صراع اليسار واليمين في الإسلام

في كل حركة اجتماعية تاريخية تتشكل أجنحة متباينة الرؤية، وكل منها يعتقد بأنه المعبر عن هذه الحركة والقريب من جوهرها ومن مبادئها الأصيلة. وخطورة التباين في الحركات الاجتماعية الدينية أنها تقود إلى تكون المذاهب المتمايزة، وتقسيم المؤمنين على أساس عقيدي، غير قابل للتغيير أو التقريب، لأن كل منها يتمسك بأساسياته التي تكونت عبر عصور طويلة، راكم فيها المؤسسون أشكال الاختلاف، رغم أن هذه هي مجرد بنية عبادية أكثر منها مضامين اجتماعية أو رؤى طبقية أو سياسية متميزة. وفي البدايات فقط ظهرت عمليات التمايز الواضح بين الاتجاهات، ولكنها ظهرت كاتجاهات اجتماعية بارزة، فقد ظهر حزبان واضحان في مجرى تكون الحركة الإسلامية التأسيسية وفي تكون الدولة الإسلامية. فقد تشكلت الحركة الإسلامية برفد واسع من الفقراء ورعاة الصحراء الذين انضموا بشكل كثيف إلى الحركة، وقد جاء الفقراء والعبيد إلى الإسلام في مكة، وكان جزء من ذلك موجهاً إلى ساداتهم الذين أرهقوهم بالاستغلال. كانت القواعد الأساسية للحركة الإسلامية قد تكونت من الفقراء وهذا لم يختلف عن الحركة الدينية المسيحية في باكورة نشأتها، فكلا الحركتين ثورتان مميزتان في تاريخ المشرق.
أما التجار الصغار والمتوسطون فقد جاءوا بشكل أقل، ولكن تم الإخاء بين هذين الرافدين الاجتماعيين، ليكونا عماد الدولة السياسي فيما بعد. كان توجه الإسلام للفقراء قد رافقة هجوم قرآني عنيف على كانزي الذهب، ومستغلي الحاجات الاقتصادية عبر الربا، أكثر الأشكال فظاظة للاستغلال الاقتصادي، وكذلك الغش في البيع، إضافة إلى نقد العادات الاجتماعية المرافقة لهذا الاستغلال كغرور السادة وتعاليهم، واضطهاد النساء وقتل الأطفال وعدم مساعدة الفقراء والعبيد، وجاء تعبير «فك رقبة» ليجعل ملاك العبيد يرتعشون خوفاً على مصالحهم، حيث تقوم أفريقيا بشحن المعذبين إليهم. وكان من شأن ذلك كلة نفورٌ من أصحاب النفوذ والجاه تجاه الدعوة الجديدة، التي كانت بشير ثورة سوف تطيح بعالم كامل من التخلف. ومع هذه المعارضة من أصحاب المصالح الكبرى، الذين أججوا السادة في القبائل الأخرى، حيث قالوا لهم بأن الإسلام يهدف إلى الإطاحة بتجارة مكة ومكانتها كعاصمة للعبادة الدينية وبالتالي التجارية، مما جعل الحركة الإسلامية محصورة في مكة وغير قادرة على فك الحصار حولها مدة ثلاث عشرة سنة.
كانت المرحلة المدنية هي تقويض هذا الحصار والتوجه إلى القبائل العربية، وتحول التحالف بين التجار النهضويين المكيين والفقراء، إلى تحالف متنام مع القبائل العربية الكثيفة، وقد أدى تشكيل الدولة إلى سياسة دقيقة واقعية، لا تنقض مكانة مكة التاريخية والاقتصادية والدينية، بل تعطي ذلك الشكل الوثني المتفرق، مضموناً إسلامياً توحيدياً.
كما أن توسع المدينة ونمو ثروات الصحابة أثبت للملأ أن الحركة الإسلامية لا تتوجه لمصادرة ثرواتهم، وإن كان الاكتناز والاستغلال الربوي مرفوضين، كما أن بقية العلاقات الاقتصادية غير محرمة في الدين الجديد.
وهكذا أخذت مواقف «اليمين المتطرف» وهي المعبرة عن الغلاة من الملأ والذين هم على عداوة شخصية، أو الذين لهم طموحات فردية، بالانحصار والانعزال، في حين تدفق المعتدلون إلي الإسلام مما جعل الموقف السياسي والاجتماعي ينقلب ضد الملأ الدكتاتوري الرافض للإصلاح والتغيير. ولهذا وجدنا قمة الملأ المتمثلة بأبي سفيان بن حرب، وابنة معاوية، حين رأت تجارتها وأرباحها ومكانة مكة الاقتصادية المحورية لا تمس من قبل الدين الجديد، تهاوت معارضتها، وإن كانت رغبتها في السيادة وببقائها على قمة السلطة المكية، ظلت قوية وغدت مكبوتة، ولكنها واصلت المقاومة بأساليب جديدة. إن فتح مكة قد عبر عن انهيار منظومة سياسية واجتماعية، كما عبر من جهة أخرى عن تشكل منظومة سياسية واجتماعية جديدة، كانت لاتزال في طور المخاض التاريخي.
لقد استطاع التحالف الاجتماعي النهضوي أن يشكل السلطة الإسلامية ويعيد تشكيل ملامح الجزيرة العربية، عبر إزالة السلطات القبلية والمناطقية الكثيرة، وراحت السلطة تتركز في المدينة، وغدا لها جيش ينمو بشكل مستمر.
ويُلاحظ على هذا الجيش وهو أداة السلطة الرئيسية، بأن دور القبائل أخذ ينمو ويشكل العامل الأساسي لقوته الضاربة. وهو ينمو حسب مدى قدرة المركز السياسي في تطوير حياته المادية والمعيشية، وهذه لا تأتى إلا عبر الغزوات، حيث أن مسائل الرواتب والأجور، لم تُعرف بعد.
وفيما بعد حين الفتوحات ظهر ديوان العطاء، وقيدت أسماء الجند وظهر سجل بأعطياتهم.
ومن هنا فإن معارك الحركة الإسلامية التي شكلت قوة بشرية عسكرية متنامية قد استدعت قبائل الجزيرة الواسعة، فتشكل رفد بشري هائل على المدن المحدودة، وغاصت كوادر الحركة المثقفة بين جمهور عادي وأمي واسع.
وبهذا فإن ملامح دولة أخذ بالتشكل، وما لبثت الدولة في بضع سنين أن أصبحت دولة أكثر اتساعاً عبر ضم دول مجاورة غنية، فتدفقت الخيرات المادية على الدولة بفضل الجيش وانتصاراته، الأمر الذي جعله يتحول إلى الأداة الأولى الحاسمة للصراع السياسي والاجتماعي.
لكن الفقراء وأبناءهم لم يكونوا بقادة عسكريين، مثل قادة قريش وخاصة الكوادر التي امتلكت تجربة سياسية وعسكرية، الأمر الذي جعلهم يشكلون الضباط والقادة العسكريين المهيمنين على ساحات المعارك، فلمعت أسماؤهم.
وقد أدت إجراءات عمر بن الخطاب العسكرية السريعة إلى اعتماد هؤلاء القادة، وتحولهم إلى أمراء البلدان المفتوحة كيزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وغيرهم، فاستطاعوا أن يشكلوا لهم شعبية بين هؤلاء الجنود العاميين القبليين، وبهذا أخذت الصراعات الجاهلية الاجتماعية بين بطون قريش تتشكل بصورة جديدة إسلامية هذه المرة.
كذلك فإن الإجراءات السياسية لتولي شؤون الحكم ومنصب الخليفة كانت تتشكل بالصدف وبالصراعات العفوية بين المهاجرين والأنصار.
وبطبيعة الحال كان هناك خوف من تولي بني هاشم مقاليد السلطة السياسية إضافة لتوليها مقاليد السلطة الروحية، ولهذا اتفقت بطون قريش المختلفة أو تحالفت ضمنياً لإبعاد بني هاشم عن منصب الخلافة، خوفاً من ذلك التركز للسلطة.
لكن تركز السلطة كان يجري في الواقع عبر تشكل منصب الخليفة الوحيد، مع غياب المجلس التشريعي أو مندوبي القبائل والمناطق، وقد تشكل ذلك بصفة تشاورية عفوية، دون أن يتحول إلى مؤسسة، وكان الجميع يدرك بأن هناك برنامجاً للثورة، هو في التوزيع شبه المتساوي للغنائم الناتجة من الحروب، ومن هنا فلم يكن ثمة إنتاج سائد يحدد طابع هذه المساواة والتوزيع العادل للثروة، ولهذا حين صودرت الأرض الزراعية الكبرى المفتوحة بالقوة صارت ملكاً عاماً للدولة.
لكن هذا البرنامج للثورة لم يكن على هيئة سياسية مكتوبة، يسجل طبيعة السلطة والمجتمع الخ.. لكن هذا البرنامج غير المكتوب ظل معترفاً به لقرون عديدة.
فارتبط كل شيء في الواقع بمنصب الخليفة، مما جعل السلطة الفردية بكل مغرياتها وانحيازاتها للقبلية أو للأرستقراطية، هي البوابة الأساسية لأية تحولات جذرية قد تحدث.
وكان لا بد لهذه التحولات الجذرية أن تحدث بغض النظر عن الشخوص والعائلات والبطون، فهناك قانون موضوعي ينمو في جسد المجتمع العربي المنظم النامي، وهو قانون تفاوت الثروات بين الأشخاص والقبائل والمناطق، وهذا القانون الذي يحدد هذه الكتل المتصارعة اجتماعياً والذي سيتمظهر سياسياً، حين يلغي جهاز الدولة الوليد بثقله مع إحدى الفروع القبلية والقوى الاجتماعية.
وقد كان تجار قريش الكبار وحتى أثناء المعارك الحربية والتحولات التاريخية، ولدى الوثنيين القرشيين أم المسلمين، يواصلون عمليات البيع والشراء بلا توقف، فيكدسون الأرباح الوفيرة، والتي ازدادت تدفقاً بعد توحد الجزيرة العربية ثم انهالت انهيالاً بعد الفتوحات الواسعة.
كانت أغلبية فترات الخلفاء الراشدين تمثل عملية التوزيع العادل للفيء الناتج من الغزوات وحروب الفتح، لنظراً للرفد الشعبي الواسع للدولة في تشكلها وحروبها وانطلاقها خارج حدود الجزيرة العربية.
فلم يزل الأساس النبوي لتوزيع الفيء مستمراً، أي تحويل الغنائم إلى خمسة أخماس، لكن هذا الأساس تغير جزئياً مع ظهور الملكية العامة للأرض، ورفض عمر بن الخطاب توزيعها على الأساس السابق.
فلم يحصل المقاتلون وهم الجمهور الأساسي للدولة والمجتمع العربي الوليد، إلا على الفيء المباشر للحروب.
وحين تولى عثمان بن عفان وولى أقاربه على الأمصار وقربهم من بيت المال، أخذ هذا التوزيع العام للفيء يختل وازداد مع تملك أقربائه حكم الولايات الغنية.
لقد كان انقسام المجتمع بين كبار أصحاب الثروات والفقراء يسير بقوة، وحتى لو تولى شخصٌ آخر غير عثمان فإن التاريخ سوف يكرر سيناريوهاته وربما مع تغيير الشخوص والمواعيد. ولكن عثمان حدد الشريحة الاجتماعية التي كانت أكثر من غيرها نمواً ودهاءً في تولي المناصب، وقد رأينا كيف كان أكثر هؤلاء ممن عرفوا بدهاة العرب، وكوادرها العسكرية والسياسية.
وكان توجس عمر بن الخطاب من بني هاشم وخوفه من استئثارهم بكل السلطات، قد جعل بني أمية يتسربون إلى داخل قنوات السلطة. وكان عمر يعتقد بأن من الصعوبة نزع بني هاشم من السلطة إذا تولوها، ويسهل ذلك مع فروع قريش الأخرى. وفي هذا التصور جانب من الصحة، فحتى بني أمية تم القضاء عليهم بسهولة بعكس الحكم الديني الطويل لبني العباس.
ومع ذلك فان عدم وجود مؤسسات سياسية للعامة جعل منصب الخليفة المطلق هو المشكلة الاساسية في الصراع الاجتماعي.
فقانون تدفق الثروات على قسم صغير، وارتفاع مكانة اقليم واحد هو الحجاز، كان سيجعل القوى الأخرى والأقاليم في صراع مع هذا المركز الطالع بقوة.
وقد أوضحت أحداث «الفتنة الكبرى» كل هذه الإشكاليات من غياب للمؤسسة السياسية المشاركة مع الخليفة، إلى اختلال توزيع الثروات، إلى بدء تحكم الرجال في الحياة الاجتماعية وحرمان النساء من المشاركة السياسية على عكس الفترة السابقة الخ..
وهكذا راح الفاتحون المجاهدون يحصلون على الفتات، بينما تكدست الأموال والثروات في جيوب بني أمية والأشراف في الحجاز.
ونستطيع أن نقول هنا إن الأشراف بدأوا صياغة التاريخ الإسلامي حسب مصالحهم منذ هذه الفترة، ولكن عبر مصالح منقسمة وتضادات لم يفهموها حينئذٍ.
لقد انفجرت في أحداث الفتنة كل هذه التناقضات، وهي لم تكن بشكل ثورة سلمية أو على هيئة احتجاج حضاري، بل تحولت من حصار للخليفة الكهل إلى تحد لسلطته، ثم إلى هجوم عليه وقتله بطريقة بشعة.
وأدى هذا القتل المنفر والاحتقار حتى لجثة الخليفة السابق ورميها بطريقة غير إنسانية، إلى انفجار العواطف من القريبين منه، سواء كانوا أهله أم أصدقاءه، كما أن المقاتلين الثائرين القادمين من الأمصار، الذين حاصروا الخليفة طويلاً، لم يُعرف منهم المدسوسون المغرضون، أو النزيهون، فقد أخذتهم الحمية الحادة، والتشنج، فغدت العامة الهائجة تحكم العاصمة!
هذه العواطف الحادة فجرت الموقفين الاجتماعي والسياسي، اللذين كانت تتراكم فيهما الثروات عند أناس، والذين لم يعودوا بقابلين الرجوع إلى صرامة عمر بن الخطاب، خاصة من قبل فروع الأشراف المختلفة، ورجال الدين الذين منعهم عمر من تحويل علمهم بالإسلام إلى تجارة بالدين فانفلتوا إلى الأمصار يجمعون النقود، أو يقدمون المعرفة غير المغرضة، وكل أولئك الولاة الذين جعلوا الولاية خزانة للسلب والنهب، وكل هذه الشرائح عّدت عهد عثمان بن عفان عهد الانفتاح واللين.
ولهذا فإن كل هؤلاء ارتعبوا من المحاسبة القادمة من الخليفة الذي عينه هؤلاء العامة الثائرون وهو الذي حاولوا إبعاده عن السلطة فاستطاعوا إلى هذه اللحظة الثورية التي انفلتت فيها الأمور من ساستهم، وهو الآن على رأس الدولة، وهو الإمام علي بن أبي طالب.
وقد كانت المهام ثقيلة جداً على الخليفة الجديد، وهي تتمثل كلها في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه من توزيع عادل للفيء وعودة الثروات المسروقة، وفصل الفاسدين من الولاة، وهي كلها تمثل انقلاباً سياسياً واجتماعياً، كان من الصعب القبول به من قبل الأطراف المتضررة منه أو من تطبيقه.
كان انفجار الموقف السياسي في عهد علي بن أبي طالب، يعكس صراعاً اجتماعياً حاداً بين الكتل الاجتماعية المتباينة وبين الأمصار، فالثائرون الذين عبروا عن بعض العامة عبروا كذلك عن كراهية مبطنة عميقة ضد قريش وضد الدولة، واختلطت الأحقاد الاجتماعية بالأحقاد القبلية والمناطقية، وكذلك بالضغائن الشخصية، وكل هذه لم تُعرف في حينها بل تكشفت عبر مسار الصراع.
وكان لا بد أن يترك هذا الموقف الانفعالي الحاد أثره في أشراف الحجاز الذين تخوفوا من انفلات الأمن، وبطش «الرعاع» ، وكون منصب الخليفة غدا مُهاناً من قبل معتدين لم يتم عقابهم.
كذلك فقد وضع هؤلاء الثائرون مفاتيح السلطة بيد الإمام علي الذي كان من المدافعين عن الخليفة السابق، ومن الرافضين للفوضى، والتصفية الدموية الشخصية. فتولى الإمام مقاليد الدولة في أسوأ الظروف، وكان من الممكن أن يتولى قضية قتل عثمان بطريقة عادلة لو كانت الأمور غير ما هي عليه الآن من فوضى ومن تمردات كثيرة وخطيرة على جسم الدولة الموحد..
ولكن المعارضين لحكمه، لم يكونوا يقبلون أن يتولى السلطة أساساً، فكل ما فعلوه خلال سنوات عثمان سيكون عرضة للمحاسبة الدقيقة، وسوف يُنتزعَّون من ولاياتهم وترجع أموالٌ وتصادر ثروات أخذوها بغير حق شرعي، ولم يكن الإمام مستعداً لأي نوع من المساومات السياسية والاجتماعية.
ويعني كل ذلك بأن سلطة جديدة تتشكل تريد تغيير الخريطة الاقتصادية والسياسية للسنوات السابقة، ولو لجأت للقوة في تنفيذ قراراتها.
ومن هنا ركز المعارضون للسلطة على مقتل الخليفة السابق، لكي يجعلوا حركتهم السياسية الهادفة للدفاع عن مصالحهم شرعية، وذات سند قانوني. فإذا كان قتلة الخليفة لم تطبق الحدود عليهم فأي دولة ستكون هذه ?!
ومع ذلك فلم يكونوا يقبلون مناقشة أية قضية أخرى قبل هذه! ولسان حالهم يقول أما أن تطبق الحدود على «جماعتك» وإلا هي الحرب!
ومن الملاحظ بأن أغلبية فروع قريش أحست بالخطر السياسي والاجتماعي، فها هي مكانة الأشراف تتزعزع، ومكانة الحجاز السياسية الكبيرة تتدنى، لينتقل الخليفة إلى جنوب العراق.
لكن عقاب قتله الخليفة عثمان كان متعذراً لأسباب قانونية وسياسية، فالقتلة كانوا ضمن جمهور غفير كله مشارك في عملية الحصار والمداهمة، ومعاقبة كل هذا الجمهور أمر غير ممكن.
لكن السبب السياسي كان وراء هذا الإغفال للبحث عن القتلة في تلك اللحظة. فلم يكن بإمكان الخليفة الجديد وهو يريد إدارة الدولة وإحقاق الحق الشرعي الذي يؤمن به، وليس معه جنود أو جيش غير هؤلاء العامة الثائرين أنفسهم، أن يقوم باعتقال هؤلاء الجنود أنفسهم. فكيف و بأي جهاز؟!
لقد كان مطلب أشراف قريش إذن هو تجريده من القوة العسكرية التي تلتف حوله، وليس أحقاق الحق إذن. أما قولهم بأن جيش معاوية أو غيره مستعد لمساعدة الخليفة الجديد على الاقتصاص من قتلة عثمان، فهو لإيقاع الفتنة بينه وبين أنصاره، ثم لتجريده من السلطة.
إذن لقد كانت الأنانية الاجتماعية والرغبة في الحفاظ على الامتيازات هي وراء التمردات المختلفة، وكذلك كان الطمع في السلطة كما فعل الزبير بن العوام وطلحة اللذان قادا تمرداً اولياً ضد الخليفة المنتخب، بعد أن عجزا بشكل شرعي عن الوصول إلى الحكم!
وهكذا كان هناك تطرف إلى اليمين وتطرف إلى اليسار، أي أن قوى استغلالية صعّدت الموقف السياسي المشحون، ودفعته للمواجهات العنيفة، أملاً في هدم السلطة الجديدة، وكذلك فإن الملتفين حول الإمام كانوا جماعات متعددة المشارب، يستهدف البعض منها مصالحه الشخصية والفئوية، والبعض منها يستهدف التمرد على عاصمة الدولة، ورفض إمامة قريش.
لقد عبرت أحداث «الفتنة الكبرى» إذن عن طيف من المواقف الاجتماعية والسياسية المتصارعة الذي يعبر عن مواقف عائلات الأشراف المتنفذة، وجماعات المناطق والأمصار المختلفة. وكل هؤلاء لبسوا لبوس الإسلام والدفاع عن الحق.
وهناك أناس اعتزلوا الصراع تماماً، رافضين الانضمام إلى أي جهة من الجهات المتصارعة بالكلام والسيوف.
ومن الواضح بأن قضايا الصراع الاجتماعي والسياسي لم تكن لها قنوات شرعية، وكان منصب الخليفة الوحيد مع غياب هيئات شورى منتخبة من القبائل والمناطق، من أهم الأسباب في وصول الصراع السياسي إلى الصراع العسكري الواسع.
فالمتخاصمون لم يجلسوا على مائدة واحدة ليتحاوروا، ولم تكن ثمة هيئات سياسية وقضائية، ولا حتى شرطة متخصصة في حماية المسئولين، ومع ذلك فإن هذا الصراع السريع الحاد العاطفي، قرر مصير المسلمين لمئات السنين الأخرى.
كانت هناك قوتان تدفعان بقوة للمواجهة: عامة متوترة تريد ثروات، وأشراف متوجسون خائفون مندفعون للمواجهة.
لكن جيش الدولة الذي مثل الشرعية وأغلبية الناس لم ينتصر مع ذلك، وليس الأمر يعود إلى خدعة التحكيم بل الأمور تعود لكثيرين من هؤلاء العامة الذين التحقوا بالجيش وبالفتوح، والذين تناوشتهم نزعتان متضادتان؛ نزعة الرغبة في الحصول على الأموال وتغيير المعيشة بأسرع الطرق، وهم من عامة الجيش والبدو الذين جعلوا التمرد وسيلة للحصول على أموال الفيء والأغنياء.
وهناك النزعة الأخرى نزعة التقشف والزهد، وهي التي برزت لدى الخوارج بشكل واضح فيما بعد، ولدى طائفة القراء، وهذه النزعة غريبة على المسلمين، ولكنها ظهرت لدى هؤلاء الفقراء ليزايدوا في مسألة الإيمان، ويبرروا تطلعهم للسلطة، لأنهم أتقياء وأنقياء.
ولم يتوجه الامام علي لتوزيع الأسلاب والغنائم، أو يحاول توجيه جيشه نحو المكاسب المادية، التي غالباً ما تكون لدى العامة هي الوسيلة الأساسية لانخراطهم في العمليات العسكرية، ولعدم تقاعسهم، كما حدث بشكل مستمر في جيشه، المكون من الكثير من هؤلاء، والذين لم تدفعهم المسائل المثالية المجردة للوقوف معه.
ولهذا فإن جيشه الذي كان منتصراً دوماً، نظراً لروحه المعنوية الكبيرة، ودفاعه عن الجانب المضيء من الصراع، راح يتحلل. ولم تكن القضايا الفكرية المثارة بين الإمام وبين هؤلاء المتسائلين والمتمردين، تعود فقط لقلة الانضباط والطاعة، بل كانت تخفي وراءها عدم توجه جيش الإمام علي للغنائم وغياب ذلك التوزيع للهبات والمكاسب الذي كان شيئاً مشروعاً في معارك المسلمين ضد أعدائهم.
ولم يكن القائد الأخلاقي المثالي ليقبل بأن تكون قضيته ضد الأشرار والمنافقين موضع مساومة أو من أجل منافع عابرة.
ولهذا راح جيشه يتفكك، ثم وقعت فيه تمردات، وليس خافياً دور بعض عملاء الأمويين ووجود طابور خامس، وعملهم من توسيع شقة الخلاف وتحويل الحوارات المطولة إلى فتنة دموية.
كان جيش الدولة الثورية بلا انضباط وكان ما يوحده هو الفكرة، فإذا تفككت الفكرة انهار الجيش.
وكان قائد الأشراف معاوية ماهراً في تدبير المناورات السياسية، واستخدام المنافع المادية باتساع، وتكوين الخيوط السرية التآمرية، ومع هذا لم يستطع أن يهزم ذلك الجيش الشعبي الثائر الذي هزمه مراراً ولجأ إلى الخداع من أجل أن يتجنب هزمة نهائية.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2022 19:00
No comments have been added yet.