تنوير حسن الجشي : عبـــــــدالله خلــــــــيفة
تنوير حسن الجشياصدرت وزارة الإعلام البحرينة سلسلة من المطبوعات تحت اسم (رواد الصحافة البحرينية)، يحررُ هذه المطبوعات ويجمعُ موادَها الأخ خالد البسام، وهو جهدٌ توثيقي هام، وتحية بسيطة لرواد الكتابة الصحفية في البحرين في بواكيرها.
وتتشابه ظروف مؤسسي الصحافة البحرينية في الخمسينيات، فهم سياسيون ومربون وتجار وجدوا أنفسهم في خضم مهمات سياسية عاجلة فلجأوا للكتابة، فجاءت الكتابة صحفية انطباعية تحريضية، وصار المقال القصير هو الجنس الكتابي السائد فيها، ولهذا فإن المقال يجمع بين النظرات الفكرية الإيديولوجية والمعالجات النقدية الاجتماعية اليومية والتحريض السياسي وكذلك الخواطر الأدبية والحكايات والنقد الأدبي!
ومن يمثل كذلك خير تمثيل الأستاذ حسن الجشي، الذي كان يجمع بين مهمات التحشيد الاجتماعي عبر النادي والمدرسة، وبين مهمات الكتابة لتغيير النظام القائم وقتذاك.
ومن الصعب الجمع بين إدراةِ نادٍ ومدرسة ابتدائية تغدو نموذجاً للضبط والتعلم، وبين مهماتِ الحركةِ الوطنية السياسية، ولكن هذا هو طابعُ الحياة الاجتماعية في بلدٍ وجدَ نفسَه يركضُ سريعاً نحو التحرر السياسي والتحديث والتوحيد الوطني.
فلا عجب أن يقومَ كلُ كادر سياسي وطني بمهمات كثيرة في آنٍ واحد، ولهذا نجدُ الأستاذ حسنَ الجشي مشغولاً في الصباح بالضبط والربط والتثقيف في المدرسة، وفي المساء بمداولات النادي وتوسيع المشاركة فيه ونشر تأثيره التوحيدي الفكري بين الجمهور المشتت طائفياً، وعقد اجتماعات بين أقطاب الحركة الوطنية لاختيار أنجع السبل لتحريك الحياة السياسية المهيمن عليها من قبل المستشار بلجريف والمركز البريطاني، ومن ثم الإنشاء التدريجي الصعب لمطبوعة (صوت البحرين) التي تــُحرر في الداخل وتـُطبع في الخارج، وهي المطبوعة المرَّاقبة، ولكن في ذات الوقت المعبرة عن قضايا وثقافة مثقفين يندفعون بسرعة لقيادة حركة سياسية متفجرة!
ولهذا فإن ما جمعتهُ وزارة الإعلام من كتاباتِ حسن الجشي وغيره هي موادٌ مختارة، وغيضٌ من فيض، ليست هي ما يُسمى بالأعمال الكاملة، ولكنها عينة مما كتبهُ خلالَ هذه السنوات، ولهذا فإن ثمة اختيارات وانتقاءات.
وتشيرُ الموادُ المقدمة المختارة إلى هواجس وهموم الكاتب الجشي وإلى الأشكالِ الكتابية الفكرية الموظفة للتعبيرِ عن تلك الهموم، وهي أشكال متقاربة مع نظائره من أفراد الفئة الوسطى الذين قرروا تحدي عالم التبعية والتخلف، من خلال مواد فكرية بسيطة، ليس لها جذور كبيرة في الإنتاج الثقافي الوطني المحلي، فتعتمدُ على الاستيراد العربي، وخاصة من مانشيتات الفكر القومي المنتشر في المشرق.
يقولُ في مقالةٍ بعنوان (رسالة الشباب في فترات البعث والانتقال): (إن الأممَ مهما أغرقتْ في همودها وتمادتْ في غفوتها، فإن طبيعة الحياة المتجددة تأبى إلا أن تحفزها فتفتح أعينها وتتحرك في أغلالها، ومن ثم تنطلقُ لبعث الأمجاد وإنشاء الحياة، وحاملو هذا البعث، أبداً، هم الشباب أو من تعيش في جوانحهم عزمات الشباب)،( منشورة سنة 1950)،(ص12).
إنه المنشورُ القومي الذي يعتبر الشعوب العربية كياناً يعيش لحظة همود، فلا يستعمل كلمة الموت، وهو الآن يستيقظ، مثل جسم الرجل المتواري في التراب، ويقوم بذلك الإيقاظَ الشبابُ المتحمسُ، ويبحث الأستاذ الجشي طبيعة هذا الهمود أو النوم في مفردات نفسية وفكرية، كغياب البصيرة، وغياب الشباب الملتهب شوقاً لتحقيق أمانيه وهو لايجد مثل هذا الشباب.
ويكمل(إن المرء ليُدهش من ضيق أفقنا الروحي وإنكماشنا في الحيز الفردي)، ويتصورُ الكاتبُ بأن هذا الشبابَ لا بد أن يكون موجوداً لنهوض الأمة الطويل السابق: (وذلك مناف لمقومات السيادة، تلك السيادة التي نعمنا بها زمناً ثم أفتت من أيدينا منذ أن أفلتت معاني الشهامة والرجولة).
يعبر حسن الجشي في افتتاحية العقد الخامس من القرن العشرين عن مهمات فكرية وأخلاقية وعن ضرورة توقد الشباب لخدمة الوطن.
إن مقالات الأستاذ حسن الجشي في مجلة(صوت البحرين) تنتقلُ من الجوانب الفكرية والأخلاقية المجردة، التي تتصورُ الأمةَ العربية شخصاً نامَ وعليه أن يصحو الآن، إلى المهمات السياسية العاجلة والمهمات الاجتماعية الملحة لشعبٍ محدد.
وتتزواجُ المهمات السياسية والاجتماعية في تلك اللحظة المفصلية من نضال شعب البحرين، فغدت مقالات الجشي موجهة نحو وحدة الناس:(فاللهم ألفْ شملهم وأجمعْ كلمتهم..وتحلُ نكبة، كالحريق مثلاً، بجماعةٍ من الطائفتين فينبري القادرون من أفرادها إلى جمع الإعانات المالية من الطائفة نفسها، دون أن يشركوا معهم أغنياء الطائفة الأخرى)،(ص 21).
أخذت مهماتُ التوحيد السياسي تستأثرُ باهتمامِ الكاتب، فيتوجهُ لبحثِ جزئياتها في الحياة الاجتماعية كتوقف دار الأيتام بسبب هذه المشكلة، وآثار ذلك على النشء، ثم يتوجهُ نحو بحثِ جذورِ الطائفية في المذاهب، فلا يعزوها للاختلافات الفقهية، بل يرجعُها إلى مسألة الخلافة، ويدهشُ كيف تؤثرُ هذه المسألة المدفونة في بطون التاريخ على أحداث الحياة اليومية وتغلُ أيديَّ الناس عن فعل الخير والتصدي للاستعمار؟
ويدهشُ أكثر وهو يتصفحُ آياتَ القرآن التوحيدية ويعددها، ثم يعودُ إلى أن المسألة ترجعُ لنزعات طائفية هدامة، داعياً للتطهر منها والتعاون عليها.
ويستمر الأستاذ الجشي في تنوير الشباب جامعاً بين مسائل فكرية وسياسية متشعبة، وبين توجيهات ثقافية واجتماعية محددة، فهو يكتبُ عن شعار قتل الوقت الصادح بين الشباب، فيعجبُ منه أشد العجب، ويعددُ قوائمَ المثقفين الذين عصروا الوقتَ عصراً وحولوه اختراعات ومؤلفات، وينتقدُ في مقال آخر بلديةَ المنامة التي حولتْ حديقة في المنامة إلى زريبة حمير!
إضافة إلى المعالجات الحدثية والتوجيهات الاجتماعية لخلق خميرة الشباب الملتف حول الحركة السياسية الوطنية، يركز على المسائل الفكرية المحورية، وخاصة مسألة النظام الاجتماعي القادم والمطلوب، وهو أمرٌ يُؤخذ بشكل نظري عام، ورداً على مقالة للأستاذ يوسف الشيراوي يدعو فيها لأخذ النظام الغربي جملة وتفصيلاً، أي إستيراد الغرب بكامله، في حين يستوعبُ الجشي تركيبية هذه المسألة المعقدة، مدركاً مصير الأمة العربية(كأمة لها خصائصها الروحية والاجتماعية الفارقة)، وهي مسألة صحيحة أدركها الجشي في ذلك المسار المضطرب للتطور، كذلك فإنه يتفقُ مع الأستاذ يوسف الشيراوي في المهماتِ الاجتماعية الوطنية الجذرية للنظام السياسي عموماً وهي(تطهير الأمة العربية من الزعماء الأنانيين، ودك صروح النظام الإقطاعي، والقضاء على الاستعمار) وهي خطوة كبيرة في رأيه نحو(إنشاء مجتمع أفضل) أو(مجتمع فاضل) بتعبير آخر.
وإذ يصر الجشي على (بعث حضارة لها مثلها الخاصة السامية) وهو ما اعتبره الشيراوي شيئاً خيالياً، لكن من جهتهِ لم يوضح الجشي ما إذا كانت هذه الحضارة العربية المنبعثة تتناقضُ مع سمات العصر؟ ثم يدور في حلقة التجريد الكبيرة(إنها تراثنا الأكبر، ورسالتنا الخالدة إلى هذه الإنسانية المعذبة)، ويعتبر الحضارة الغربية الديمقراطية موجهة(على إبعاد هذا الدين العظيم عن مجال الحياة، وحصره في أضيق الحدود).
وبطبيعة الحال فإن الأستاذ الشيراوي لم يجب عن هذه الأسئلة، كذلك فإن الجشي يواصل التعبير عن هذه الحضارة العربية الإسلامية الجديدة ومثلها، ولكنه لا يفرقُ بين الحضارة الغربية المسيحية الحديثة، وبين الحضارة الغربية كحضارةٍ إنسانية عامة، أي حضارة الحداثة والعقلانية والعلمانية والديمقراطية، وهي الأسسُ التي راحت تأخذ بها الأممُ الأخرى غير الغربية المسيحية حسب أديانها وتقاليدها وتجاربها.
وإضافة للمقالات العلمية العديدة التي ينشرها عن العقل واللاشعور والذكاء فإنه يزداد نقداً للأوضاع السياسية والاجتماعية في منطقة الخليج، ويتوهجُ قلمُهُ مراراً مع أناشيد الثورة المصرية المتفجرة وقتذاك، وينشد لنموذج الدولة السوفيتية القافزة في التنمية رغم رفضة لمنهج الألحاد فيها، مندفعاً لموديل التسريع الذي كانت تبشر به أيديولوجية الانقلابات العربية.
إنها كتابة متوثبة أعطت ما عندها في زمن صعب.


