أحمد المحمدي's Blog

March 20, 2022

مراجعة كتاب أبي الذي أكره

أبي الذي أكره أبي الذي أكره by عماد رشاد عثمان

My rating: 4 of 5 stars


... بقدر كل ذلك الحب الذي أشعر به تجاه الأطفال، وتلك الابتسامة الدافئة التي تحتضنني حين رؤيتهم، وبقدر تلك الحركات البلهاء والحالة الجنونية، بقدر كل هذا يكون الخوف، والغريب في الأمر أن ذلك الخوف كنت أشعر به وأنا لا أزال صبيا لا يدرك معنى المسؤولية تجاه هؤلاء الأطفال، وكأن تلك المسؤولية شيء فطري ينقذف في قلوبنا كما تنقذف تلك السعادة، وهنا لا يمكنني تصور تلك اللا مبالاة في تعامل الناس، بل الأسوأ تعامل الآباء مع أطفالهم، وكأن مجال رؤيتهم به عطب ما.
... وهنا يتولد لدي شعور آخر عند رؤية طفل ما، شعور بالانزعاج تجاه ذلك الأب وتلك الأم اللذين لا أعرفهما، بل ربما لم أرهما حتى، عندما أرى طفل في حالة يزرى لها لا يكون مقدار استيائي له وشعوري بالعطف نحوه بقدر شعوري بالانزعاج من أولئك الذين أعطوا حرية لا يستحقونها، فخيلت لهم حق إنجاب أطفال ثم إطلاقهم هكذا دون مسؤولية، بل دون وعي.
... وبالعودة هنا إلى الكتاب محل المراجعة "أبي الذي أكره" والذي يرى البعض أن العنوان مبالغ فيه، أو هو دعائي أكثر من كونه حقيقي ومرتبط بالكتاب والحياة، ولكن شعور الانزعاج والكره تجاه أب لا أعرفه لطفل لا أعرفه، لا يمكن إنكاره عند ذلك الطفل نفسه، والمقولات الإنشائية من أمثلة " لا أب يكره ابنه" و "لا طفل يكره أباه" غير حقيقية، بل إن بعض الأبناء لا يبالون لوالديهم، وذاك أكبر بكثير من مجرد الكره، فالكره استمرار وجود علاقة.
... فالعنوان حقيقي ومرتبط بالمضمون وليس دعائيا فقط، والعنوان الثانوي _رغم أنني لا أحب العناوين الثانوية_ بدونه ربما حصل الكتاب على تقييم أقل، فالعنوان الرئيسي وفهرس الكتاب وكون الكاتب طبيب نفسي، يوصلون بسقف توقعاتنا إلى مستوى أكثر اتساعا، وأكثر منهجية علمية، ولكن العنوان الثانوي "تأملات حول التعافي من إساءات الأبوين وصدمات النشأة" يعيد توقعاتنا إلى مستواها الطبيعي.
... وبالحديث عن لغة الكتاب، فهي بسيطة بالقدر الذي يجعلها مفهومة لمن لا يستسيغ الفصحى، جيدة لمن يتلذذ بها، ولكن الأسلوب لم يكن سلسا، لا لمشكلة في الأسلوب نفسه، فأي فقرة أو صفحة من الكتاب تقرأها ستجدها مفهومة وسلسة، ولكن التعقيد البسيط الذي وجدته في بعض المواضع يعود لعدم الترتيب أو لأكون أكثر دقة عدم التبعية، ففي بعض المواضع في الكتاب احتجت أن أعيد القراءة أكثر من مرة لأدرك الترابط بين الفقرات وبالتالي أدرك ما الذي يريد قوله.
... وهناك نقطة أخرى في الأسلوب، ولكنني لم أستطع الجزم بسلبيتها أم لا، وهي التكرار، فالكتاب مكون من ثلاثمائة صفحة يمكن أن تكون مئتين فقط، ولكن التكرار هنا يقع تحت مفهوم الشرح، فهو يشبه تكرار شرح مسألة رياضية، التكرار فيها لا يشعر به إلا عندما يتحقق الفهم، ويكون ما بعد ذلك ملل وربما حتى هجر، وبالتالي فالتكرار هنا نسبي يختلف الشعور به من قارئ لآخر.
... يبدأ الكتاب بفصل اختار له الكاتب السجن عنوانا، قام الكاتب فيه بتجميع مجموعة من القصص يحكها أصحابها الحقيقيون حول تجاربهم مع إساءات الأبوين، وكأن الإساءة هنا سجن حقا، سجن ربما للعلاقة فهي لم تنم وتتطور كما كان لا بد لها، وسجن ربما للابن يعيقه عن التعبير والتعامل، لا مع أبويه فقط، بل مع الحياة بكل ما فيها من تعددية، وسجن ربما للأب نفسه بحيث يصير معزولا ويزداد ذلك العزل كلما كبر الابن وقلت احتياجاته له.
... يقول أحدهم: "يظن الآباء أنهم بصفعاتهم يؤهلوننا لعالم قاس لن يربت على ظهورنا، لا يدرون أن ربتاتهم الغائبة هي ما كانت ستؤهلنا لقسوته، وأن صفعاتهم لم تصنع فينا سوى أن منحت الخوف وطنا داخل نفوسنا! .... كنت خائفا على الدوام، فردات أفعاله لم تكن متوقعة قط، كان يغضب لأقل الأشياء .... لم يزل حتى اللحظة يفزعني اتصاله الهاتفي؛ ظهور رقمه على هاتفي يمنحني رعدة خوف .... كان يظن أنه ينشئ رجلا ويقوي ظهره ويمنح جلدي خشونة لازمة، ولم يمنحني سوى قشرة رجولة ظاهرية ...." ص16، المشكلة الأكثر انتشارا، والحقيقة أنها لا تحتاج لإيضاح، والحقيقة أن ذلك الأب نفسه لا يزال يعاني من أثار تلك القسوة، ولا يجد المرء تعليلا لها ولا لتكررها في الأجيال المتلاحقة غير ذلك التعليل الذي ذكره الكاتب، وهو أن تلك القسوة التي عانينا منها للأسف صارت هي لغتنا في الحياة والعلاقات، فنحن لم نفهم أو نجرب غيرها، صارت ردات فعل تلقائية تجاه أي مؤثر من تلك المؤثرات التي كنا نحدثها فتنصب علينا.
... وزنزانة أخرى من تلك الزنزانات بالفصل الأول تتحدث عن غياب الأب، وفي الواقع نرى الناس تتحدث عن الهجرة والاغتراب بسلاسة غريبة وكأن ليس لها أية تبعات، وإذا تحدث أحدهم عن تلك التبعات لم يذكر إلا التي تخصه فقط، وبالمثل الحديث عن الطلاق، وإن كنا نسمع عبارات هنا عن الأبناء، ولكنها في الغالب تكون التفاف ماكر لإثناء أحد الطرفين عن رغبته، وكل هؤلاء لا يدركون حقا معنى غياب أحد الأبوين، أين سيرى الابن أو الابنة صورة الرجل والمرأة أول ما يريا إلا في البيت، إن غياب أحد الأبوين يشبه تماما معادلة اختفى منها فجأة أحد معطياتها، ثم نطالب بأن نجد لها حلا، إن وجود الأبوين مماثل لوجود الحواس، كلاهما مهم للإدراك ومن ثم التكوين، وبالتالي غياب ولو جزء بسيط منها لن يصل أبدا إلى تكوين سليم تام.
... وزنزانة أخرى يتحدث عنها الكاتب، وهي التحرش، ولا يتحدث الكاتب هنا عن التحرش بصفة عامة، بل عن التحرش من الأهل، وكيف أن الضحية تقع في حيرة بين ما ينبغي أن يكون عليه الأهل والحب الذي يفترض أنهم مصدره، وبين تلك الإساءة، وحيرة بين الحضن الآمن الذي تلقي فيه همومها، والخوف من ذلك الحضن نفسه، وتؤول بها تلك الحيرة إلى اضطراب في المفاهيم، فربما شعرت أن العيب بها وأنها هي الرجس نفسه، ولا يمكن أن نتصور إنسان يسير في الحياة مصحوبا بذلك التصور، وأحيانا تؤول به تلك الحيرة إلى العبثية، ومعهم كل الحق في ذلك، فأي شيء قد يكون أكثر عبثية من التحرش من الأهل، ويتسع شعورهم ذلك بالعبثية ليشمل الحياة بأسرها، بل وما وراء الحياة، فالإيمان عندهم عبث، والعلاقة بينهم وبين الله عبث.
... ينتقل الكاتب بعد ذلك في الفصل الثاني ليتحدث عن آثار تلك الإساءات في التكوين، فمثلا الذي نشأ في بيئة تطلب منه دائما الأفضل، بل ما فوق الأفضل، فلم ينجح فقط بينما قريب منه حصل كذا وكذا، ومن نشأ في بيئة الحب فيها مشروط من أمثلة "لو عملت كذا سأحبك ..."، أو من نشأ في بيئة لا تثق في قدراته، فهو لن يقدر .... لن يعرف ..... لن .... ولن....، كل هؤلاء لا تقف عندهم الإساءة إلى ذلك الحد، بل تصير طبيعة حياة وطريقة يعالجون بها كل ما يعتريهم، فتلك الإساءات تحولهم إلى باحثين عن الكمالية غير الموجودة، فيرهقهم شدة التفكير في أبسط الأمور، ويعيقهم التردد ويبطأهم، ويصل ببعضهم الأمر إلى ما يسمى بالوسواس القهري.
... ومثال آخر عن الناشئ في بيئة متدينة، ولكن قاسية، ثم تبرير تلك القسوة بالحب، فيختلط هنا عند ذلك الابن الحب والقسوة والدين، فإما أن يصير الحب والدين عنده قسوة، ويصبح ذلك هو المفهوم الذي يتعامل به مع الدين ومع من حوله، وهنا لا نستغرب أن يصير متشددا أو حتى إرهابيا، فهذا التشدد وذلك الإرهاب ما هما إلا حب تجاه تلك الفئة الضعيفة التي لا تفقه شيئا والذي كان هو في يوم ما واحد منها.
... أو يأخذ مسارا مخالفا تماما، مسارا يتجاهل الحب ولا يدرك سوى القسوة، فيكره ذلك الأب الذي يقسو عليه، وعندما كان الأب يقسو عليه باسم الدين أو بوازع ديني، يكره الابن ذلك الدين أيضا، فالله الذي يقسو عليه لا يحبه، ولذلك هو لا يؤمن به، يقول أحدهم: "كنت أتعمد أن أعرف عمن يصمهم بوصمات (الضال المضل)، ومن يكتب عنهم تحذير من ضلالات (فلان)، ومن يشنع بهم على المنبر ويصفهم بالمبتدعة والزنادقة والمارقين، فأدلف إلى عالمي السري لأتابع حكاياهم، وخروجهم عن المألوف. لقد كانوا يمثلون لي الخروج عن سطوة أبي، فصاروا جميعا أبطالي!" ص27.
... وأثر آخر من آثار الإساءات في التكوين، والحق أن الإساءة هنا من نوع مختلف، وهي من الإساءات غير المباشرة، وهي إساءة الأب المثالي، نعم فالمثالية الزائدة عن الحد هي إساءة، يقول الكاتب: "ولما كان الأطفال يستمدون ضميرهم الأخلاقي من النموذج الأبوي (افعل ولا تفعل) و(ذلك عيب) و(هذا حرام) مقابل (تلك فضيلة وهذه أخلاق)، لذا فإن الضمير المستمد من شخصية مثالية ظاهريا يصبح ضميرا متضخما للغاية ومتورما بشدة وكأنه يحمل دستورا سرطاني النمو وينغرس داخل عقول الأبناء إنجيلا أبويا ممتلئا بالصفحات والوصايا. وبالتالي يحمل الفرد منا حينها ضجيجا ذهنيا مفرطا يلومنا تجاه كل فعل نقوم به .... ستصبح أنت أمام عقلك دوما متهما" ص67، وهنا تذكرت ثلاثية عم نجيب، وأثر المثالية المفرطة التي كان يظهرها السيد أحمد أمام أبنائه، وكيف كانت تلك المثالية تقلقهم، بل وتخيفهم من مجرد الحديث معه، كيف لأمينة وهي تسكن جوار الحسين ولم تزره أبدا، كيف تحول كمال من طفل يحكي لأمه يوميا عن دروس الدين، ويسير من أمام دكان أبيه مستعيذا منه بالمعوذتين، كيف تحول إلى ملحد عندما سقطت تلك الصورة المثالية لأبيه كما سقطت كل خرافة آمن بها، واتضحت له الصورة الأخرى التي حاول السيد أحمد جاهدا إخفاءها.
... كل هذه الإساءات وغيرها تكون بداخلنا شخصية وهمية غير شخصيتنا الحقيقية، نحتمي بها من إساءات المجتمع المستمرة ومن الزيف المنغرس فيه، بل إن ذلك المجتمع لا يهدأ له بال حتى تتحول تلك الشخصية الوهمية من مجرد قناع نحتمي به إلى شخصية وهمية دائمة، نستبدلها بشخصيتنا الحقيقية.
... ثم يركز الكاتب الحديث في الفصل الثالث على آثار الإساءات على العلاقات، فيقول مثلا: "الشاب صاحب جرح الإيذاء من الأم ربما يتحول إلى (دونجوان) تعددي لا تشبعه علاقة.. يبحث عن ثأره ويركز دوما على صورته لدى الأنثى.." ص103، وأعود إلى الثلاثية مرة أخرى وأتذكر ياسين، وكيف أن أمه لم تحوله فقط إلى دونجوان، بل إلى حيوان يريد أن يقيم علاقة مع كل أنثى تقع عيناه عليها حتى وإن كانت عجوز فوق الستين. "وصاحب جرح الغياب من الأب ربما يكون إرضائيا يخاف الرفض ويركز في علاقاته على الصداقات مع الذكور ويمنحها أهمية كبرى. والمرأة صاحبة جرح الإساءة من الأب تجدها أحيانا تبدو كتومة.. تبحث عن علاقة مثالية.. حذرة في التعاملات الذكورية.. رغم كون حياتها بشكل أو آخر تتمحور حول البحث عن العلاقة المثالية.." ص103.
... ويكمل ويقول إن الإساءات تركز بداخلنا شعور بالخزي والنقص، نحاول التغلب عليه بالحكم على الناس، وإظهار عيوبهم؛ محاولة منا أن نخبر أنفسنا أن الجميع سيء ليس نحن فقط، ثم يصير الموضوع مع الوقت إلى عادة، فلا يمكننا التوقف عن الحكم على الآخرين، بل تنقلب تلك العادة علينا فلا يمر موقف دون أن نحاكم أنفسنا عليه ونلهبها جلدا وتعذيبا، فنشعر بالخزي، فنحكم على الآخرين، ونستمر في نفس الدائرة المغلقة.
... ثم يأتي الفصلان الأخيران من الكتاب ليتحدثا عن التعافي ومراحله، يقول الكاتب: " ويبدأ الألم حين نكف عن أن نكون (الفاعل) في حياتنا ونتحول إلى (مفعول به).. مجرد مستقبل لأفعالهم بنا. .... تبدأ الحيرة حين تنفتح حياتنا "أرضا" مشاعا للعابرين، يحطون فيها متى شاءوا ويرحلون وقتما أرادوا!" ص221، وتلك مرحلة مهمة من مراحل التعافي، أن ندرك أن حياتنا ملك لنا، وأن لها قيمة، بل هي أكبر قيمة على الأرض، لا ينبغي أن نضيع فيها ولو لحظة من أجل الآخرين مهما كانوا، ولا ينبغي أن تمر بنا لحظة ونحن حبيسون لأفكارهم وأراءهم ورغباتهم.
... ومن مراحل التعافي المهمة أيضا البوح، والتعبير الشعبي "وكأن حاجة شيلت من على صدري" تعبير صحيح مئة بالمئة، فحتى وإن بحت بما داخلك لنفسك بصوت عال، أو كتابة، أو في صورة تسجيل صوتي، سيشعرك ذلك بالراحة، لأنك ببساطة قمت بتلك المهمة المزعجة التي يقوم بها العقل الباطن من تكرار تذكيرنا بتلك الإساءة التي تعرضنا إليها، فبالبوح تخبره أن يأخذ إجازة إلى أجل مسمى؛ فأنت تتذكرها بالفعل ولا تحتاج إليه.
... وفي المجمل كانت تجربتي مع الكتاب تجربة مختلفة مع نوعية مختلفة من الكتب، ولا أعتقد أن هناك من سيقرأ الكتاب ولا يجد جزء بسيط من نفسه في سطر من سطوره، وذلك شعور غريب ومهم أن تجد نفسك أمامك تصرخ لك ها أنا ذا رغم محاولتك المستمرة في دفني وإنكاري.




View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 20, 2022 13:38

February 24, 2022

مراجعة كتاب القرآن كائن حي لمصطفى محمود

القرآن كائن حي القرآن كائن حي by مصطفى محمود

My rating: 4 of 5 stars


... القرآن كائن حي، اثنا عشر مقالا مجمعة في كتاب، هذا العنوان لأحدها، ولكنه كذلك يصلح أن يكون عنوانا لأكثر من نصفها، لذلك فهو ليس بالعنوان الخادع الذي يقصد به الجذب وفقط، بل هو عنوان جذب وعنوان مضمون وعنوان تفاعل.

... يتحدث مصطفى محمود في المقال الأول والذي يحمل اسم الكتاب عن القرآن ويقول: " ما أشبه القرآن في ذلك بالكائن الحي! الكلمة فيه أشبه بالخلية، فالخلايا تتكرر وتتشابه في الكائن الحي، ومع ذلك فهي لا تتكرر أبدا، وإنما تتنوع وتختلف، وكذلك الكلمة القرآنية فإننا نراها تتكرر في السياق القرآني ربما مئات المرات، ثم نكتشف أنها لا تتكرر أبدا برغم ذلك، إذ هي في كل مرة تحمل مشهدا جديدا.... وهذا هو القرآن حكمه حكم بدن فيه روح. ولهذا يقول لنبيه عن القرآن: "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا"" ص٤-١١، ويضرب مصطفى محمود أمثلة عن تلك الروح، ومنها كلمة "نطفة" وكيف أنها تكررت في أكثر من سورة وأكثر من موقع ولكنها في كل موقع هي نطفة جديدة تزيد الأولى كمالا وتتمة، ففي البداية كانت "نطفة"، ثم كملت بأن صارت "نطفة أمشاج" أي خليط من الصفات الوراثية، ثم زادت كمالا بقوله تعالى: " وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ" أي أن تلك النطفة الموجودة في مني الرجل هي التي تحدد نوع الجنين، ثم ازداد المشهد كمالا حيث صارت "في قرار مكين" أي الرحم، ثم تتمة المشهد بالمراحل التي مرت بها النطفة إلى أن صارت جنينا.

... ثم ينتقل مصطفى محمود من صورة الخلايا التي تتكرر لتتكامل معا في بناء الكائن الحي إلى صورة الخلايا التي يفقد الكائن الحي اتزانه بفقدها، فيقول: "يقول القرآن عن الصبر على المصيبة: "إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" ثم نراه يضيف حرف "اللام" للتوكيد حينما يتكلم عن الصبر على أذى الآخرين فيقول: "وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" لماذا أضاف حرف "اللام" في الآية الثانية؟ لأن الصبر على أذى الغريم الذي تستطيع أن ترد عليه بأذى مثله يحتاج منك إلى عزم أكبر، فالصبر هنا ليس كالصبر على مصيبة لا حيلة لك فيها." ص١٣، ومثال آخر عن كيف يقول الله لليهود "اتقوا النار" ويقول للمؤمنين "اتقون"، فالعقول المادية غير المؤمنة لن تخاف إلا شيئا ماديا يمكنها إدراكه، أما المؤمنون فيعلمون أن الله أحق بالتقوى. والأمثلة في المقال كثيرة، والصفحات القليلة للمقال كانت كافية لتعرفنا على روح القرآن، تلك الروح التي تتفاعل معنا كما نتفاعل معها، وتنمو كما ننمو، ونجد عندها جديد في كل مرة نجلس إليها.

... ويتحدث مصطفى محمود في المقال الثاني، والذي يحمل عنوان "النفس والروح" عن الإنسان وكيف أنه جسد من طين، وروح نفخها الله من روحه، ونفس هي ذاته المضطربة اضطرابا مستمرا بين قطبي الروح والجسد، فنفس الإنسان هي التي تحيا، هي التي تتعلم، هي التي تفعل، وهي التي تموت، وهي التي تحاسب، وهي في رحلة الحياة التي تسير فيها إما تنجذب إلى طين الجسد فتكون كالحيوانات والشياطين، أو تسمو إلى الروح وتقترب من نورها.

... ثم ينتقل إلى مقال "لماذا خلقنا الله؟"، ويجيب هنا إجابة فلسفية ربما لا تروق إلى البعض، فيجيب بأن الله خلق كل إنسان ليتعرف على ذاته، ثم يتعرف على ذات الله، ثم يعبد الله بما وصل إليه من علم، وأن الإنسان طيلة حياته يتعرض لمواقف ولاختيارات لتنكشف له ذاته وتتعرى مما ترتديه من أقنعة، فيكون ذلك التعري حجة عليه يوم الحساب، يقول: "وكل موقف يتطلب منك اختيارا بين بديلات، ولا يعفيك من الامتحان ألا تختار، لأن عدم الاختيار هو في ذاته نوع من الاختيار، ومعناه أنك ارتضيت لنفسك ما اختارته لك الظروف أو ما اختاره أبوك، أو ما اختارته شلة أصحابك الذين أسلمت نفسك لهم، ويعني هذا أن الحياة تعريك في كل لحظة، وتكشف حقيقتك وتنزع عنك قشرتك لتخرج مكنونك ومكتومك.... "وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" ص٣٣-٣٦، وتلك الإجابة الفلسفية وإن اعترض عليها البعض، لا تستوي أي إجابة أخرى دونها، فأي فعل يصدر عن إنسان لا يعرف نفسه فهو فعل مَيْسِر، قد يظهر لصاحبه في صورة متعة ومال ولكنه في الأساس بؤس وفقر.

... ونجد في الكتاب مقالات أخرى لا تقل قيمة عما ذكرنا، كمقاله عن تحريف إسرائيل للإنجيل، ومقاله عن العلوم الذرية والإسلام، والإسلام والطب، ومقاله عن الظاهر والباطن، وكيف أن للإنسان بورصة تزداد فيها قيمته وتقل وتستمر في تلك الدائرة المتعاقبة إلى أن تتضح قيمته الحقيقية يوم القيامة، يوم لا مال ولا قوة ولا سلطة وإنما فقط ذاته.

... ومن المآخذ في الكتاب مقاله "الصوفي والبحر"، ورغم أنني قرأت له أعمالا أخرى بها نزعة صوفية وأعجبتني، إلا أنني لم أجد لهذا المقال هدف، فليس هو الواصف للحالة الصوفية التي يصل إليها العارف عند اتصاله بالله، وليس هو بالمناقش للأفكار الصوفية سواء سلبا أم إيجابا، وإنما هو أشبه بقصة قصيرة تفتقد إلى المتعة والحبكة والمضمون. والمأخذ الثاني هو مقال "من أنت" الذي هو تكرار وربما بنفس الصياغة لمقال "النفس والروح"، ولو أنه تم جمعهما في مقال واحد جديد لكان ذلك أفضل للصورة وأتم للمعنى.

... وهذان المأخذان يمكن التغاضي عنهما، لكن مقاله "أسلوب خطبة الجمعة"، وإن كان صحيحا في مضمونه، مهم في موضوعه، إلا أنه لأهميته تصبح فيه الذلة جرما، فقوله: ".... ثم يؤيد كلامه بأحاديث نبوية مرعبة بإسناد طويل عن ابن عنبسة، عن الهيثم بن عدي، عن بن أيوب الموصلي، عن الكلبي، عن التغلبي، عن ابن إدريس، عن ابن الحضرمي... وكل هؤلاء نعلم عنهم الآن أنهم كانوا وضاعين للحديث كذابين، وأن أكوام الكتب الصفراء التي تركوها كانت زيفا وتشويها، وأن نبينا، وهو نبي الرحمة والشفاعة والمغفرة، لم يقل شيئا من تلك البشاعات." ص٥٦-٥٧، وإن معلومة كتلك قد تتوغل في نفوس البعض فتبث فيها حيرة وقلقا بدلا من أن تزدهم طمأنينة وسلاما، معلومة كتلك لا توضع هكذا دون ذكر مصادر ومراجع لها، خاصة وأن البحث عنها برغم التقدم التكنولوجي لا يزال صعبا، فذلة كتلك هي جرم، وذلة أخرى هي اللغة العنيفة في المقال التي يخاطب بها، وأقولها كثيرا لا يمكنك أن تخاطب شخصا تود منه أن يتغير وأنت تحدثه بعنف أو ازدراء أو استهزاء، فأي واحدة من هؤلاء كفيلة لصم الأذان، وإن الغضب والعصبية اللذان يعتريان المرء عندما يتحدث عن أمر جلل وخطير، تلك الخصلتان لا بد أن يتخلى عنهما الكاتب عندما يقرر أن يكتب، وإلا صارت كتاباته كجدالات مواقع التواصل الاجتماعي، جدالات للجدال لا غير.

... والمأخذ الأخير هو مقال "في مسألة المخير والمسير"، فالإجابة التي قدمها ليست إجابة وإنما هي التفاف من ذاك الذي نستخدمه عندما لا نمتلك الإجابة ولكننا مجبرون عليها، وإن التفسير الذي وضحه الشيخ الشعراوي في كتابه "القضاء والقدر" كان أفضل بكثير وأوجز، فالإنسان مخير ولكن الكون كله من حوله مسير، فأنا اتفق مع فلان على موعد باختياري، ولكنني لا أملك أن أعيش، أو يعيش، لا أملك الصحة لذلك، أو المال، لا أملك الظروف المحيطة، أو الوقت، أنا أملك الاختيار ولكنني لا أملك أي شيء آخر، وأنا أملك الاختيار، ولكنني لم أُمَلِّكْهُ لنفسي، وإنما هي إرادة الله.

... في النهاية الكتاب كان ممتعا، وما فيه من جيد أكثر بكثير مما عطب، واللغة البسيطة والأسلوب السلس لمصطفى محمود، وما لديه من تنوع في الأفكار، لمما يدفع دائما إلى إعادة القراءة له.






View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 24, 2022 12:10

February 12, 2022

مراجعة كتاب الغيب للشيخ الشعراوي

الغيب الغيب by محمد متولي الشعراوي

My rating: 5 of 5 stars


... يقول الشعراوي في كتابه "الغيب": "قد نكون في مكان واحد ولكن في غرف منعزلة، فيغيب عنا ما في الغرف المجاورة لنا، وقد نجلس مع أشخاص نتحدث معهم، ويكونون مشهودين لنا ولكن يغيب عنا ما يدور في عقولهم وصدورهم."، إن الشعراوي يحدثنا في هذا الكتاب صغير الحجم بسيط اللغة عن الغيب بادئا من معناه، متعمقا في بواطنه، ناظرا إليه في كل أبعاده، يحدثنا عن تلك الكلمة التي نعرفها، ولكنه يرينا إياها رؤية مختلفة، رؤية شعراوية، ينبهر الغافل عنها برؤيتها، ويعجب العالم بها بصياغتها.
... ويبدأ الشعراوي في كتابه بإيضاح نوعي الغيب، وهما الغيب المطلق، وهو ما في علم الله وحده حتى يظهره لأحد عباده، كما أوحى به تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكما يهدي عباده إليه بعلم يظهر لهم مثقالا هو إلى ما لديهم كبير، وإلى ما يجهلونه مثقال ذرة. والغيب النسبي، ذلك الغيب الذي تجهله ويعرفه غيرك، مما حال بينك وبينه من زمن أو مكان أو حواجز طبيعية وروحية، يقول الشعراوي: "وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ" إن كل حركات الإصلاح البعيدة عن منهج الله هي إفساد في الأرض لأنها بعدت عن الخالق الذي يعلم إلى المخلوق الذي لا يعلم إلا قليلا"، فقد تقوم بفعل تحسبه خيرا ولكن ما هو إلا فساد ستره الغيب، سواء كان الغيب النسبي لجهل، أو الغيب المطلق لعجز، وربما كان أحد حواجز ذلك الغيب.
... ومن هذه النقطة ينتقل بنا الشعراوي إلى أعماق الغيب النسبي، ليظهر لنا حواجزه فيتضح لنا كيف أنه غيب؟ وأنه في الوقت ذاته ليس بغيب، وأول حاجز من حواجز الغيب هو الماضي، إن الماضي حدث بالفعل، وشهده الناس، بل كانوا جزءا منه، ولكنه بمرو الوقت يصبح غيبا بما يصبه من تحريف، وتبديل، وإهمال، أو حتى هجر، فمهما كانت الشواهد من التاريخ على حدث معين متوفرة وظاهرة لا يمكنك الجزم مئة بالمئة أن ذلك الحدث قد تم كما تقول الشواهد، بل لا يمكنك الجزم أنه حدث بالفعل. وأريد أن أضيف هنا على كلام الشعراوي وأتحدث عن التاريخ الأقصر _عمر الفرد الواحد_ إن الذاكرة الإنسانية رغم كبرها واتساعها إلا إنها تحوي القليل مما مررنا به منذ أن جئنا إلى هذه الدنيا وحتى نغادرها، إن المرء لا يمكنه أن يجزم على حدث وقع عليه شخصيا ولم يصبه أي تحريف أو تبديل أو... أو، ولكنه حدث له منذ عدة سنوات، بل ربما منذ عدة أيام.
... إن مفهوم الغيب يتسع ليشمل حتى ما عرفناه ومحاه الزمن، وما سنعرفه ولكن يحجبه الزمن، وهذا هو الحاجز الثاني للغيب _المستقبل_، ويقول فيه الشعراوي ويضرب مثالا من أهم الأمثلة لإيضاح مضمون الغيب، فيقول: "فأخبر أن هناك من سيأتون ليقولوا إن الإنسان قرد!! وأن أصل الحياة كذا وكذا، وسيأتون بنظريات كاذبة فلا تستمعوا إليهم _لأن هؤلاء مضلون_ يريدون لكم الضلال، وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى: "مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا"، وتحققت نبوءة المستقبل، وجاء من يضل ويقول إن أصل الخلق كذا ويفترون على الله الكذب، ونقول إن هؤلاء جميعا جاءوا ليثبتوا صدق القرآن الكريم"، فالغيب حتى وإن أظهر الله جزءا منه في كتابه أو في وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يظل غيبا، مع علمنا به لا يمكننا تغييره، فهو غيب حتى ونحن نعلمه.
... ويتضح ذلك المعنى أكثر في الحاجز الثالث من حواجز الغيب وهو المكان، والمكان هنا قد يكون الإنسان نفسه، يقول الشعراوي: "ثم يأتي التحدي من الله تبارك وتعالى في كل ما يخفيه المنافقون ويعتبر غيبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فيقول الحق جل جلاله: "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ"، وهكذا كشف الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم لرسوله عليه الصلاة والسلام ما في صدور المنافقين، دون أن يجرؤ واحد منهم على أن يكذب ما أخبر به الله، وأنزله في القرآن الكريم".
... إن هذا الكتاب الذي تتم قراءته في عدة ساعات، يشرح لنا ذلك المفهوم _الغيب_ شرحا وافيا بأبسط طريقة يمكن أن يشرح بها، وإن رأى أولو العلم فيه تقصيرا فذلك لأن الكتاب ليس موجها لمن أراد تحصيل علم، وإنما هو موجه إلى تلك الحلقة التي رأيناها ملتفة بالشيخ في دروسه المسجلة، فالكتاب ما هو إلا اتساع لتلك الحلقة.
... والمأخذ الوحيد، والذي نحسبه من حسن النية أو السهو، هو المثال الذي ضربه الشعراوي في الصفحة رقم اثنين وخمسين، حيث يقول: "واقرأ قول الحق جل جلاله: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ" هذه السورة نزلت في أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقول أنه سيموت كافرا ويدخل النار، ونزلت كما قلنا في قضية اختيارية، هي قضية الإيمان. .... ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن أبا لهب جمع القبائل وقال لهم إن محمدا قال في قرآن يدعي أنه ينزل من السماء أنني سأموت كافرا وسأدخل النار، وأنا أعلن أمامكم إسلامي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.... لو قال أبو لهب هذا نفاقا أو رياء أو كذبا لهدم قضية الدين من أساسها ...."، والمثال هنا ضعيف لأن أبا لهب إن فعل ذلك نفاقا، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار، إذا النتيجة واحدة. وإن المثال الآخر الذي ضربه الشعراوي عن المنافقين والذي ذكرته سابقا عن إظهار ما في قلوب المنافقين، كان كافيا لتوضيح المعنى، فكان بمقدور المنافقين أن ينكروا ما في قلوبهم وأخبر الله به، ولكنهم لم يجرؤا على ذلك.
... وأختتم بالقول أن الكتاب لا يحدثنا فقط عن الغيب، وإنما هو جلسة تدبرية في الكثير من آيات القرآن الكريم، وإيضاح لبعض الشبهات التي أطلقها رواد العلم الحديث عن جهل بمعناي القرآن ومعنى الغيب، شبهات حول ما في الأرحام وحول الرزق وغيرها، ولا يسعنا المقال هنا لذكرها، وإن الكتاب لخير من يعبر عن نفسه.




View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 12, 2022 11:05

February 11, 2022

مراجعة كتاب الطريق إلى القرآن لإبراهيم السكران

الطريق إلى القرآن الطريق إلى القرآن by إبراهيم عمر السكران

My rating: 3 of 5 stars


... "الطريق إلى القرآن" عنوان يحمل الكثير، أو أن هذا ما توقعته أنا من الكتاب ولم أجده. يقول الكاتب في مدخل الكتاب: "وفي هذه الرسالة القصيرة التي بين يديك حصيلة خطرات وتباريح حول واقع القرآن في حياتنا، وآثاره المبهرة الحسية والمعنوية."، ولكنني لم أجد لا تلك الخطرات ولا ذلك الواقع إلا في فصلين اثنين من أصل عشرة، وما غير ذلك إلا تكرار حتى مل التكرار نفسه. نفس الأمثلة بنفس المضمون بنفس الطريقة التي سيقت بها وإن اختلفت بعض الألفاظ هنا وهناك.
... وإلى جانب ذلك التكرار بعض المآخذ التي كثيرا ما يقع فيها الكُتَّاب وقد يتجاهلها القارئ، ولكن ذلك العنوان "الطريق إلى القرآن" الذي جذبني منذ البداية إلى الكتاب يحول بيني وبين تجاهلها، ومنها التشبيه الذي يقول فيه: "حين تكون في غرفتك _مثلا_ ويصدح صوت القارئ من جهازك المحمول، أو حين تكون في سيارتك في لحظات انتظار، ويتحول صوت الإذاعة إلى عرض آيات مسجلة من الحرم الشريف، تشعر أن سكونا غريبا يتهادى رويدا رويدا فيما حولك، كأنما كنت في مصنع يرتطم دوي عجلاته ومحركاته ثم توقف كل شيء مرة واحدة، كأنما توقف التيار الكهربائي عن هذا المصنع مرة واحدة فخيم الصمت وخفتت الأنوار وساد الهدوء المكان" ص٩-١٠، وشتان بين سكون نابع من القلب يغشى ما حوله سكونا وطمأنينة، وسكون يتسلل من الخارج إلى القلب يبث فيه حيرة وتوتر، وشتان بين سكون يدفع إلى الحركة، وسكون يوقفها ولا تقوم بعده إلا قلقلة.
... وأيضا المثال الذي ضربه عن المراهق المتذمر من والده وأمه، ولا يستجيب مهما طالت المناقشات والمجادلات، ولكن موقفه هذا يتغير كليا بمجرد تذكيره بقوله تعالى في بر الوالدين، وهذا صحيح مئة بالمئة بل يزيد، ولكني أعود إلى العنوان مرة أخرى "الطريق إلى القرآن" وأتخيل القارئ الذي ربما ما زال على بداية الطريق أو ربما لم يهتد إليه بعد، أتخيله ينتظر أن يخبره الكاتب بعد هذا المثل عن الوسيلة التي تجعله هو كذاك المراهق يهتز لقول الله، فلا يجد إلا المزيد من الأمثلة عن أولو العلم والنبيين والذين يخشون ربهم، وحين تطرق الكاتب إلى ذلك القارئ المسكين قال عنه: "وفي مقابل ذلك كله، حين ترى بعض أهل الأهواء يسمع آيات القرآن ولا يتأثر بها، ولا يخضع لمضامينها، ولا ينفعل وجدانه بها، بل ربما استمتع بالكتب الفكرية والحوارات الفكرية وتلذذ بها وقضى فيها غالب عمره، وهو هاجر لكتاب الله يمر به الشهر والشهران والثلاثة وهو لم يجلس مع كتاب ربه يتأمله ويتدبره ويبحث عن مراد الله من عباده، إذا رأيت ذلك كله...." ماذا أفعل؟ يكمل قوله: "فاحمد الله يا أخي الكريم على العافية، وتذكر قول الله سبحانه: "فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ"."، فالطريق إلى القرآن موجه لمن وصل بالفعل إلى نهاية الطريق وليس لمن ما زالت قدماه تتعثران من حين إلى آخر بعراقيل الدنيا. فليته أسماه "طريق مع القرآن".
... والمأخذ الأخير في قوله: "وأنا شخصيا إذا التقيت بشخصية غربية متميزة في الفكر أو القانون أو غيرها من العلوم أجاهد نفسي مجاهدة على احترام تميزه، لأنني كلما رأيتهم في غاية الجهل بالله سبحانه وتعالى، امتلأت نفسي إزراء بهم.... أي تخلف وانحطاط معرفي يعيشه هؤلاء الجهلة بالعلم الإلهي!" ص٥٤-٥٥، وأذكر هنا قول خالد بن الوليد رضي الله عنه: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية، تغيبتُ ولم أشهد دخوله، فكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني، وكتب إليَّ كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك!! ومِثْلُ الإسلام يَجْهَلُهُ أحد؟! وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مِثْلُهُ جهل الإسلام، ولو كان جعل نِكَايَتَهُ وَجِدَّهُ المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك، وقد فاتتك مواطن صالحة، فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام" رواه البيهقي، والأمثلة كثيرة عن من كان ذو علم وقوة وفي الوقت ذاته ذو عداء بل أشد عداء للإسلام، والإسلام يخاطبه بلين ومودة، فلا يصح إذًا أن أجد كتابا عنوانه "الطريق إلى القرآن" وأجد الحديث فيه في أكثر من موضع غير الموضع الذي ذكرت، أجده مصبوغا بالسخرية والازدراء لأناس لم يكتب الله لهم الهداية بعد، وقد يهديهم فتحسن هدايتهم. كيف سأستمع إليك وأنت تحدثني بازدراء؟ أم أن الكتاب موجه لفئة معينة نسيت دار النشر أن تذكرها على الغلاف!
... ولكي نعطي كل ذي حق حقه، وجب التنويه إلى الفصلين الوحيدين في الكتاب الذين وجدت فيهما "الطريق إلى القرآن" وهما "كل المنهج في أم الكتاب" ص٦١، و "الحبل الناظم في كتاب الله" ص٧٩. ففي الفصل الأول يأخذنا الكاتب في رحلة مع أكثر سورة نقرأها يوميا، نقرأها سبعة عشر مرة على أقل تقدير، وهي سورة الفاتحة، فيظهر إلينا أشياء ربما وردت على خاطرنا فسهونا عنها، بل ربما أنها لم ترد من الأساس، ومنها أن تلك السورة العظيمة التي جعلها الله ركنا من أركان الصلاة تبدأ بحمد الله؛ ليلفت أنظارنا ويذكرنا دائما أن ذلك هو غاية كل غاية، بل هو الغاية، يقول الكاتب: "تأمل كيف بدأت هذه السورة بثلاث آيات كلها ثناء على الله، تعظيمه جل وعلا بربوبيته للعالمين، ثم تعظيمه جل وعلا بكمال رحمته، ثم تعظيمه جل وعلا بملكه لليوم الآخر. القارئ يحمد الله بربوبيته للعالمين، ورب العالمين يجيبه فيقول: "حمدني عبدي"، ثم يواصل القارئ فيثني على الله بكمال رحمته، ورب العالمين يقول: "أثنى علي عبدي"، فإذا بلغ القارئ الآية الثالثة فأثنى على الله بملكه لليوم الآخر قال الله: "مجدني عبدي". .... إن الله يتحدث عنا ونحن نقرأ الفاتحة. هل تتصور؟!" ص٦٢.
... ثم يكمل الكاتب مع السورة ليوضح لنا البلاغة في تقديم لفظ "إياك" على الفعل "نعبد"، وإفراد الاستعانة "وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" رغم أنها مشمولة في العبادة "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" لتكون تنبيها مستمرا لنا على بدأ كل عمل بالاستعانة، وأنه لا يقوم عمل بدون الاستعانة بالله حتى العبادة، ويكمل الكاتب إلى ختام السورة، ذلك الدعاء الذي اختاره الله لنا ليكون ختاما للسورة، وختاما لكل عمل، وختاما للحياة كلها، ذلك الدعاء الذي اختاره الله "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" لكي نتلوه ونحن في أكثر الأوقات هداية، نتلوه ونحن نصلي، فيستنكر أحدنا أن يُذَكَّرَ به وهو في موضع معصية، ويختم الكاتب الفصل مع ختام السورة ويقول: "ثم تختتم هذه السورة برسم أسباب الافتراق الكبرى وآثارها، حيث يقع الصراط المستقيم بين طريقين، طريق المغضوب عليهم، وهم الذين حصلوا العلم وأهملوا العمل، وطريق الضالين، وهم الذين اجتهدوا في العمل بلا علم، وأهل الصراط المستقيم جمعوا العلم والعمل.".
... وفي الفصل الثاني "الحبل الناظم في كتاب الله" يأخذنا الكاتب في رحلة طويلة يعرض فيها أمثلة من مناطق متفرقة من القرآن، وكيف أن كل تلك الآيات مع اختلاف مواقفها تُختم بذكر الله، وكيف أن ذلك الذكر هو الأساس لعمارة النفوس، يقول الكاتب: "وهكذا يريد القرآن _من مفتتحه إلى مختتمه_ أن تكون قلوب العباد، وهذه مجرد نماذج ومنتخبات التقطتها من أجزاء القرآن، وتركت أضعاف أضعافها لئلا يطول الحديث وينتشر الموضوع، ويستطيع متدبر القرآن أن يلاحظ هذه القضية وهي عمارة النفوس بالله في كل آية من كتاب الله، فما من آية من آيات القرآن إلا وفي جوفها معارج تسري بالقلوب إلى مقلب القلوب."، فليته اكتفى بهاذين الفصلين الذين كانا حقا "الطريق إلى القرآن".
... وفي الختام وجب التنويه أني لا أنكر للكاتب مجهوده الذي وضعه في الكتاب، ونيته التي دفعته إلى كتابته، وأن تلك المآخذ كما سبق وقلت كانت ليتغافل عنها لو أنها وجدت في كتاب آخر، وتحت عنوان آخر غير ذلك العنوان.






View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 11, 2022 08:40

September 8, 2020

العبرات

العبرات العبرات by مصطفى لطفي المنفلوطي

My rating: 3 of 5 stars


... بعيدا عن اللون القاتم المصبوغة به صفحات الكتاب، وعن ضعف الوصف في أسلوبه حيث لم أستطع أن أتخيل لا شكل أبطاله ولا شكل عوالمه، وعن الحوارات الفردية الطويلة التي قد تتجاوز أحيانا صفحتين وكأنها خطابات قادة ثورية أو مرافعات قضائية، إلا أن المشكلة الكبرى التي وجدتها هي خروج الألفاظ والجمل عن طوع كاتبها بحيث نجد في قصة "الشهداء" الحوار الطويل على لسان البطل وهو يهاجم فيه رجال الدين الذين تحكموا في مصير الناس بما هو ليس من الدين وإنما من أهوائهم وجعلوا أنفسهم وسطاء بين الخلق والخالق، بحيث تسببوا في أن فتاة تقتل نفسها لأنها أحبت وهي واهبة نفسها للعذراء، ثم بعد كل ذاك الحوار الطويل هوى البطل على يد الكاهن وقبلها، وإن كانت قد توحي باحترام رجال الدين رغم الاعتراض السابق على المنحرفين منهم، إلا أن البطل قد نسف كل ما قد قاله عندما استأذن الكاهن أن يودع حبيبته، فلم يكف كونهم وسطاء بين الخلق والخالق بل بين المرء وما يعتري نفسه من خلجات.
... وفي قصة "الحجاب" نجد البطل أثناء مرافعته دفاعا عن الحجاب ورافضا دعوى خلعه يقول عبارة كتلك "فإن أبيتم إلا أن تفعلوا فانتظروا بأنفسكم قليلا ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم الجديدة سعداء آمنين" وتلك "ورأيتم المرأة الأوروبية الجريئة المتفتية في كثير من مواقفها مع الرجال تحتفظ بنفسها وكرامتها، فأردتم من المرأة المصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها، وتحتفظ بنفسها احتفاظها" فكأنه لو أصبحت المرأة المصرية قوية وتخلص الرجل المصري من غيرته فتكون تلك الدعوة بخلع الحجاب دعوة طاهرة ، وغير ذلك من العبارات التي أراد بها دفاعا ولم أجدها إلا هجوما.
... وغير ذلك في باقي القصص ولكن ما ذكرته كان أخطرها لخطر موضوعها نفسه.

#أحمد_المحمدي



View all my reviews
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 08, 2020 07:42 Tags: أحمد_المحمدي