الوعي الجدلي في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

كلُ شيءٍ يتغير إن التناقضَ هو أساسُ حياة البشر، وبدون تناقض يزول البشر.الوعي الجدلي في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

المنعزل أبو العلاء المعري يجادل عصره وينقده ويسخر منه، فهو في بؤرةِ الصراع مع هذا العصر، الأسطوري، الممزِق لعالم البشر، وضد نماذجه المختلفة.
في قلب المعركة وقد إمتلأ بثقافته حتى التشبع، وتجذر فيما هو محوري مسيطر عليها، يتلاعب به، ويوظفه ويسخر منه.
اللغةُ كشكلٍ تعبيري تاريخي مهيمن لديه هو بسببِ عدم إمكانيته الشخصية ليصور تصويراً حسياً متصاعداً، يكشفُ سيرورةَ وواقع الأشياء.
فعبر اللغة التي هضمها وغدت الانعكاس المباشر جاءت ألوانُ الثقافة، وهي القريبةُ المباشرةُ المتولدة من اللغة، وعبر هذا تتصاعد الصورُ التركيبية: الغابية الرمزية في البداية.
فالبطلُ المضاد هو(علي بن منصور) ممثل الثقافة الدينية الإسطورية المستغِّلة للجمهور، يتقدمُ على المسرح التاريخي الجغرافي ليقذف في وجه الشاعر المقاتل أبي العلاء بإنتقاداته المقزمة من قامة أبي العلاء.
الوعي الجدلي عند أبي العلاء يتسم بالمكر والتعدد وتحويل اللغة لشبكة رموز.
(قد علم الجبرُ الذي نُسب إليه جبريل، وهو لكلِ الخيرات سبيل، أن في مسكني حماطة ما كانت قط أفانية، ولا الناكزة بها غانية، تثمر من مودة مولاي الشيخ الجليل، كبتَ اللهُ عدوَهُ، وأدام رواحه إلى الفضل وعدوه، ما لو حملتهُ العاليةُ من الشجرِ، لدنت إلى الأرض غصونُها، وأذيل من تلك الثمرة مصونها)، ص 1.
يقول هنا بأن الوعي الجبري المشكلَّ للدين عَرفَ بأن في صدرهِ غابةُ أفاعٍ.
ولهذا فإن المفردات المتراقصة طرباً موسيقياً، المتشكلة تصويراً تكشف ذلك:
حماطة: شجرٌ حين ييبس.
الحضبُ ضربٌ من الحيات.
أفانية أي لم تخضر هذه الشجرة أبداً.
إن هذا الوعي الذي يحمله أبو العلاء هو مثل هذه الشجرة المليئة بالرموز والحيات ذوات السم المعرفي وهي تنحني حتى تلامس الأرضَ من ثقلِها ولموضوعيتِها في تعرية الواقع.
وطرقُهُا الصلدةُ هي هذه المعرفةُ الموسوعية باللغة، البطلة الرئيسية التي ستنطلق في التراث تضعَهُ في خيوطِ الغزلِ الدقيقة في التاريخ وفي الشعر المتوهج بحبِ الحياةِ وبالحب الجنسي، هذا هو الشيخُ المتكلمُ الذي وصفوه بالزاهد يتحول إلى متفحص دقيق للشجر وصنوف الحياة والمأكولات والمشروبات الروحية وكافة الأشياء اليومية.
الرجل الذي أُتهم بالزهد المخل يكشف معرفته باللذة بكل أشكالها.
والمعري في توضيحهِ للكلمات لا يعدمُ السخريةَ المستمرة من هذه الثقافة التقليدية، فيشرحُ معنى(حماطة) التي أستلها من تلك الشجرة المليئة بالسم:
وإذا أمُّ الوليدِ لم تعطني حنوتُ لها يدي بعصا حماطِ
ويتوقف ساخراً حول حبة القلب تلك.
يتحول الكلامُ لغموضٍ يتوهُ فيه القارئ من نمط علي بن منصور، فحبُ الشاعر حبٌ يضمرُ للشيخ علي ما لم تضمرهُ أمٌ لولد، سواء كانت حيةً مليئة بالسم أو لم تكن. وأبو العلاء وهو في المنزل المنعزل يمتلك تلك المعرفة المكتنزة المخبؤة التي لا يكشفُ عنها، يحيطُها بشجرِ اللغةِ الكثيف، حيث الحيات، التي تلدغُ من يتحرشُ بها.
وفي هذه التشابيه تتناثرُ الأسماءُ الرمزيةُ البطولية والفاعلة التي يحتمي بها أبو العلاء:
عنتر، وزبيبة، والسليك، وخفاف السلمي، والأسود بن المنذر، والأسود بن معد يكرب، إنهم أبطال العمل والشعر والسلاح والكفاح في تاريخ العرب والإسلام.
فيما علي بن منصور يعيش على حساب المترفين في (هذا) العصر.
إن حبةَ القلب هذه سوداء مكتنزةٌ بالتاريخ وأصحاب العطاء:
إنهم هؤلاء المنغمرين في الثقافة واللغة، والذين يؤلونها ويتجاوزون جمودها.
أبو العلاء لا يعرف الألوان إلا من خلال الثقافة، ويشكل جدليته هنا من تضاد الأسود والأبيض، ومن تضاده مع علي بن منصور، وحيث يتعارضُ كدحُ السودِ مع إرستقراطية البيض.
سويد بن الصامت؛ من أحناف الجاهلية، معروف بمكانته الأخلاقية الرفيعة عرض على النبي صحيفة لقمان.
ويزيد بن زمعة الأسود وهو ذو مكانة عالية عند قريش قبل الإسلام وأسلم وهاجر إلى الحبشة.
أما خفاف بن ندبة السلمي فشاعرٌ مخضرم، إشتهرَ نسبة إلى أمه ندبة بنت شيطان، وكانت سوداء، وهو من فرسان العرب المعدودين، وروي عن الأصمعي قوله: خفاف ودريد بن الصمة أشعر الفرسان.
وسويد بن أبي كاهل كان شاعراً مخضرماً فقيراً(مرهف الإحساس، راقي الذوق، مع إحتمال أن يكون قارئاً كاتباً)، الموسوعة العربية.
الأسود بن المنذر وكان أحد ملوك المناذرة وكانوا يعظمونه.
نماذج ليست بالضرورة سوداء البشرة لكنها عالية الشمم تنتمي إلى الأرض.
وسويد بن صميع يقول:
إذا طلبوا مني اليمين، منحتهم يمنياً كبرد الأتحمي الممزقِِ
وإن أحلفوني بالطلاق أتيتها على خير ما كنا ولم نتفرقِِ
يتشابه وعي هذا الشاعر(سويد)بقراءة ابي العلاء الجدلية، فشكلياتُ العلاقة الرسمية الزوجية مخترقةٌ بحب عميق، مثلما يَخترقُ أبو العلاء الألوان الطبقية غير المرئية لا ببصره بل ببصيرته، ويرى خيط هذا التقدم الاجتماعي الثقافي من زمنية الفرسان.
(وحضرَ في نادٍ حضره الأسودان اللذان هما الهنم والماء، والحرة الغابرة والظلماء. وإنه ينفر عن الأبيضين، إذا كانا في الرهج معرضين، الأبيضان اللذان ينفر مهما: سيفان، أو سيف وسنان)، ص3.
إن أشكال الحياة تتضاد مع أشكال الموت والحرب، الماء والتمر بخلافٍ مع مناطق الجدب والقتال، والقوى البشرية الترابية بخلافٍ مع القوى العليا البيضاء التي تقود لجدب الحياة.
الألوان ذاتها تتغير وتتداخل مع الحالات الإنسانية، ف(الأبيضان أبردا عظامي الماءُ والفتُ بلا إدامِ)،
على خشبة مسرح المعري
إن أبا العلاء يدخلنا عالم التضادات الجدية والساخرة، يحول علياً بن منصور الجاد التقليدي إلى بطل يقتحمُ الغيبَ الآتي، ويدخل الأسطورةَ الدينية، ويسأل عن دقائق الشعر، ويعيش عالماً آخر على النقيض من عالم الحياة، وعلى النقيض من وعي التقليديين بالحياة.
وتحويل علي بن منصور إلى بطل قصصي، ليس كلياً، فأدواتُ المعري النثرية خطابية، وهو لم يُشكل معالجات نثرية قصصية مطولة سوى هذه(رسالة الغفران) و(الصاهج والشالح) التي كُتبت قبلها بعدة سنين، ولهذا أعتمد على سيرورة النثر النقدية والسيرية وموسوعات أدب البلاغة وغيرها من الطرائق التي لم تجعل البطولة البشرية في مبنى سردي وقائعي حياتي متصاعد.
ولهذا فإن علياً بن منصور يقفز إلى مسرح المعري، منتقلاً من الحياة الدنيا إلى الآخرة، ومن عالم البلاغة النصوصية لعالم البلاغة الإلهية، ومن حراكِ الأرض الزاحف الجامد لحراك السماء الصاعق.
الخصمُ الأرضي يصيرُ راوياً سماوياً، والمؤلفُ المعري المسيطر على لغة العرب وأشعارهم وحكاياتهم يحركُ هذه المادة التراثية والراوي.
وإذ يصير علياً بن منصور مراسلاً للمعري، حيث يبدأهُ بالخطاب، فهذا من لغةِ العصر الأدبية، حيث الرسالة والرد عليها جنسٌ أدبي منتشر سائد، وتتحول الرسالةُ لشكلٍ أدبي ذي تاريخ وعادات إبداعية، وهو شكلٌ يقوم على العلاقة بين مرسلٍ ومرسل إليه، والشكل حواري بلاغي، هو نتاجُ المجلسِ الأدبي العربي وقد صار حواراً ثنائياً مكتوباً، وجمعَ البحثَ الأدبي والتصويرَ القصصي.
ويحول المعري الرسالة الشخصية المنصورية المتعالية المنتفخة بغرورها الثقافي الاجتماعي إلى ملهاةٍ شعبية،
وتُفتتح الملهاةُ بلغةٍ أطنابيةٍ مجلجلة:
(وغرقتُ في أمواج بدعِها الزاخرة، وعجبتُ من اتساق عقودِها الفاخرة. ومثلها شفعَ ونفع، وقرّب عند الله ورفع).

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 27, 2023 03:23
No comments have been added yet.