تنوير تقي البحارنة : عبـــــــدالله خلــــــــيفة
 تنوير تقي البحارنة
تنوير تقي البحارنةفي مختارات وزراة الإعلام البحرينية لأعمال تقي البحارنة الصادرة (ط1 2007)، التي أعدها خالد البسام، نلاحظ اتساع اهتمام الأستاذ تقي بالأعمال النظرية الأدبية في سنوات الخمسينيات، ثم اهتمامه بالجوانب الثقافية العامة كالسياحة والمذكرات والمقالات الاجتماعية في الستينيات وما تلاها.
وليس للأستاذ تقي البحارنة أعمال سياسية كمعظم معاصريه، مثله مثل الأستاذ الشاعر إبراهيم العريض، وهو ما يعبر عن مقاربة بعيدة من الأحداث السياسية المحورية، رغم بعض الانخراط في نشاطاتها، ولهذا تظل أعماله الفكرية ذات استقلال نسبي عن الواقع، ولا تزال تحتفظ بأهميتها، خاصة أنه توجه لقضايا كبيرة في الشأن الثقافي كمسألة الأنواع الأدبية العربية والحضارة، وهو القسم الذي واكب زخم الخمسينيات، ثم ظهرت المقالات الاجتماعية كتسجيل ليوميات السياحة في البلدان والعودة للذكريات.
ورغم إن زخم مرحلة الأربعينيات والخمسينيات كان ثورياً عاصفاً في البلدان العربية والبحرين، إلا أن تقي البحارنة اتخذ منحىً محافظاً، رافضاً لنزعات التجديد والثورة الثقافية.
فهو يعتبر فترة الأدب الجاهلي والإسلامي هي الفترة الذهبية للأمة، وما جاء بعدها محاولاً تجاوزها وحتى الإضافة إليها، فهو خارج ذلك النقاء الأصيل، فكان (جوهر)الأمة الثقافي وحتى الأختلاق والوضع في الشعر القديم فهو رغم انحرافهِ إلا أنهُ كذلك صورة عن العصرِ القديم لأنهُ تمثـُلٌ لهُ بأدواتهِ، أما ما جاءَ بعد ذلك فهو أشبه بالانحراف، يقول:
(هذه العلوم الأخيرة، بما صحبها من آثارِ المنطقِ اليوناني الدخيل والبحث الفلسفي العقيم كانت على النقيض من الأولى ذات أثر سيء على اللغة وآدابها، ذلك لأن أكثر أولئك الذين خاضوا في علوم العربيةِ بعدئذٍ، كانوا من الأعاجم والفلاسفة الذين لم يصعدوا إلى عصور العربية الأولى)، (ص 13 – 14).
ويتوقف الإنتاج الشعري عند حدود العصر العربي البدوي؛(وليس بعجيب أن يظل الشعرُ الإسلامي في جملتهِ جاهلي الروح، فالدولة عربية محضة، والثقافة عربية صقلها الإسلام، والشعراء عرب إلا ثلاثة أو أربعة، والصحراء مقام الأكثرية فيهم، والطبع هو الغالب على شعرهم)، ص15.
وهكذا فإن جوهرَ الإبداع في وعي تقي الخمسيني هو نتاجُ العفوية والإلهام الأعرابي كما ينظرُ لهُ الجاحظ العباسي المدني، حيث هو بديهة وارتجال، فكأن (الروح) العربية توقفت عن التمازج مع المؤثرات الإنسانية الخارجية، وغدت ذلك الجوهر البدوي الإسلامي، الذي سيظلُ يحتفظ بنقائهِ الأصيل دون أي تداخل مع المؤثرات الإنسانية، وهو أمرٌ إيديولوجي ناقضته كثرة الاحتكاكات والتوظيفات التي أشتغل عليها شعراء وباحثو الثقافة العربية وقتذاك.
ولكن ذلك الجوهر النقي في رأي تقي البحارنة لم يتغير، فكان الأدب القديم  يعتمد على الصدق والبساطة والوضوح أما الثقافة المصنوعة فاعتمدت على شعار ( أكذب الشعر أصدقه)،(وهكذا قـُدر للشرق العربي أن يظل أجيالاً طويلة يقتات من سموم هذه النظريات)، وورث الأدب العربي الحديث الماضي الجميل وكذلك ركاماً من (مخلفات عصور التاريخ العربي والإسلامي، فخلطوا بين مختلف تلك العصور، إلا قليلاً منهم)، ص18.
وتواصل محافظة تقي البحارنة نقد الاتجاهات الحديثة وخاصة التجديدية منها حيث قام (نفر ممن ادعوا لأنفسهم التجديد، فتنكروا للأدب العربي برمته، وأحدثوا فيه كثيراً من النظريات الخاطئة).
يواصل الأستاذ تقي البحارنة هجومه على الحداثيين سواء في العصر القديم أم الحديث، وهو يكتبُ بحرارة في صيف سنة 1950عن الشبهات والانتقادات التي أثارها كبارُ الأدباءِ العرب تجاه الشعر الجاهلي خاصة طه حسين وعباس العقاد، غير منكرٍ لقضية الانتحال لكنه يرى أنها غير جوهرية (لأن المعين الشعري الذي يصدرُ عنه الجاهليون والإسلاميون يكاد يكونُ واحداً في جوهره)، ص25.
يضع الأستاذ تقي الانتقادات الموجهة للأدب العربي القديم بمجموعه في دائرة الرفض شبه المطلق قائلاً ( وهذه مغالطة لا تجوز على غير السذج والبسطاء من ضحايا أولئك الكتاب)، ويرى بأن انتقاداتهم لنقص الأدب العربي من القصص والملاحم هي آراء منقولة عن المستشرقين، (ولقد وجد هؤلاء في الخليط الشعوبي المتناثر من نتاجِ العصور المتأخرة ضالتهم المنشودة، فأشادوا بهِ)، وفي رأيه بأن إثارة مثل هذه القضايا يستهدفُ تحقير الأمة العربية وهو تنقيصٌ من(نتاج أمة غلابة فاتحة، ذات أثر توجيهي مباشر في تاريخ العالم، فلم يجدوا فيه غير إثارة أمثال تلك المواضيع التافهة واتخاذها سلماً للتنقيص من الأدب القديم برمته)، ص..28
يعزو الأستاذ تقي الانتقادات الموضوعية لنقص الأنواع الأدبية العربية لعوامل ذاتية مريضة، ففي رؤيته بأن الأدب البدوي الإسلامي النقي قد اكتمل، وما التجديدات سوى إضافة فاسدة عليه، وهذا (التجوهر) يقودهُ إلى رفض التحولات الديمقراطية الأدبية والاجتماعية والسياسية في الثقافة، ومن هنا فهو لا يرى بأن غياب الملاحم والمسرح نتيجة لنقصٍ ديمقراطي في الحياة الثقافية العربية الاستبدادية، وحتى إنجازات الشعر العربي التجديدي لدى أبي نواس وأبي تمام والمعري لا يلتفتُ إليها، فهي غير متطابقةٍ مع ذلك الجوهر الذي افترضهُ للثقافة العربية والذي لا يمكن أن يتلاقح أو يتغير.
إن قضية تطورات الأنواع الأدبية ليست قضية مفصولة عن قضية الحكم وتوزيع الفائض الاقتصادي، حيث تقومُ الدولة الشمولية بتجميد التطور الثقافي باحتكارها الثروة، وحين يحدث النقل في العصر الحديث من الأدب الأوربي فيغدو ذلك جزءً من عملية التحرر من ذلك الأستبداد وليس من الثقافة العربية، ولهذا حين تتجدد الأنواع الأدبية العربية يغدو ذلك نقداً أوسع للأنظمة ونشراً للحرية.
لكن الأستاذ تقي لا ينطلق من ذلك حسب نصوص تلك السنوات، بل يطبق ذلك المعنى على الحياة السياسية أيضاً، فيرفض (استيراد مبادئ ونظم وقوانين إصلاحية تحملُ خصائص أمم أخرى غريبة)، ويقترب البحارنة من المفهوم الصوفي القومي في فهم الأمة، حيث يجب أن يظهر ذلك المضمون الخفي للأمة فيجب (إزالة ما يتراكم على طبع الأمة الأصيل من مفهومات طارئة، ومبادئ مضللة، لينفسح الطريق أمام حيوياتها الكامنة للظهور والتبلور في قالب ثقافي أصيل)، ص53.
إن هذه العناصر نجد بعضها لدى الأستاذ ميشيل عفلق والأستاذ زكي الأرسوزي فيما يسميه التجربة الرحمانية للأمة، كذلك في آراء الأستاذ سيد قطب كما يشير البحارنة في الهامش كذلك.
ويصلُ البحارنة إلى استنتاجاتٍ عامة حين يقول (فالمشكلة الإسلامية اليوم هي أبعد مما تحاول هذه الطبقة تصويره. إنها مشكلة تقويض مدنية مادية ملحدة، وإنشاء حضارة إسلامية في محلها)، ص61.
ولهذا فهو يرفض محاولات الإصلاحيين الإسلاميين دمج المجتمعات الإسلامية بجوانب إيجابية من الحضارة الغربية، كما يرفض بطبيعة الحال الحداثيين المتطرفين العرب المطالبين بالتوجه الكلي نحو الغرب.
ويتصور بأن للإسلام تصوراته المختلفة في (الأسرة وتنظيمه للمرافق الاقتصادية وسياسته التحررية في الحكم)، كما يرفض الحريات النسائية المعمول بها في الغرب.
إن كتابة تقي البحارنة تمثل منظوراً محافظاً صلباً استمر في الصعود خلال العقود التالية، وتمكن من الوصول للسلطة في العديد من البقاع الإسلامية، محافظاً على جوهرية ما، لكن إلى متى؟!
توقفت كتابات البحارنة الفكرية هذه، وحلت محلها كتاباتٌ أدبية أكثر تفتحاً، واهتم بالشعر والسرد، وذاك مجالٌ آخر.



