مراجعة كتاب الغيب للشيخ الشعراوي

الغيب الغيب by محمد متولي الشعراوي

My rating: 5 of 5 stars


... يقول الشعراوي في كتابه "الغيب": "قد نكون في مكان واحد ولكن في غرف منعزلة، فيغيب عنا ما في الغرف المجاورة لنا، وقد نجلس مع أشخاص نتحدث معهم، ويكونون مشهودين لنا ولكن يغيب عنا ما يدور في عقولهم وصدورهم."، إن الشعراوي يحدثنا في هذا الكتاب صغير الحجم بسيط اللغة عن الغيب بادئا من معناه، متعمقا في بواطنه، ناظرا إليه في كل أبعاده، يحدثنا عن تلك الكلمة التي نعرفها، ولكنه يرينا إياها رؤية مختلفة، رؤية شعراوية، ينبهر الغافل عنها برؤيتها، ويعجب العالم بها بصياغتها.
... ويبدأ الشعراوي في كتابه بإيضاح نوعي الغيب، وهما الغيب المطلق، وهو ما في علم الله وحده حتى يظهره لأحد عباده، كما أوحى به تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكما يهدي عباده إليه بعلم يظهر لهم مثقالا هو إلى ما لديهم كبير، وإلى ما يجهلونه مثقال ذرة. والغيب النسبي، ذلك الغيب الذي تجهله ويعرفه غيرك، مما حال بينك وبينه من زمن أو مكان أو حواجز طبيعية وروحية، يقول الشعراوي: "وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ" إن كل حركات الإصلاح البعيدة عن منهج الله هي إفساد في الأرض لأنها بعدت عن الخالق الذي يعلم إلى المخلوق الذي لا يعلم إلا قليلا"، فقد تقوم بفعل تحسبه خيرا ولكن ما هو إلا فساد ستره الغيب، سواء كان الغيب النسبي لجهل، أو الغيب المطلق لعجز، وربما كان أحد حواجز ذلك الغيب.
... ومن هذه النقطة ينتقل بنا الشعراوي إلى أعماق الغيب النسبي، ليظهر لنا حواجزه فيتضح لنا كيف أنه غيب؟ وأنه في الوقت ذاته ليس بغيب، وأول حاجز من حواجز الغيب هو الماضي، إن الماضي حدث بالفعل، وشهده الناس، بل كانوا جزءا منه، ولكنه بمرو الوقت يصبح غيبا بما يصبه من تحريف، وتبديل، وإهمال، أو حتى هجر، فمهما كانت الشواهد من التاريخ على حدث معين متوفرة وظاهرة لا يمكنك الجزم مئة بالمئة أن ذلك الحدث قد تم كما تقول الشواهد، بل لا يمكنك الجزم أنه حدث بالفعل. وأريد أن أضيف هنا على كلام الشعراوي وأتحدث عن التاريخ الأقصر _عمر الفرد الواحد_ إن الذاكرة الإنسانية رغم كبرها واتساعها إلا إنها تحوي القليل مما مررنا به منذ أن جئنا إلى هذه الدنيا وحتى نغادرها، إن المرء لا يمكنه أن يجزم على حدث وقع عليه شخصيا ولم يصبه أي تحريف أو تبديل أو... أو، ولكنه حدث له منذ عدة سنوات، بل ربما منذ عدة أيام.
... إن مفهوم الغيب يتسع ليشمل حتى ما عرفناه ومحاه الزمن، وما سنعرفه ولكن يحجبه الزمن، وهذا هو الحاجز الثاني للغيب _المستقبل_، ويقول فيه الشعراوي ويضرب مثالا من أهم الأمثلة لإيضاح مضمون الغيب، فيقول: "فأخبر أن هناك من سيأتون ليقولوا إن الإنسان قرد!! وأن أصل الحياة كذا وكذا، وسيأتون بنظريات كاذبة فلا تستمعوا إليهم _لأن هؤلاء مضلون_ يريدون لكم الضلال، وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى: "مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا"، وتحققت نبوءة المستقبل، وجاء من يضل ويقول إن أصل الخلق كذا ويفترون على الله الكذب، ونقول إن هؤلاء جميعا جاءوا ليثبتوا صدق القرآن الكريم"، فالغيب حتى وإن أظهر الله جزءا منه في كتابه أو في وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يظل غيبا، مع علمنا به لا يمكننا تغييره، فهو غيب حتى ونحن نعلمه.
... ويتضح ذلك المعنى أكثر في الحاجز الثالث من حواجز الغيب وهو المكان، والمكان هنا قد يكون الإنسان نفسه، يقول الشعراوي: "ثم يأتي التحدي من الله تبارك وتعالى في كل ما يخفيه المنافقون ويعتبر غيبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فيقول الحق جل جلاله: "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ"، وهكذا كشف الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم لرسوله عليه الصلاة والسلام ما في صدور المنافقين، دون أن يجرؤ واحد منهم على أن يكذب ما أخبر به الله، وأنزله في القرآن الكريم".
... إن هذا الكتاب الذي تتم قراءته في عدة ساعات، يشرح لنا ذلك المفهوم _الغيب_ شرحا وافيا بأبسط طريقة يمكن أن يشرح بها، وإن رأى أولو العلم فيه تقصيرا فذلك لأن الكتاب ليس موجها لمن أراد تحصيل علم، وإنما هو موجه إلى تلك الحلقة التي رأيناها ملتفة بالشيخ في دروسه المسجلة، فالكتاب ما هو إلا اتساع لتلك الحلقة.
... والمأخذ الوحيد، والذي نحسبه من حسن النية أو السهو، هو المثال الذي ضربه الشعراوي في الصفحة رقم اثنين وخمسين، حيث يقول: "واقرأ قول الحق جل جلاله: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ" هذه السورة نزلت في أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقول أنه سيموت كافرا ويدخل النار، ونزلت كما قلنا في قضية اختيارية، هي قضية الإيمان. .... ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن أبا لهب جمع القبائل وقال لهم إن محمدا قال في قرآن يدعي أنه ينزل من السماء أنني سأموت كافرا وسأدخل النار، وأنا أعلن أمامكم إسلامي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.... لو قال أبو لهب هذا نفاقا أو رياء أو كذبا لهدم قضية الدين من أساسها ...."، والمثال هنا ضعيف لأن أبا لهب إن فعل ذلك نفاقا، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار، إذا النتيجة واحدة. وإن المثال الآخر الذي ضربه الشعراوي عن المنافقين والذي ذكرته سابقا عن إظهار ما في قلوب المنافقين، كان كافيا لتوضيح المعنى، فكان بمقدور المنافقين أن ينكروا ما في قلوبهم وأخبر الله به، ولكنهم لم يجرؤا على ذلك.
... وأختتم بالقول أن الكتاب لا يحدثنا فقط عن الغيب، وإنما هو جلسة تدبرية في الكثير من آيات القرآن الكريم، وإيضاح لبعض الشبهات التي أطلقها رواد العلم الحديث عن جهل بمعناي القرآن ومعنى الغيب، شبهات حول ما في الأرحام وحول الرزق وغيرها، ولا يسعنا المقال هنا لذكرها، وإن الكتاب لخير من يعبر عن نفسه.




View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 12, 2022 11:05
No comments have been added yet.