تسجيلي مباشر .
وهذا العزل وعدم المبالغة وتكاثر ذات الأنماط وغياب التاريخية لها ، يحيلـُها إلى كائناتٍ صغيرةٍ في ذواتها ، غيرِ واسعة الدلالة .
فهي لا ترتبط بتطورٍ عميق للمدينة المرصودة ، بؤرة المرحلة النثرية الجديدة ، رغم العلاقات الخفية التي نستشفها من هذا التواجد الكثيف لهذه الأنماط .
إن ارتباط الوعي الفكري العام بالكائنات العلوية واعتباره الوجود البشري نتاجاً مباشراً لها يجسد عدم القدرة على الوصول لسببيات أبعد من السببيات المباشرة التي تبدو هنا لدى الجاحظ في كون أسباب البخل شخصية جزئية ، فهي صفات فردية محضة ، فلا يقدر الوعي للنفاذ أبعد من ذلك ، مثلما أن وعي الاعتزال في هذه المرحلة يقف عند السببيات القريبة ، ويعجز عن ربطها بسببيات اجتماعية كبيرة ، ولهذا تأتي القفزة إلى التفسير الإلهي البعيد ، (4).
وتعتمدُ طريقة الجاحظ عموماً على الاستطراد وعرضِ رويٍّ موسع ، يأخذ الأقوال على مدى زمني كبير ، وتجثم المرويات متجاورة قرب بعضها البعض بلا حفر سببي تعليلي عميق كما يفعل في(البيان والتبيين) لكلمة(العصا) ، ويرتبط هذا الروي المتجاور بتصور عقلية مطلقة خاصة للعرب ؛ (وكل شيء للعرب فإنما هو بديهية وارتجال ، وكأنه إلهام) ، (5).
إن بنية التجاور القصصي ، وبُنى المتجاورات الجدالية ، القصصية ، التشريعية ، هي بنى سائدة في زمنية عدم تبلور الأنواع الأدبية وفي زمنية الانتقال من الثقافة الشفاهية إلى ثقافة الكتابة المشروطة بُبنى المجتمع .

ــــــــــــــــــــــــــ
مصادر:
(1):(راجع تحليلنا المطول لفكر ابن المقفع في كتابنا(الاتجاهات المثالية، جزء2 ، فصل 6 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ص 407 – 434).
(2): (البخلاء ، ص 11).
(3):(المصدر السابق، ص 18).
(4):(الاتجاهات المثالية ، مصدر سابق ، فصل الاعتزال ، ج 3 ، ص 77).
(5):(البيان والتبيين ، جز3 ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ، ص 20).

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 27, 2023 03:27
No comments have been added yet.