البربر والإسلام
كان فتح العرب المسلمين لمنطقة شمال أفريقيا والأندلس شيئاً مختلفاً عن فتحهم الشام والعراق ومصر، فإذا كان فتحهم المنطقة الأخيرة لم يستغرق سوى بضعة شهور، فإن شمال أفريقيا استغرق فتحه سبعين سنة من الحروب ومن اشتعال الثورات.
ولم يحدث ذلك بسبب بعد المسافة فقط بين مركز الدولة الإسلامية في دمشق، حيث كانت العاصمة السياسية للأمويين التي أطلقت السيول العسكرية، بل أيضاً بسبب الطبيعة البدوية الحرة لشعب شمال أفريقيا، الذي كان جله السكاني من القبائل التي أطلق عليها الرومان التعبير القدحي: البربر!
وإذا كانت لم تعرف حتى الآن الأصول الدقيقة الحاسمة لهذا الشعب؛ الذي يرجح تكونه من شعب أفريقي قديم، إلا أن تسمية البربر كانت تشير إلى طبيعة اجتماعية معينة في هذا الشعب القبائلي الصحراوي، هي عدم التمدن والبقاء في مرحلة البربرية إلى زمن الرومان ثم العرب.
ومن هنا حين جاء العربُ فاتحين كان شريط التمدن ضيقاً في شمال أفريقيا، فهو يحاذي السواحل والمدن القليلة التي تشكلت فيها، وخاصة في القسم المسمى بإقليم أفريقيا وهو تونس المعاصرة، وقد كانت الجالية الرومية متركزة في مدن الساحل، وكانت تعيش طائفة من سكان المغرب تسمى الأفارقة ومفردها أفريقي، ويطلق هذا اللفظ على مزيج من البربر والأجناس التي حكمت أفريقيا وأجزاء من ساحل المغرب . وهم جنسٌ يختلف عن البربر بعض الشيء، فهم حضر مستقرون ما بين زُراع وتجار ورعاة في النادر (حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار ومطابع المستقبل، ص 28).
أما القسم الأعظم من السكان فيعيش في الصحارى والجبال والواحات والقرى، وينقسم السكان الرعاة إلى نمطين من البربر، البربر البدو يسمون بالنتر وهم من «زخم» الهجرات الأفريقية، وبربر البرانس، وهم البربر الأصليون الأقرب لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط .
إن ضخامة الحجم السكاني البدوي ووجود درجتين من البداوة: بداوة أقرب إلى التحضر، وبداوة أقرب إلى الصحراء، ستنعكس على التحولات الاجتماعية والسياسية التالية، حيث يشكل بربر البرانس الدول الأكثر تحضراً ، فيما سيتوجه النمط الأخر من البربر نحو التأثير في العالم الأفريقي الجنوبي.
إن عدم وجود قوى مدنية واسعة في شمال أفريقيا، جعل القوى القبلية هي القوى المحركة للتطور والتاريخ، فالمدن لا تعدو سوى مضارب قبلية تمت منذ وقت وجيز، ولا تلعب دوراً كبيراً في السيطرة على الحياة السياسية والفكرية، في حين يغدو الحراك القبلي ومن يوجه القبائل الكبرى هو الذي يتحكم في الحركة التاريخية ويكون الدول ويصنع مصائر السياسة.
ولهذا فإن العرب الفاتحين كانت مهمتهم سهلة أمام الرومان، وهم قوى الاحتلال غير المترسخة التي تعيش على الشريط الساحلي، ومن هنا كان كسر الرومان قد تم في مدة وجيزة، ولكن تغلغل العرب في عروق الخريطة المغاربية وضعهم وجهاً لوجه أمام البربر، أمام القوى السكانية الكثيفة التي تعيش في تضاريس أكثرها تضاريس جبلية وعرة وفيها واحات ومناطق زراعية خصبة، وبعدها صحارى شاسعة.
لم يعد التناقض هنا هو بين العرب البدو وسكان المناطق الزراعية القديمة ذوي الجذور الحضارية الموغلة في القدم كما هو الحال في صراعهم في المشرق العربي، بل إن صراعهم هنا هو صراعهم مع أنفسهم، مع بدو من نمطهم تماماً، بدو أحرار لا يقبلون الهيمنة الأجنبية ولم يعرفوها من قبل !
ولهذا فإن الصراع هنا اتخذ شكلاً معقداً مركباً. فالبربر لأول حرة يرون قوماً بنفس تركيبهم الاجتماعي، أي المستند إلى الأفخاذ القبلية، والعادات الرعوية، ومن هنا لم يجدوا في القوانين الدينية الاجتماعية المختلفة أي تناقض مع تركيبتهم الموروثة، فكأنها قوانينهم ولكن صيغت باشكال دينية جديدة.
إن عدم اختلاف البُنى العشائرية العربية وقوانينها الاجتماعية والتي تجسدت دينياً في الشرع الإسلامي، عن البنى الاجتماعية لأهل شمال أفريقيا البربر، عبرت عن كون الشعبين العربي والبربري كانا يعيشان في مرحلة تاريخية اجتماعية واحدة، ولهذا فإن البطريركية (العادات القبلية الأبوية) ستضع قواعد اجتماعية تحتية أساسية لوحدتهما التاريخية.
وبالتالى كان العرب القبليون يمكن أن يذوبوا في التكوين القبائلي البربري، وأن يصاهروا القبائل أو أن يحالفوها، دون أن تشعر القبائل البربرية بتناقض اجتماعى كبير بينها وبين الفاتحين، ولهذا كان للشعبين أن يعملا معاً بدون تناقض حاد في المستوى الاجتماعي، وأن يبنيا تطوراً سياسياً مشتركاً، بخلاف التكوينات الرومانية والمسيحية، حيث قامت هذه بتجاوز المستوى القبلى الرعوي، وتبدلت أنماط العائلة فيها، حيث أصبحت العائلة الأبوية وحيدة الزوجة، وهي أنماط لم تكن تتلاءم مع الرعاة ذوي الظروف الصحراوية القاسية.
لكن هذه الوحدة الاجتماعية الضمنية لم تكن تصل إلى المستوى الفكري والسياسي، فالعرب أصبحوا مؤمنين بإله واحد هو رمز لوحدتهم وتطورهم التاريخي المستقل، كما أن هذا الإيمان انعكس في منظومة قانونية وتشريعية جعلت مرحلتهم البدوية وأفقها النهضوي مكرسة دينياً، وهو أمر يشير إلى كونهم قطعوا مرحلة ما قبل التاريخ ودخلوا التاريخ والحضارة بتكوين موحد.
في حين إن البربر لم يقطعوا بعد هذه البوابة، ولا يزال تكوينهم الأساسي صحراوياً في ما قبل الحضارة. ولهذا كان الإسلام هنا هو تشكيل هذه البوابة للبربر لكي يعبروا مرحلة تاريخية كاملة، ويشكلوا الحضارة، أي أن يقوموا بالانتقال من الصحارى إلى المدن، ليتسع ذلك الشريط النهضوي الضيق، وتتكاثر المراكز المدنية.
إن صورة الإله الواحد التي حملها العرب للبربر والمكرسة قرآناً وثقافة ولغة عربية، كانت تحملُ في طياتها من ضمن ما تحمله، منجزات التاريخ المشرقي الحضاري الغائر، وهي المنجزات التي لن تظهر في لحظة الصدام بين هذين الشعبين البدويين وهما يتصارعان في المساحة الجغرافية الواحدة، أحدهما طارئ والآخر أصيل، أحدهما يهجم أسلحته وبطرق إداراته السياسية المختلفة، بما تحمله من توجهات اجتماعية متناقضة، والآخر لا يعرف طبيعة هؤلاء الغزاة الجدد وأهدافهم، بشكل عميق، ويقوم بالدفاع عن أراضيه كأي قبائل يتم غزوها .
كذلك فإن العرب وهم يقتحمون شمال أفريقيا لم يعطوا أنفسهم فرصة كافية للتأثير الفكري وفهم المنطقة والإمساك بمفاتيحها القبلية السكانية المؤثرة، وقد حسبوا البربر بنفس قياس الرومان الطارئين على المنطقة، لكنهم وجدوا خصماً مختلفاً.
كذلك انقسم الفتح العربي إلى طريقتين أساسيتين تعكسان تبدل الطبيعة القيادية الاجتماعية السياسية للفاتحين، فقد كانت الدفعات الأولى من الفتح تحمل أثر المرحلة النبوية والراشدية، حيث كان نشر الإسلام أقوى من الرغبة في الغنائم والسيطرة وحيث البحث عن تشكيل التحالفات الأخوية أكثر من البحث عن خدم وعبيد !
ومن هنا عبرت نماذج بعض القادة الفاتحين عن أثر المرحلة النبوية / الراشدية في العلاقات الإنسانية، كما تجسد ذلك في فوج (العبادلة)، كعبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن عمر الخ.. وشخصية قائد شمال أفريقيا البارز عقبة بن نافع.
إن طبيعة القائد الفاتح هنا هي طبيعة مسالمة وليست وحشية، وهو فقيه وزاهد ومجاهد حتى التضحية الكلية بالحياة، وهذه كلها تعكس طبيعة الأثر النبوي الراشدي، الذي أخذ يتضاءل مع تغير الطبيعة الاجتماعية والسياسية لقيادة الفتح وانتقالها لأرستقراطية بني أمية والتي ركزت على الجوانب النفعية والاستغلالية، وهي الجوانب التي وسعت من مقاومة البربر ثم فجرتها .
ولهذا فإن انتقال الكثير من البربر إلى الإسلام حتى في بداية الفتح يعكس شعورهم الباطني بالتآلف مع أخوتهم العرب، والذين طالما انتشروا في المنطقة عبر موجات في أولها كان الكنعانيون، وكذلك لتلك الطبيعة الاجتماعية المساواتية الزاهدة للقيادة، ولعملية التحرير التي يقوم بها العرب نيابة عن البربر لبلدهم.
وفيما بعد حين استلم قادة آخرون زمام العمليات العسكرية، ووضعوا أعينهم على الأسلاب والغنائم والخراج، والبقاء في أعين السلطة المركزية بما يتم الدفع لها من جوارٍ وعبيد وثروات، فإن المقاومة العابرة راحت تتحول إلى ثورات عاصفة !
ومع كل ذلك فإن أسلمة شمال أفريقيا وفتحها الوطيد قد تم بعد ثمانين سنة !
رغم الجوانب العرضية للعلاقات بين العرب والبربر، فقد حدث انتقال البربر للإسلام، بشكل واسع وكلي، وتوارت العبادات الوثنية، ووجد البربر في الإسلام شكلاً فكرياً ناجزاً معبراً عن نقلهم للوحدة «القومية»، حيث فتحَ البابَ لعمليات التوحيد القبائلية وتشكيل الدول المغاربية الكبيرة.
وإذا كان الجانب الديني التوحيدي قد وجد صياغته في الحراك المذهبي، فإن الجانب السحري، وبقاع الممارسات ما قبل الدينية الكبرى، قد ظل موجوداً في الوعي العام، خاصة الشعبي الرعوي المتخلف منه.
ومن هنا سنجد أن التطور الفكري، سواء كان بشكل الحراك المذهبي أم بنمو اشكال الوعي المتطورة من علوم وفلسفة، سيبقى متاخراً عن منطقة المشرق العربي الإسلامي، فإذا كان القرن الأول الهجري قد أنجز فيه المشرقيون الخطوطَ الأولى للتيارات الفكرية كالقدرية والاعتزال وأخذ القرن الثاني يطورُ المذاهب الفقهية الكبرى كالمالكية والحنفية والجعفرية، فإن المسلمين في شمال أفريقيا، كانوا خلال هذين القرنين لايزالون بعدُ في عملية تأسيس الوعي الديني الأولى، وعند نقل المذاهب الفقهية البدوية من المشرق.
علينا أن نتتبع الحراك الاجتماعي الإسلامي الشمال أفريقي، فقد عجزت الثورات البربرية بالقيادات الوثنية من السحرة أو القبائل المرتدة، أن تنتصر على العرب، ليس فقط لوجود المدد العسكري المستمر من العواصم السياسية، كدمشق في المرحلة الأولى وبغداد في الوقت التالي، بل لان قسماً كبيراً من البربر اندمج في العملية السياسية الثقافية العسكرية الإسلامية، وغدت المرحلة الوثنية تقع وراء تطوره التاريخي، وأدت عملية تنامي المدن، وانتشار اللغة العربية والإسلام، وانخراط القبائل البربرية في الفتوحات الإسلامية بما فيها من تطور لمستواهم المعيشي وتبدل لمواقعهم الاجتماعية والجغرافية، إلى جعل العودة إلى الوثنية بما فيها من تعددية كبيرة مفتتة للصفوف القبلية والوشائج الحضرية الوطنية المتصاعدة، أمراً غير ممكن ومدمرا.
ولهذا فإن الشكل الديني التوحيدي الإسلامي أخذ يتبلور ككيان حضاري يصهر مختلف المجموعات القبلية في تكوينات كبرى تجمع طاقات العمل.
لكن التضاد بين الفاتحين والبربر كان لايزال قوياً في القرن الثاني الهجري، رغم انتهاء شكل المواجهة العسكرية بين المؤمنين والوثنيين، حيث أخذ يظهر كصراع بين المؤمنين والمؤمنين، في ظل الدين الواحد، فإذا كان المذهب الفقهي لدى البربر لم يتبلور بعد، لكون تنظيماتهم الاجتماعية المستقلة لم تتوطد في ظل الحضارة الجديدة، فإن الأهداف الاستقلالية عن الفاتحين وبلورة كيان إسلامي بربري، قد أدت إلى توجههم إلى المذاهب المشرقية الإسلامية الحربية، أي إلى مذاهب الخوارج تحديداً، فهذه المذاهب هي التي تلائم تكوينهم الاجتماعي، وتنفس عن معارضتهم للمركز السياسي الاستغلالي.
كانت ألوان المذاهب الخوارجية تعبر عن درجات صراعهم مع المركز، فالخوارج الأزارقة والصفرية، الذين يكفرون بقية المسلمين ويستحلون أعراضهم ودماءهم، قد حصلوا على مواقع مهمة في شمال أفريقيا خلال القرن الثاني الهجري، وكان هذا تعبيراً عن ذلك الصراع الغائر العميق.
وأتاحت بيئة شمال أفريقيا المليئة بالجبال ذات المواقع الصعبة والملائمة لحروب العصابات والوديان الخصبة والصحارى، إمكانيات كبيرة لانتشار فرق الخوارج المختلفة، خاصة في قسم المغرب الأوسط، وهو ما يُعرف بالجزائر الآن.
وأدت فرق الخوارج دورها السياسي في تقوية شعور الاستقلال، والاختلاف ضمن التنوع الإسلامي، كما شكلت تجارب اجتماعية لهذه القبائل، عبر الاحتفاظ بملكياتها المشاعية المشتركة وطابعها البدوي المستقل وبمصالحها التجارية المتنامية.
لم تستطع فرقتا الخوارج الحادتين وهما الأزارقة والصفرية أن تصمدا طويلاً لقيامها على التكفير والمواجهات العسكرية المستمرة ضد بقية المسلمين، ولهذا فإن انبثاق فرقة الأباضية وانتشارها في شمال أفريقيا كان حلاً اجتماعياً وسطاً، وبداية انتقال شمال أفريقيا إلى مذاهب السنة.
لقد خففت الأباضية من المواجهة مع العرب، ورفضت التكفير والمواجهات العسكرية مع بقية المسلمين، وطرحت استقلالاً فقهياً معتدلاً .
لكن المذاهب الخارجية التي وعدت البربر بالعدالة وبالشورى لم تستطع في تجاربها أن تخلق شورى الحكم، فتشكيل حكومات أفراد مهيمنين من القبيلة، وعودة نمط شيوخ القبيلة المتفردين بالحكم والثروة، قد دمر نموذج الدولة الخوارجية النزيهة لدى الوجدان الشعبي، وكمثال على ذلك دولة (الرستمية الخارجية الإباضية) في المغرب الأوسط، الجزائر .
وهكذا فإن نمط الدول الخوارجية لم يستطع أن يصمد داخلياً بنمو الصراعات الاجتماعية داخله وعجز ايديولوجيته عن ضبط الصراع الاجتماعي، أو عن تقديم صيغة معقولة للتمدن، ولا أن يصمد في وجه تيارات الإسلام المعتدل التي راحت تنتشر بشكل واسع.
فالصيغ الخوارحية التي تقدم فورمة أيديولوجية لا تقبل الاجتهاد والقياس لتطوير الفقه، وبالتالي وضع تصرفات (الرعية) في زنزانة اجتماعية تعرقل النمو المستمر للبربر من المرحلة البربرية إلى مرحلة التوسع الحضاري.
وهكذا فإن المرحلة الحضارية للبربر وافقت الفقه المالكي بدرجة خاصة، فاتساع الاجتهاد الحنفي الذي وافق العاصمة البغدادية العالمية، لم يكن على مقاس منطقة شمال أفريقيا، التي وافقها الاجتهاد المالكي والذي كان قفزة على التشدد الخوارجي .
وقد ترافقت عوامل فردية خاصة كذلك لنمو المذهب المالكي في شمال أفريقيا، وهو ظهور رعيل فقهي مالكي كبير دون غيره من المذاهب اكتسب سعة الصدر والمرونة والبعد عن دسائس وصفائر السياسة، عبر مجتهدين كرسوا أنفسهم له، خاصة أسد بن الفرات، وحينئذٍ لم تكن بقية المذاهب السنية الأخرى قد ظهرت أو اكتسبت حضوراً، ولهذا ظل مسلمو شمال أفريقيا في المذهب المالكي حتى يومنا هذا، وعبر الاجتهاد فإن المذهب المالكي نفسه أخذ يتطور بشكل أكبر من وجوده في المشرق العربي الإسلامي كذلك.
إن الفقهاء الموالك راحوا يكرسون أنفسهم لعملهم الفقهي بشكل خاص، وليس بالانشغال السياسي والقفز للحكم، وتقديم مشورات اجتهادية للحكام والمسلمين، وترافق ذلك مع نشوء الدول (الوطنية) في شمال أفريقيا، كدولة الأغالبة، التي وجدت في هذا النوع من الفقه مرونة مفيدة لتطور المدينة الحضاري.
ولا يتناقض مع هذا أن شرائح الفقهاء راحت تنقسم بين شريحة اقتربت من الحكام والإدارات، وأخذت تفصل البدلات الخاصة للحكومات المختلفة، وشريحة الفقهاء الفقراء، التي ارتبطت أكثر بالقوى الشعبية وتحسست ألامها كما حدث في الثورة الشعبية بالأندلس والتي شارك فيها فقهاء المذهب المالكي البسطاء والجمهور ضد دكتاتورية الحكم بن هشام سنة 190هـ.
لكن تطور الوعي في الأندلس مختلف عن تطوره في شمال أفريقيا، ففي الأخيرة لعبت القبائل دور الحراك الاجتماعي والسياسي.
كان ظهور الدول المستقلة في شمال أفريقيا كالأغالبة والأدارسة تعبيراً عن قيام الجسم الشعبي البربري بالانفصال عن سيرورة المشرق السياسية المركزية، وأخذه الاستقلال في إدارة بلدانه، بعد أن اتسع الشريط المدني، وحدثت عمليات نهضة واسعة، وظهرت المدن الكبيرة، وقام البربر وسكان شمال أفريقيا العرب بفتح الأندلس والدخول في قارة أوربا.
إن التضادات لم تعد مؤثرة بين العرب الفاتحين والسكان الأصليين، فالعرب صاروا جزء من النسيج العام الذي يعرف بالعرب البلديين، لكن ظلت الأرستقراطية المسيطرة على الحكم موجودة في تجارب الدول خاصة دولة الأندلس الأموية، وهي تقوم بتكريس سيطرة نمط خاص من العرب كالعرب الشاميين، وانقسم العرب إلى عرب قيسية ويمانية ونشأت بين القسمين حروب، كما أن هؤلاء العرب كانوا في تضاد مع البربر، وكل جماعة كانت تصارع الأخرى!
لكن الحراك الأساسي في شمال أفريقيا ظل في يد البربر، وبدأت القبائل الكبرى في الزحف على الحكم، وهكذا فإن دولة المرابطين ثم دولة الموحدين كانتا تقومان على قبائل معينة كبرى تعادي قبائل بربرية أخرى.
ولهذا حين يرسم المؤرخون ان هذه الدول ذات طابع ديني أو مذهبي خاص، وقد استوحى البربر هذا من تجارب المشرقيين، فإن الدولة الفاطمية التي أسسها عبدالله الشيعي ارتكزت على استثارة قبائل كتامة والاستعانة بها للحكم، وتكوين مقر لجنين الدولة، ثم القيام بغزوات تجلب الغنائم للقبيلة، فيحدث توسعها الحربى والسكانى.
وهذا النمط المستوحى من الثورة الإسلامية التأسيسية، حيث الراية الفكرية المميزة ثم الغزوات الجالبة للغنائم، ومن ثم يتم حشد القبائل والهجوم على المركز السياسي الذي يكون قد نخر سياسياً واقتصادياً؛ ولكن الفارق هنا بين هذه المشاريع والثورة المحمدية، هو أن قادة التحولات المغاربية القبلية، كانوا بلا مشروع نهضوي عميق.
أي ان تحويل البدو إلى غزاة عبر راية مذهبية معينة، تغدو هي الحقيقة المطلقة في ذهن أصحاب المشاريع الطائفية، كان لا يؤدي إلا إلى تكوين دولة للقبيلة / الطائفة، لا إلى مجتمع للمواطنين، وبعد ذلك فإن القبيلة المسيطرة تتفسخ بين إدارة غنية فاسدة وجمهور مغبون، لتأتي قبيلة أخرى وهكذا.
وهكذا فإن دولة المرابطين التي جاءت تتويجاً لصعود الدور البربري القبائلي الواسع، ارتكزت على قبائل صنهاجة الصحراء، وهي قبائل كثيفة العدد تعيش على الرعي والقليل من الزراعة. وقد بحث شيوخها عن راية أيديولوجية فوجدوها في الداعية الديني عبدالله ياسين، الذي كون فرق المرابطين وجعل قبائل صنهاجة المتعددة تنتشر وتغزو ثم تحتل المغرب والأندلس وتكون دولة كبرى.
ولا تختلف دولة المرابطين عن دولة الموحدين إلا بكون الزعيم الايديولوجى لها محمد بن تومرت قد بالغ في صفاته الدينية وإنه المهدي المنتظر، ومع ذلك فدعوته أقرب للحنبلية المتشددة، ومن أجل ان يضرب دولة المرابطين المنفتحة اجتماعياً والمالكية، ولكن الصراع القبلي كان هو المحرك لمحمد بن تومرت ليقيم دولة الموحدين، أكبر دولة بربرية في التاريخ، تمتد من ليبيا إلى الأندلس!
لقد ارتكز محمد بن تومرت على قبائل المصادمة أوسع الوعاء السكاني البربري، والتي هجمت على دولة المرابطين وإزالتها . واعتمدت الدولة على تنظيمات دينية سياسية دقيقة، فثمة روابط لمجالس العشرة والخمسين تحكم الجمهور الواسع، وتغدو على نمط الحزب الواحد الحاكم، لكن في نسيج قبائلى كبير.
لم تستطع التجربة البربرية الإسلامية أن تصل إلى دولة المواطنة والصراع الاجتماعي المدني، بل ارتكزت على الصراع القبلي المذهبي، الذي راح يتحول إلى نزيف دمر الدول كلها، وهزم العرب في الأندلس، دون أن تستطيع هذه التجارب السياسية الاجتماعية على مدى عدة قرون أن تراكم تجربة حضارية كبيرة.
لقد استخدمت القبائل الرايات الدينية المختلفة كواجهات لسيطرتها، غير سامحة للتكوينات الاجتماعية الداخلية، والانقسام الاجتماعي المدني الحديث أن تظهر تذع وتنمو، وهو أمر جعل التجربة المدنية تعود باستمرار إلى نقطة الصفر. ولكن مع تدمير الموارد المحدودة الناتجة من الزراعة والحرف والتجارة.
وهذا أمر جعل البداوة تعيد إنتاج نفسها بشكل دائم.


