عبـــــــدالله خلــــــــيفة: عبدالناصر كإقطاعي*
جمال عبدالناصر
(1970 – 1918)
إذا أردنا أن نهز المسلمات المعششة في الوعي العربي السائد، فلا بد لنا من بعض الصدمات الفكرية التي تقوم بإيقاظه، مثل هذا العنوان السابق ذكره، فما هي علاقة المناضل الوطني الكبير جمال عبد الناصر بالإقطاع، وكيف يكون إقطاعياً وهو من العاملين لتوزيع بعض الأراضي على الفلاحين والذي اسقط الملكية؟!
يرفض الوعي العربي السائد مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، وهو مفهوم أساسي لوعي التاريخ ومراحله، ومن هنا كانت المشكلة في وعي التاريخ العربي المعاصر، وتناثر التسميات المجانية فيه وعنه، فهذا الوعي يرفض السمة الموضوعية لهذا التاريخ وهو إنه عملية انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.
أي أننا نحدد مدى التقدمية في هذا التاريخ بالقدرة على إجراء عملية الانتقال بين التشكيلتين المتمايزتين، وبدون الاعتراف بهذه التشكيلات وعمليات تطورها لا يمكن أن يكون ثمة أساس موضوعي للأحكام.
لقد أقام الوعي العربي بأغلبية توجهاته الحديثة على اعتماد التسميات الفضفاضة عن التحولات السياسية، فعبر تغييب مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، اعتمدت تلك التسميات حول التجربة الاشتراكية والمجتمع الديمقراطي واقتصاد الريع، فظهرت تجارب مصر والجزائر وسوريا في عمليات التأميم والإصلاحات الاقتصادية وكأنها تحول إلى الاشتراكية، وأنها أنجزت مهمات الانتقال من عالم الإقطاع إلى الرأسمالية، ولهذا بدت التجربة الناصرية وكأنها قد أتمت مرحلة الانتقال هذه، وإنها تستعد للصعود إلى المجتمع الاشتراكي.
لكن قانون الإصلاح الزراعي الذي ظهر في بداية الثورة، أي في سنة 1953 وقام بتوزيع الأرض على الفلاحين، لم يقض على الإقطاع، فعمليات التحايل على القانون كانت كثيرة، حيث قامت العائلات الإقطاعية بتوزيع أراضيها على أسماء الزوجات والأقارب بحيث تمكنت من التهرب من الحد الأعلى للملكية الذي فرضه القانون، وكان حداً كبيراً، حتى إنه في سنة 1965 جرت صراعات واسعة ضد الإقطاع في الريف المصري، وقتل فيها أحد المناضلين البارزين وقد عُرفت بحوادث قرية «كمشيش». أي إن الإقطاع حتى بشكله الاقتصادي الزراعي البارز لم يتم القضاء عليه، وعقدت لجنة لتصفيته برئاسة عبد الحكيم عامر!
لكن قضية البنية الإقطاعية في الشرق تتجاوز مسألة الملكية الزراعية بافتراض الحد منها، فهي مرتبطة بطبيعة الحكم والبنية الاجتماعية، فملكية العائلات البارزة للسلطة، وسواء كانت في الحكم أم كانت معارضة، هي التي تحدد طبيعة النظام الاجتماعي، فهي عندما تستولي على الحكم تقوم بالسيطرة على ملكيات الأرض واستثمار دخلها. حيث كانت الأرض الزراعية هي المصدر الأساسي للثروة في العصور القديمة والوسطى.
ولهذا فإن «الضباط الأحرار» حين استولوا على السلطة كانت الكثير من فوائض الزراعة تتوجه إلى جيوبهم. بطبيعة الحال كان عبدالناصر بعيداً عن هذا الاستغلال ولكن نحن نتكلم عن الفئة التي هيمنت على الحكم، وبدت تستولي على الثروة.
لقد توحد الضباط الأحرار بالأجهزة القديمة وتداخلوا مع العائلات البارزة، ولهذا غدت الديمقراطية وعودة الأحزاب مرفوضة بالنسبة إليهم. لكن المسألة تتعدى فوائض الزراعة فهناك الاقتصاد الحديث بشركاته الكبرى والمقاولات الخ..
لقد قامت إدارة الضباط الأحرار بالتخفيف من الإقطاع الزراعي ووسعت انتشار الملكيات الخاصة في الريف، وأصبحت فئة بيروقراطية تستفيد من فوائض الإقطاع الريفي والرأسمالية المتنامية في الحياة الاقتصادية. وبطبيعة الحال هناك منجزات وطنية كبيرة في تطور الاقتصاد والحياة الاجتماعية: إقامة المصانع، وإنشاء السد العالي، وتطوير التعليم والثقافة الخ..
نستطيع أن نقول هنا إن نظام الضباط الأحرار هو استمرار للنظام الإقطاعي – الملكي، بشكل جديد، عبر بقاء الملكيات الإقطاعية الزراعية في الريف بصفتها الشكل البارز من الملكية. أي أن نظام العصور الوسطى لم يتغير هنا بصفة جوهرية. رغم إن الأرض صارت ملكية حقيقية، وليست ملكية انتفاع كما كان الأمر في العصور السابقة.
إن هيمنة الضباط الأحرار على الريف، كمصدر أساسي سابق وراهن للثروة، تأتي من خلال أجهزة الدولة، بل أحياناً من خلال التملك الخاص نفسه، كما يجري حالياً للضباط الأحرار في بعض الأنظمة حيث يملكون أكبر المزارع والأراضي الخصبة (تجارب ليبيا وسوريا والعراق والجزائر).
وقد كانت أغلبية الرموز البارزة في حركات الضباط الأحرار العربية من عائلات ريفية تمتلك ملكيات صغيرة أو متوسطة من الأرض كجمال عبد الناصر وأنور السادات والبكر وصدام حسين وأحمد بن بله الخ..
وكان الوصول للسلطة عن طريق الانقلاب العسكري يعني في حد ذاته إبقاء العلاقات الإنتاجية القديمة، حيث يهيمن جهاز الدولة على الملكية وتوزيعها، وتعتبر السيطرة عليه أحد الشكلين البارزين للإقطاع، وهو هنا الإقطاع السياسي الحاكم.
وتوجد هنا علاقات رأسمالية بشتى تجلياتها بطبيعة الحال، فالضباط الأحرار وعائلاتهم يقومون باستثمار ثروة الحكم في شراء الأراضي والعمارات وبإنشاء الشركات المختلفة. ولكنها هنا رأسمالية بيروقراطية، فالفائض يأتي من تملك الإدارة السياسية، وهو ليس من نتاج الملكية الحرة، بمعنى إنها جزء من السرقة العامة، أي من السيطرة السياسية على الدولة، وهذا هو الإقطاع الشرقي. ولهذا غالباً ما نجد التداخل بين هذا الرأسمال البيروقراطي المسروق من مال الناس متوجهاً للأعمال التجارية الطفيلية وسريعة الربح والخالية من المخاطر. ونجد النسب بين أنور السادات ومالك ومؤسس شركة المقاولين العرب على سبيل المثال ليس نسباً عائلياً فحسب بل هو نسب اجتماعي وسياسي.
ولا تتعرض ملكيات الضباط الأحرار وفئاتهم العسكرية والبيروقراطية للمصادرة بطبيعة الحال، وحين تأتي التأميمات فإنها تضرب الملكيات الصناعية، أي تضرب فئات البرجوازية الصناعية الوطنية، تاركة الفئات والشرائح الأخرى في نموها السريع والمخيف. وهنا يقوم الإقطاع السياسي بالسيطرة على البرجوازية الصناعية، مما يعني القضاء على جذور حزب الوفد وجذور الحداثة والليبرالية.
في هذا التأميم الموجه للرأسمال الصناعي كارثة مستقبلية كبرى، فهو حكم بالإعدام على عملية اقتصادية وفكرية عميقة ومهمة، ولكن علينا أن نراه، من زاوية قدرة جهاز الدولة الشرقية عموماً في استخدام العنف في تشويه التطور الاقتصادي، وعدم السماح بظهور طبقة وسطى قوية وحديثة، فالصناعة هي القاعدة لتشكيل برجوازية حديثة قادرة على تجاوز هيمنة الدولة العسكرية – الإقطاعية.
ومن الجانب الثقافي فإننا لن نجد ذلك التداخل بين الصناعة والعلوم، وسنجد فئات البرجوازية كلها في حالة تبعية لجهاز الدولة أو للغرب ذي الرأسمال الكبير.
لقد كان بإمكان الضباط الأحرار تأميم العمارات والوكالات التجارية الخ.. لكنهم اختاروا الصناعة لكونها لا تدخل في ظل هيمنتهم. ويمثل ذلك من الناحية التاريخية، إخلاء الساحة الاقتصادية للنمو المتسارع لأشكال الملكية ذات الربحية السريعة، وغير المتداخلة بالعلوم، والتي ستكون المدخل لسياسة الانفتاح والطفيلية الشديدة عموماً.
لكن الدولة من جهة أخرى، لعبت دور (الأب) الراعي للطبقات الشعبية، فهي إذ قامت بضرب البرجوازية الصناعية، الخصم البارز لها، استطاعت أن تثبت الأسعار وتتحكم في السوق وتحافظ على الأجور والتشغيل.
ويتشابه ذلك مع دولة الخلفاء الراشدين، عبر توزيع عادل للثروة، وبتحكم الدولة في القطاع العام الزراعي، ولكنه صار الآن القطاع العام الصناعي، مع إطلاق الحريات الاقتصادية في التجارة والمقاولات والصرافة، التي راحت تنخر الملكية العامة وتسرقها.
ولهذا نجد من الناحية الفكرية تسود شعارات مثل الاشتراكية العربية ويكتب (محمود شلبي) عن اشتراكية عمر بن الخطاب، ويكتب محمود أمين العالم عن «تجربتنا الاشتراكية» الخ، أي يتم انتقاء فسيفساء فكرية تجمل النظام الاجتماعي.
لكن هل استطاع النظام الناصري الانتقال فعلاً من الإقطاع إلى الرأسمالية أو قفز إلى الاشتراكية؟
فهو يقول عن نفسه إنه نظام غير رأسمالي ومع ذلك فهو ليس نظاماً اشتراكياً، وقال بعض المنظرين الماركسيين وقتذاك إنه نظام تقوده البرجوازية الصغيرة وقال لطفي الخولي إنه نظام انتقالي إلى الاشتراكية وقال آخرون إنه النظام اللارأسمالي الخ..
لا شك إن رأسمالية الدولة الوطنية هي شكل النظام الاقتصادي فقد أصبحت الدولة تملك أكبر رأسمال اقتصادي، لكن رأسمالية الدولة بحد ذاتها هي ميدان لصراع الطبقات المختلفة وهي ليست تشكيلة اقتصادية – اجتماعية، وهي فترة تحضير لمسار تاريخي ما، فالمسألة هنا تعتمد على كيفية توجه الفائض الاقتصادي، فهل هو يتوجه لإشاعة العلاقات الرأسمالية أم للعلاقات الإقطاعية الريفية، ولا نستطيع أن نؤيد الطرح القائل بأنها إعداد للانتقال إلى الاشتراكية.
فرأسمالية الدولة أما أن تؤدي للإمام أو تعود إلى الخلف، أو أن تبقى في هذه المرحلة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية. فلا تغدو إقطاعية تماماً ولا رأسمالية صرفة. ونحن قد استبعدنا تماماً القفزة في الهواء «الاشتراكية». لأن الاشتراكية لها شروط موضوعية مغايرة تماماً، لكن إذا كانت رأسمالية الدولة هي شكل للانتقال إلى الرأسمالية الصرفة، فما هي هذه الرأسمالية الخاصة الانتقالية؟ ما هي رأسمالية الدولة؟
علينا أن نواصل المناقشة.
علينا أن نقرأ جوانب من الميدان الإيديولوجي لكي نرى مستويات أخرى من إشكالية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. فنحن نجد حزب الوفد ممثل الرأسمالية الوطنية يتوارى عن الوجود الفكري والسياسي وكأنه لم يكن رغم مقاومته الطويلة للدكتاتوريات السابقة، في حين إن حزب الإخوان هو الذي يبرز ويتصاعد دوره حتى يغدو مهيمناً في المرحلة التالية.
أي أن المرحلة في الميدان الفكري كانت على النقيض من التوقع، حيث قلنا إن المرحلة الناصرية هي مرحلة انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، تمت بأدوات القوة السياسية، ولكننا أوضحنا إن هذه الرأسمالية كانت مدمرة للقوة الاجتماعية القائدة لمرحلة التحول الحقيقي والمفترض وهي البرجوازية الصناعية.
أي أن مرحلة الانتقال بتلك الصورة أدت إلى تخريب الانتقال، وأدت إلى مشكلات حادة، وظهور الإخوان كحزب مؤثر هو تتويج لمرحلة الانتقال المُخرَّبة تلك.
فبدلاً من التوسع وتعميق مظاهر الحريات الاجتماعية والفكرية رأينا العودة إلى اعتقال النساء وظواهر التخلف المختلفة، ويقال لنا إن هذه ظاهرات قادمة من شبه الجزيرة العربية، ولكن كيف استطاعت مثل هذه الظواهر أن تنمو في المجتمع المصري بهذه السرعة والشمول إذا لم تكن هناك جذور أساسية وموضوعية سمحت لها بهذا النمو؟
أي إنه لو كانت الثورة الناصرية عملية تجذير للتطور الرأسمالي والحضاري، معمقة إنجازات المرحلة الليبرالية اجتماعياً وثقافياً لما تمكنت حفنة من الأشخاص من تخريب التطور.
فعودة القوى المذهبية للتحكم في المجتمع المصري، سواء على الجانبين الإسلامي أو المسيحي، يعني فكرياً وحضارياً، عودة إلى ما قبل الدولة الحديثة، ربما إلى عصر محمد علي أو غيره.
أي إن عملية الصهر التي قام بها الحكام الملكيون والبرجوازية الوفدية تم انهيارها على يد جماعة الضباط الأحرار وعهدهم الجمهوري – الملكي. فرجع المجتمع المصري في حركته السياسية إلى ما قبل سعد زغلول.
ومن جهة معينة، فنحن ندرك الآن إن ثمة إنجازات اقتصادية واجتماعية تمت في العهد الملكي اتاحت عملية الانصهار ووحدة الشعب، وقربته من عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية الحديثة، عبر نمو البرلمان والصحافة الحرة وتطور العلاقات الاجتماعية المتمدنة، فجاءت حركة الضباط الأحرار ومنعت هذه العملية الانتقالية، أو على الأقل رسخت الجوانب الدكتاتورية في المجتمع.
إن التسريع في بعض جوانب التطور الاقتصادي وإقامة المنشآت التاريخية، هو أمر لا يمكن إغفال أهميته، ولكن الخسائر كانت جسيمة أيضاً، بطبيعة أسلوب المصادرة، أسلوب العنف العسكري والفاسد في إدارة العمليات التاريخية.
أي أن المشروع الوطني التحرري الناصري لم يستطع أن يخرج من جسم العلاقات السياسية الإقطاعية المهيمنة، فقد كرس الدولة كمصدر الثروات، وليس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكن الدولة كمصدر للثروة أمر يقود إلى الابتعاد عن الطريق الموضوعي للتطور الرأسمالي، وبالتالي إلى عدم الدخول في الحضارة الحديثة، وهو أمر يقوي الإقطاع ويعيد البلد إلى العصور الوسطى، ولهذا ظهر الإخوان، والكنيسة القبطية، كمظهرين لنفوذ الإقطاع السياسي – الديني المتصاعد في الحياة السياسية والاجتماعية.
علينا أن نرى هذين المظهرين المتضادين؛ الأول هو إشاعة العلاقات الرأسمالية في التجارة وعمليات التوزيع والتداول، وفي تطور العلاقات النقدية والبضاعية الريف، والمظهر الثاني في تنامي قوة البنية الاجتماعية والفكرية الإقطاعية. إن هذين المظهرين المتضادين يعبران عن عدم قدرة الدولة على تغيير البنية الاجتماعية العائدة للقرون الوسطى: سيادة الذكور – اللامساواة الجنسية – بقاء الدولة دينية ورفض العلمانية – بقاء أملاك الإقطاع: الأرض الزراعية – أملاك الأوقاف.
وبعجز الدولة عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الاجتماعي، وهو البنية القوية المرتبطة بسيطرة الإقطاع الديني بفرعيه، الإسلامي والمسيحي، وبعجزها عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الصناعي، بل وضربها للبرجوازية الصناعية وتاريخها وإرثها، في ربط الصناعة بالعلوم، وتنمية حريات المرأة والنشر والاجتماع، أي قامت في المجال الاجتماعي والفكري بتمهيد الطريق لعودة الإقطاع الديني والسياسي.
من الناحية الموضوعية إذن، فإن العائلات الريفية التي ظهر منها الضباط الأحرار المصريون، وكذلك الجزائريون والعراقيون الخ..، قامت بزحزحة الإقطاع الزراعي قليلاً، فهي لم تخرج من الإقطاع ولكنها لم تدخل الرأسمالية كلية، ولم تتشكل كرأسمال صناعي ذي تاريخ تحضري مديد، وبالتالي فإن تكويناتها الفكرية والاجتماعية هي إقطاعية دينية، واستولت على الدولة وقطاعها العام مخربة بذلك التطور البرجوازي النهضوي على مدى نصف قرن، وإن هذا الإنزياح الريفي على المدن يكتسب في كل بلد عربي – إسلامي طابعه الخاص، من تقاليد وموروثات البنية وتاريخها، لكن هذا الهجوم العسكري على الثروة العامة وإعادة توزيعها، يتصف بإعادة تاريخ العنف وغياب دولة القانون والدستورية بشكل عام، بسبب إن مجموعات من الضباط بين ليلة وضحاها أصبحوا مستولين على الثروة، وهذا بحد ذاته يستدعي الموروث العربي في الغزو والفتوح والبذخ.
إن الأسباب الموضوعية لتدهور الجمهوريات العربية متقاربة، وقد رأينا إن العجز عن إنتاج علاقات رأسمالية حديثة في قطاع الصناعة، عبر عدم ترك التطور الصناعي الرأسمالي الخاص يأخذ مجراه، وبالتالي عدم السماح لتطور إنتاجي خاص واسع النطاق، يمكنه أن يتعاضد مع قطاع عام إنتاجي وعلمي، يؤدي إلى عودة الإقطاع. فإذا كان التقدم لا ينمو باتجاه مجرى العصر، ويعجز عن إعادة تشكيل البنية الاجتماعية بمختلف مستوياتها: الاقتصادية – الاجتماعية والفكرية والسياسية، باتجاه التحديث الحقيقي ويتركز الأمر فقط على التغيير في بعض جوانب الاقتصاد، فإن البنية الاجتماعية المضروبة بشكل سيئ، وغير المغيرة عبر قوانينها الداخلية العميقة، تنفجر بالتناقضات.
فقد أصبحت الدولة إقطاعاً سياسياً حاكماً، ونشرت رأسمالية طفيلية، ولم تستطع أن تغير بطبيعة الحال الإقطاع في الحياة الاجتماعية والفكرية. لكن هذا فقط في الأوضاع العامة الكلية، ولكن جاءت تطوراتها الداخلية لتعمق هذا المسار، فقد خلقت فئات برجوازية طفيلية يكمن أساسها في ملكية الدولة، وراحت تنمو في كل مكان، رغم وجود قوى عاملة وشعبية مضادة. أي أن هذه الفئات الطفيلية ظهرت من الإقطاع السياسي الحاكم. ولهذا فإن أي رؤية تقدمية تتشكل في هذا المسار وتؤيد هذه العملية التاريخية، تغدو ذيلية للإقطاع الحاكم وتتآكل وتنهار في خاتمة المطاف. مثلها مثل المعتزلة في العصر العباسي، أو القرمطية في «العهد» الإسماعيلي، أو التنويرية في العهد الخديوي، وفي النهاية فإن الإقطاع المذهبي ذا العشرة آلاف سنة يعود لاستعادة مواقعه.
وهنا على هذه الأرضية الوطنية الداخلية يمكن أن تأتي المواد المناسبة من الخارج وتقوي هذا التنامي، فقد كان الإقطاع المذهبي المتنوع يتصاعد مع ازدياد الثروة النفطية في شبه الجزيرة العربية وإيران والعراق، فقد وجد الإقطاع السياسي المذهبي في الثروة النفطية طريقه إلى الصعود والسيطرة في المنطقة، وبالتالي بدأت الضربات تنهال على الوعي الديمقراطي العربي والإسلامي بمختلف تدرجاته، وقد كانت مصر الناصرية هي قاعدة هذا الوعي، الذي كان يتآكل بفعل تناقضاته الداخلية التي لم يعرف كيف يتجاوزها، سواء عبر العودة إلى المسار الديمقراطي الليبرالي، أو عبر استعادة الموروث الإسلامي الثوري، وتعرية الحركات الإقطاعية – المذهبية، أي أن الفئات البيروقراطية العسكرية – المدنية – التجارية، عجزت أن تلعب دور البرجوازية الصناعية الغربية، بإنتاج الحرية والعلوم والتصنيع والعلمانية.
ولهذا فإن الأخوان كتتويج فكري وسياسي للإقطاع المذهبي بين النخب الإسلامية، والكنيسة القبطية كقائدة للإقطاع في الطائفة المسيحية، تصاعد دورهما في الحياة السياسية والاجتماعية. وبدأت ثمار المنطقة السلبية تتوغل في البنية المصرية، وكانت الضربة الإسرائيلية في يونيو عبر المخطط الأمريكي، هي لحظة كسر القشرة التقدمية الأخيرة في هذا الجسد، لتظهر كل تناقضاته الفاجعة.
ولم تكن المرحلة الساداتية سوى تصعيد لكل هذه التناقضات على مسرح الأحداث، لقد ظهرت دولة القرية بكل فجاجتها، فهي تتويج لكل قوى الفساد الكامنة، ولهذا كان من المستحيل إعادة التطور البرجوازي النهضوي على سكته الحقيقية، أي أن التطور الاقتصادي صار إطلاق قوى الإقطاع في السوق، بدون صناعة ولا علوم، لكن نخب الإقطاع المذهبي وقد امتلأت أيديها بذهب النفط والدم الشعبي تطلعت للحكم بطبيعة الحال.
أي أن التطور الذي كان يبدو مذهلاً، واعتبار التاريخ كله كأنه من صنع فرد، لم يكن كذلك، فهناك سببيات عميقة، هي التي تفعل فعلها في نسج خيوط التاريخ بمعول غير مرئي، فكأنها مجموعات من الصدف والأحداث الغريبة غير المنطقية. والفرد مؤثر بشكل هام، ولكن كجزء من فئة ومسار تاريخي، وتشكيلة موضوعية، لا يستطيع سواء كان لينين أو ماو تسي تونج أو عبد الناصر تجاهل قوانينها الموضوعية، فقد يقفز لكن جاذبية القوانين تعيد الطيران إلى قواعده الأرضية.
وتكمن قدرتنا النضالية العربية المعاصرة في اكتشاف ذلك، وتصحيح المسيرة السابقة، آخذين ذلك الإرث النضالي العظيم في ظروفه.
إن قوى الإقطاع المذهبي والديني المختلفة تصور الأمر وكأنه انتصار للإسلام، وليس معركة اجتماعية هي إعادة تجديد الأمة بشكل عصري، يقدمون هم فيها برنامجهم اليميني المتخلف، ويمزقون فيه القوى الوطنية، وتراكمات النهضة، مثلما فعل أقرانهم في العصور الغابرة في تمزيق الأمة ووعيها وتقدمها.
إن إعادة التطور إلى سكته بعد الخراب المتعدد الألوان، عبر صعود رأسماليات غير صناعية، وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، وملء السوق بالصناعات الاستهلاكية الخ.. أمر يتطلب تشكيل تحالف نهضوي بين القطاع العام والخاص، بين اليسار والبرجوازية الصناعية، بين الحداثة الاشتراكية والحداثة الرأسمالية العربية، بين الأحزاب الاشتراكية وأحزاب الطبقة الوسطى العلمانية، عبر السير في طريق رأسمالي ديمقراطي حديث وصناعي، يجمع الأقطار العربية في تعاون قومي، توحيدي.
انظر رواية: رسائل جمال عبدالناصر السرية لــ عبدالله خليفة.
(1970 – 1918)
إذا أردنا أن نهز المسلمات المعششة في الوعي العربي السائد، فلا بد لنا من بعض الصدمات الفكرية التي تقوم بإيقاظه، مثل هذا العنوان السابق ذكره، فما هي علاقة المناضل الوطني الكبير جمال عبد الناصر بالإقطاع، وكيف يكون إقطاعياً وهو من العاملين لتوزيع بعض الأراضي على الفلاحين والذي اسقط الملكية؟!
يرفض الوعي العربي السائد مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، وهو مفهوم أساسي لوعي التاريخ ومراحله، ومن هنا كانت المشكلة في وعي التاريخ العربي المعاصر، وتناثر التسميات المجانية فيه وعنه، فهذا الوعي يرفض السمة الموضوعية لهذا التاريخ وهو إنه عملية انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.
أي أننا نحدد مدى التقدمية في هذا التاريخ بالقدرة على إجراء عملية الانتقال بين التشكيلتين المتمايزتين، وبدون الاعتراف بهذه التشكيلات وعمليات تطورها لا يمكن أن يكون ثمة أساس موضوعي للأحكام.
لقد أقام الوعي العربي بأغلبية توجهاته الحديثة على اعتماد التسميات الفضفاضة عن التحولات السياسية، فعبر تغييب مفهوم التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، اعتمدت تلك التسميات حول التجربة الاشتراكية والمجتمع الديمقراطي واقتصاد الريع، فظهرت تجارب مصر والجزائر وسوريا في عمليات التأميم والإصلاحات الاقتصادية وكأنها تحول إلى الاشتراكية، وأنها أنجزت مهمات الانتقال من عالم الإقطاع إلى الرأسمالية، ولهذا بدت التجربة الناصرية وكأنها قد أتمت مرحلة الانتقال هذه، وإنها تستعد للصعود إلى المجتمع الاشتراكي.
لكن قانون الإصلاح الزراعي الذي ظهر في بداية الثورة، أي في سنة 1953 وقام بتوزيع الأرض على الفلاحين، لم يقض على الإقطاع، فعمليات التحايل على القانون كانت كثيرة، حيث قامت العائلات الإقطاعية بتوزيع أراضيها على أسماء الزوجات والأقارب بحيث تمكنت من التهرب من الحد الأعلى للملكية الذي فرضه القانون، وكان حداً كبيراً، حتى إنه في سنة 1965 جرت صراعات واسعة ضد الإقطاع في الريف المصري، وقتل فيها أحد المناضلين البارزين وقد عُرفت بحوادث قرية «كمشيش». أي إن الإقطاع حتى بشكله الاقتصادي الزراعي البارز لم يتم القضاء عليه، وعقدت لجنة لتصفيته برئاسة عبد الحكيم عامر!
لكن قضية البنية الإقطاعية في الشرق تتجاوز مسألة الملكية الزراعية بافتراض الحد منها، فهي مرتبطة بطبيعة الحكم والبنية الاجتماعية، فملكية العائلات البارزة للسلطة، وسواء كانت في الحكم أم كانت معارضة، هي التي تحدد طبيعة النظام الاجتماعي، فهي عندما تستولي على الحكم تقوم بالسيطرة على ملكيات الأرض واستثمار دخلها. حيث كانت الأرض الزراعية هي المصدر الأساسي للثروة في العصور القديمة والوسطى.
ولهذا فإن «الضباط الأحرار» حين استولوا على السلطة كانت الكثير من فوائض الزراعة تتوجه إلى جيوبهم. بطبيعة الحال كان عبدالناصر بعيداً عن هذا الاستغلال ولكن نحن نتكلم عن الفئة التي هيمنت على الحكم، وبدت تستولي على الثروة.
لقد توحد الضباط الأحرار بالأجهزة القديمة وتداخلوا مع العائلات البارزة، ولهذا غدت الديمقراطية وعودة الأحزاب مرفوضة بالنسبة إليهم. لكن المسألة تتعدى فوائض الزراعة فهناك الاقتصاد الحديث بشركاته الكبرى والمقاولات الخ..
لقد قامت إدارة الضباط الأحرار بالتخفيف من الإقطاع الزراعي ووسعت انتشار الملكيات الخاصة في الريف، وأصبحت فئة بيروقراطية تستفيد من فوائض الإقطاع الريفي والرأسمالية المتنامية في الحياة الاقتصادية. وبطبيعة الحال هناك منجزات وطنية كبيرة في تطور الاقتصاد والحياة الاجتماعية: إقامة المصانع، وإنشاء السد العالي، وتطوير التعليم والثقافة الخ..
نستطيع أن نقول هنا إن نظام الضباط الأحرار هو استمرار للنظام الإقطاعي – الملكي، بشكل جديد، عبر بقاء الملكيات الإقطاعية الزراعية في الريف بصفتها الشكل البارز من الملكية. أي أن نظام العصور الوسطى لم يتغير هنا بصفة جوهرية. رغم إن الأرض صارت ملكية حقيقية، وليست ملكية انتفاع كما كان الأمر في العصور السابقة.
إن هيمنة الضباط الأحرار على الريف، كمصدر أساسي سابق وراهن للثروة، تأتي من خلال أجهزة الدولة، بل أحياناً من خلال التملك الخاص نفسه، كما يجري حالياً للضباط الأحرار في بعض الأنظمة حيث يملكون أكبر المزارع والأراضي الخصبة (تجارب ليبيا وسوريا والعراق والجزائر).
وقد كانت أغلبية الرموز البارزة في حركات الضباط الأحرار العربية من عائلات ريفية تمتلك ملكيات صغيرة أو متوسطة من الأرض كجمال عبد الناصر وأنور السادات والبكر وصدام حسين وأحمد بن بله الخ..
وكان الوصول للسلطة عن طريق الانقلاب العسكري يعني في حد ذاته إبقاء العلاقات الإنتاجية القديمة، حيث يهيمن جهاز الدولة على الملكية وتوزيعها، وتعتبر السيطرة عليه أحد الشكلين البارزين للإقطاع، وهو هنا الإقطاع السياسي الحاكم.
وتوجد هنا علاقات رأسمالية بشتى تجلياتها بطبيعة الحال، فالضباط الأحرار وعائلاتهم يقومون باستثمار ثروة الحكم في شراء الأراضي والعمارات وبإنشاء الشركات المختلفة. ولكنها هنا رأسمالية بيروقراطية، فالفائض يأتي من تملك الإدارة السياسية، وهو ليس من نتاج الملكية الحرة، بمعنى إنها جزء من السرقة العامة، أي من السيطرة السياسية على الدولة، وهذا هو الإقطاع الشرقي. ولهذا غالباً ما نجد التداخل بين هذا الرأسمال البيروقراطي المسروق من مال الناس متوجهاً للأعمال التجارية الطفيلية وسريعة الربح والخالية من المخاطر. ونجد النسب بين أنور السادات ومالك ومؤسس شركة المقاولين العرب على سبيل المثال ليس نسباً عائلياً فحسب بل هو نسب اجتماعي وسياسي.
ولا تتعرض ملكيات الضباط الأحرار وفئاتهم العسكرية والبيروقراطية للمصادرة بطبيعة الحال، وحين تأتي التأميمات فإنها تضرب الملكيات الصناعية، أي تضرب فئات البرجوازية الصناعية الوطنية، تاركة الفئات والشرائح الأخرى في نموها السريع والمخيف. وهنا يقوم الإقطاع السياسي بالسيطرة على البرجوازية الصناعية، مما يعني القضاء على جذور حزب الوفد وجذور الحداثة والليبرالية.
في هذا التأميم الموجه للرأسمال الصناعي كارثة مستقبلية كبرى، فهو حكم بالإعدام على عملية اقتصادية وفكرية عميقة ومهمة، ولكن علينا أن نراه، من زاوية قدرة جهاز الدولة الشرقية عموماً في استخدام العنف في تشويه التطور الاقتصادي، وعدم السماح بظهور طبقة وسطى قوية وحديثة، فالصناعة هي القاعدة لتشكيل برجوازية حديثة قادرة على تجاوز هيمنة الدولة العسكرية – الإقطاعية.
ومن الجانب الثقافي فإننا لن نجد ذلك التداخل بين الصناعة والعلوم، وسنجد فئات البرجوازية كلها في حالة تبعية لجهاز الدولة أو للغرب ذي الرأسمال الكبير.
لقد كان بإمكان الضباط الأحرار تأميم العمارات والوكالات التجارية الخ.. لكنهم اختاروا الصناعة لكونها لا تدخل في ظل هيمنتهم. ويمثل ذلك من الناحية التاريخية، إخلاء الساحة الاقتصادية للنمو المتسارع لأشكال الملكية ذات الربحية السريعة، وغير المتداخلة بالعلوم، والتي ستكون المدخل لسياسة الانفتاح والطفيلية الشديدة عموماً.
لكن الدولة من جهة أخرى، لعبت دور (الأب) الراعي للطبقات الشعبية، فهي إذ قامت بضرب البرجوازية الصناعية، الخصم البارز لها، استطاعت أن تثبت الأسعار وتتحكم في السوق وتحافظ على الأجور والتشغيل.
ويتشابه ذلك مع دولة الخلفاء الراشدين، عبر توزيع عادل للثروة، وبتحكم الدولة في القطاع العام الزراعي، ولكنه صار الآن القطاع العام الصناعي، مع إطلاق الحريات الاقتصادية في التجارة والمقاولات والصرافة، التي راحت تنخر الملكية العامة وتسرقها.
ولهذا نجد من الناحية الفكرية تسود شعارات مثل الاشتراكية العربية ويكتب (محمود شلبي) عن اشتراكية عمر بن الخطاب، ويكتب محمود أمين العالم عن «تجربتنا الاشتراكية» الخ، أي يتم انتقاء فسيفساء فكرية تجمل النظام الاجتماعي.
لكن هل استطاع النظام الناصري الانتقال فعلاً من الإقطاع إلى الرأسمالية أو قفز إلى الاشتراكية؟
فهو يقول عن نفسه إنه نظام غير رأسمالي ومع ذلك فهو ليس نظاماً اشتراكياً، وقال بعض المنظرين الماركسيين وقتذاك إنه نظام تقوده البرجوازية الصغيرة وقال لطفي الخولي إنه نظام انتقالي إلى الاشتراكية وقال آخرون إنه النظام اللارأسمالي الخ..
لا شك إن رأسمالية الدولة الوطنية هي شكل النظام الاقتصادي فقد أصبحت الدولة تملك أكبر رأسمال اقتصادي، لكن رأسمالية الدولة بحد ذاتها هي ميدان لصراع الطبقات المختلفة وهي ليست تشكيلة اقتصادية – اجتماعية، وهي فترة تحضير لمسار تاريخي ما، فالمسألة هنا تعتمد على كيفية توجه الفائض الاقتصادي، فهل هو يتوجه لإشاعة العلاقات الرأسمالية أم للعلاقات الإقطاعية الريفية، ولا نستطيع أن نؤيد الطرح القائل بأنها إعداد للانتقال إلى الاشتراكية.
فرأسمالية الدولة أما أن تؤدي للإمام أو تعود إلى الخلف، أو أن تبقى في هذه المرحلة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية. فلا تغدو إقطاعية تماماً ولا رأسمالية صرفة. ونحن قد استبعدنا تماماً القفزة في الهواء «الاشتراكية». لأن الاشتراكية لها شروط موضوعية مغايرة تماماً، لكن إذا كانت رأسمالية الدولة هي شكل للانتقال إلى الرأسمالية الصرفة، فما هي هذه الرأسمالية الخاصة الانتقالية؟ ما هي رأسمالية الدولة؟
علينا أن نواصل المناقشة.
علينا أن نقرأ جوانب من الميدان الإيديولوجي لكي نرى مستويات أخرى من إشكالية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. فنحن نجد حزب الوفد ممثل الرأسمالية الوطنية يتوارى عن الوجود الفكري والسياسي وكأنه لم يكن رغم مقاومته الطويلة للدكتاتوريات السابقة، في حين إن حزب الإخوان هو الذي يبرز ويتصاعد دوره حتى يغدو مهيمناً في المرحلة التالية.
أي أن المرحلة في الميدان الفكري كانت على النقيض من التوقع، حيث قلنا إن المرحلة الناصرية هي مرحلة انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، تمت بأدوات القوة السياسية، ولكننا أوضحنا إن هذه الرأسمالية كانت مدمرة للقوة الاجتماعية القائدة لمرحلة التحول الحقيقي والمفترض وهي البرجوازية الصناعية.
أي أن مرحلة الانتقال بتلك الصورة أدت إلى تخريب الانتقال، وأدت إلى مشكلات حادة، وظهور الإخوان كحزب مؤثر هو تتويج لمرحلة الانتقال المُخرَّبة تلك.
فبدلاً من التوسع وتعميق مظاهر الحريات الاجتماعية والفكرية رأينا العودة إلى اعتقال النساء وظواهر التخلف المختلفة، ويقال لنا إن هذه ظاهرات قادمة من شبه الجزيرة العربية، ولكن كيف استطاعت مثل هذه الظواهر أن تنمو في المجتمع المصري بهذه السرعة والشمول إذا لم تكن هناك جذور أساسية وموضوعية سمحت لها بهذا النمو؟
أي إنه لو كانت الثورة الناصرية عملية تجذير للتطور الرأسمالي والحضاري، معمقة إنجازات المرحلة الليبرالية اجتماعياً وثقافياً لما تمكنت حفنة من الأشخاص من تخريب التطور.
فعودة القوى المذهبية للتحكم في المجتمع المصري، سواء على الجانبين الإسلامي أو المسيحي، يعني فكرياً وحضارياً، عودة إلى ما قبل الدولة الحديثة، ربما إلى عصر محمد علي أو غيره.
أي إن عملية الصهر التي قام بها الحكام الملكيون والبرجوازية الوفدية تم انهيارها على يد جماعة الضباط الأحرار وعهدهم الجمهوري – الملكي. فرجع المجتمع المصري في حركته السياسية إلى ما قبل سعد زغلول.
ومن جهة معينة، فنحن ندرك الآن إن ثمة إنجازات اقتصادية واجتماعية تمت في العهد الملكي اتاحت عملية الانصهار ووحدة الشعب، وقربته من عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية الحديثة، عبر نمو البرلمان والصحافة الحرة وتطور العلاقات الاجتماعية المتمدنة، فجاءت حركة الضباط الأحرار ومنعت هذه العملية الانتقالية، أو على الأقل رسخت الجوانب الدكتاتورية في المجتمع.
إن التسريع في بعض جوانب التطور الاقتصادي وإقامة المنشآت التاريخية، هو أمر لا يمكن إغفال أهميته، ولكن الخسائر كانت جسيمة أيضاً، بطبيعة أسلوب المصادرة، أسلوب العنف العسكري والفاسد في إدارة العمليات التاريخية.
أي أن المشروع الوطني التحرري الناصري لم يستطع أن يخرج من جسم العلاقات السياسية الإقطاعية المهيمنة، فقد كرس الدولة كمصدر الثروات، وليس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكن الدولة كمصدر للثروة أمر يقود إلى الابتعاد عن الطريق الموضوعي للتطور الرأسمالي، وبالتالي إلى عدم الدخول في الحضارة الحديثة، وهو أمر يقوي الإقطاع ويعيد البلد إلى العصور الوسطى، ولهذا ظهر الإخوان، والكنيسة القبطية، كمظهرين لنفوذ الإقطاع السياسي – الديني المتصاعد في الحياة السياسية والاجتماعية.
علينا أن نرى هذين المظهرين المتضادين؛ الأول هو إشاعة العلاقات الرأسمالية في التجارة وعمليات التوزيع والتداول، وفي تطور العلاقات النقدية والبضاعية الريف، والمظهر الثاني في تنامي قوة البنية الاجتماعية والفكرية الإقطاعية. إن هذين المظهرين المتضادين يعبران عن عدم قدرة الدولة على تغيير البنية الاجتماعية العائدة للقرون الوسطى: سيادة الذكور – اللامساواة الجنسية – بقاء الدولة دينية ورفض العلمانية – بقاء أملاك الإقطاع: الأرض الزراعية – أملاك الأوقاف.
وبعجز الدولة عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الاجتماعي، وهو البنية القوية المرتبطة بسيطرة الإقطاع الديني بفرعيه، الإسلامي والمسيحي، وبعجزها عن إنتاج علاقات رأسمالية في الميدان الصناعي، بل وضربها للبرجوازية الصناعية وتاريخها وإرثها، في ربط الصناعة بالعلوم، وتنمية حريات المرأة والنشر والاجتماع، أي قامت في المجال الاجتماعي والفكري بتمهيد الطريق لعودة الإقطاع الديني والسياسي.
من الناحية الموضوعية إذن، فإن العائلات الريفية التي ظهر منها الضباط الأحرار المصريون، وكذلك الجزائريون والعراقيون الخ..، قامت بزحزحة الإقطاع الزراعي قليلاً، فهي لم تخرج من الإقطاع ولكنها لم تدخل الرأسمالية كلية، ولم تتشكل كرأسمال صناعي ذي تاريخ تحضري مديد، وبالتالي فإن تكويناتها الفكرية والاجتماعية هي إقطاعية دينية، واستولت على الدولة وقطاعها العام مخربة بذلك التطور البرجوازي النهضوي على مدى نصف قرن، وإن هذا الإنزياح الريفي على المدن يكتسب في كل بلد عربي – إسلامي طابعه الخاص، من تقاليد وموروثات البنية وتاريخها، لكن هذا الهجوم العسكري على الثروة العامة وإعادة توزيعها، يتصف بإعادة تاريخ العنف وغياب دولة القانون والدستورية بشكل عام، بسبب إن مجموعات من الضباط بين ليلة وضحاها أصبحوا مستولين على الثروة، وهذا بحد ذاته يستدعي الموروث العربي في الغزو والفتوح والبذخ.
إن الأسباب الموضوعية لتدهور الجمهوريات العربية متقاربة، وقد رأينا إن العجز عن إنتاج علاقات رأسمالية حديثة في قطاع الصناعة، عبر عدم ترك التطور الصناعي الرأسمالي الخاص يأخذ مجراه، وبالتالي عدم السماح لتطور إنتاجي خاص واسع النطاق، يمكنه أن يتعاضد مع قطاع عام إنتاجي وعلمي، يؤدي إلى عودة الإقطاع. فإذا كان التقدم لا ينمو باتجاه مجرى العصر، ويعجز عن إعادة تشكيل البنية الاجتماعية بمختلف مستوياتها: الاقتصادية – الاجتماعية والفكرية والسياسية، باتجاه التحديث الحقيقي ويتركز الأمر فقط على التغيير في بعض جوانب الاقتصاد، فإن البنية الاجتماعية المضروبة بشكل سيئ، وغير المغيرة عبر قوانينها الداخلية العميقة، تنفجر بالتناقضات.
فقد أصبحت الدولة إقطاعاً سياسياً حاكماً، ونشرت رأسمالية طفيلية، ولم تستطع أن تغير بطبيعة الحال الإقطاع في الحياة الاجتماعية والفكرية. لكن هذا فقط في الأوضاع العامة الكلية، ولكن جاءت تطوراتها الداخلية لتعمق هذا المسار، فقد خلقت فئات برجوازية طفيلية يكمن أساسها في ملكية الدولة، وراحت تنمو في كل مكان، رغم وجود قوى عاملة وشعبية مضادة. أي أن هذه الفئات الطفيلية ظهرت من الإقطاع السياسي الحاكم. ولهذا فإن أي رؤية تقدمية تتشكل في هذا المسار وتؤيد هذه العملية التاريخية، تغدو ذيلية للإقطاع الحاكم وتتآكل وتنهار في خاتمة المطاف. مثلها مثل المعتزلة في العصر العباسي، أو القرمطية في «العهد» الإسماعيلي، أو التنويرية في العهد الخديوي، وفي النهاية فإن الإقطاع المذهبي ذا العشرة آلاف سنة يعود لاستعادة مواقعه.
وهنا على هذه الأرضية الوطنية الداخلية يمكن أن تأتي المواد المناسبة من الخارج وتقوي هذا التنامي، فقد كان الإقطاع المذهبي المتنوع يتصاعد مع ازدياد الثروة النفطية في شبه الجزيرة العربية وإيران والعراق، فقد وجد الإقطاع السياسي المذهبي في الثروة النفطية طريقه إلى الصعود والسيطرة في المنطقة، وبالتالي بدأت الضربات تنهال على الوعي الديمقراطي العربي والإسلامي بمختلف تدرجاته، وقد كانت مصر الناصرية هي قاعدة هذا الوعي، الذي كان يتآكل بفعل تناقضاته الداخلية التي لم يعرف كيف يتجاوزها، سواء عبر العودة إلى المسار الديمقراطي الليبرالي، أو عبر استعادة الموروث الإسلامي الثوري، وتعرية الحركات الإقطاعية – المذهبية، أي أن الفئات البيروقراطية العسكرية – المدنية – التجارية، عجزت أن تلعب دور البرجوازية الصناعية الغربية، بإنتاج الحرية والعلوم والتصنيع والعلمانية.
ولهذا فإن الأخوان كتتويج فكري وسياسي للإقطاع المذهبي بين النخب الإسلامية، والكنيسة القبطية كقائدة للإقطاع في الطائفة المسيحية، تصاعد دورهما في الحياة السياسية والاجتماعية. وبدأت ثمار المنطقة السلبية تتوغل في البنية المصرية، وكانت الضربة الإسرائيلية في يونيو عبر المخطط الأمريكي، هي لحظة كسر القشرة التقدمية الأخيرة في هذا الجسد، لتظهر كل تناقضاته الفاجعة.
ولم تكن المرحلة الساداتية سوى تصعيد لكل هذه التناقضات على مسرح الأحداث، لقد ظهرت دولة القرية بكل فجاجتها، فهي تتويج لكل قوى الفساد الكامنة، ولهذا كان من المستحيل إعادة التطور البرجوازي النهضوي على سكته الحقيقية، أي أن التطور الاقتصادي صار إطلاق قوى الإقطاع في السوق، بدون صناعة ولا علوم، لكن نخب الإقطاع المذهبي وقد امتلأت أيديها بذهب النفط والدم الشعبي تطلعت للحكم بطبيعة الحال.
أي أن التطور الذي كان يبدو مذهلاً، واعتبار التاريخ كله كأنه من صنع فرد، لم يكن كذلك، فهناك سببيات عميقة، هي التي تفعل فعلها في نسج خيوط التاريخ بمعول غير مرئي، فكأنها مجموعات من الصدف والأحداث الغريبة غير المنطقية. والفرد مؤثر بشكل هام، ولكن كجزء من فئة ومسار تاريخي، وتشكيلة موضوعية، لا يستطيع سواء كان لينين أو ماو تسي تونج أو عبد الناصر تجاهل قوانينها الموضوعية، فقد يقفز لكن جاذبية القوانين تعيد الطيران إلى قواعده الأرضية.
وتكمن قدرتنا النضالية العربية المعاصرة في اكتشاف ذلك، وتصحيح المسيرة السابقة، آخذين ذلك الإرث النضالي العظيم في ظروفه.
إن قوى الإقطاع المذهبي والديني المختلفة تصور الأمر وكأنه انتصار للإسلام، وليس معركة اجتماعية هي إعادة تجديد الأمة بشكل عصري، يقدمون هم فيها برنامجهم اليميني المتخلف، ويمزقون فيه القوى الوطنية، وتراكمات النهضة، مثلما فعل أقرانهم في العصور الغابرة في تمزيق الأمة ووعيها وتقدمها.
إن إعادة التطور إلى سكته بعد الخراب المتعدد الألوان، عبر صعود رأسماليات غير صناعية، وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، وملء السوق بالصناعات الاستهلاكية الخ.. أمر يتطلب تشكيل تحالف نهضوي بين القطاع العام والخاص، بين اليسار والبرجوازية الصناعية، بين الحداثة الاشتراكية والحداثة الرأسمالية العربية، بين الأحزاب الاشتراكية وأحزاب الطبقة الوسطى العلمانية، عبر السير في طريق رأسمالي ديمقراطي حديث وصناعي، يجمع الأقطار العربية في تعاون قومي، توحيدي.
________________________
انظر رواية: رسائل جمال عبدالناصر السرية لــ عبدالله خليفة.
Published on July 25, 2020 07:15
No comments have been added yet.


