عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الوعي التاريخي عند ابن خلدون
[image error]
في التمهيد الأولى لكتابه «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، يدعو ابن خلدون لتجاوز النظرة السردية للتاريخ العربي الإسلامي نحو نظرة تحليلية تعليلية له، فيقول: إن التاريخ: «إن هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمّى فيها الأقوال، وتُضرب الأمثال، وتطرف الأندية إذا غصها الاحتفال.. الخ».
ولكن هذا الظاهر السردي وراءه شيءٌ آخر:
«وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع، وأسبابها عميق»، إن هاتين الطريقتين تعمران عن نمو النظر التاريخي في الكتابة العربية، ولهما تاريخهما الخاص المرتبط بسيرورة الوعي والتطور الاجتماعي، ولكن ابن خلدون لا يقرأ تاريخ هذه الكتابة التاريخية على نحو تاريخي، بل على نحو ذاتى فهناك الفحول الذين كتبوا تاريخ العرب والإسلام وهناك المندسون:
«وأن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الماطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها»..
يظهر الصنف الأول من الكتابة التاريخية أنه كتابة سردية خبرية بلا تحقيق وتتقيح، ثم ظهرت كتابة أخرى كتبها نفرٌ محدود مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدى والمسعودي وغيرهم كما يقول، ثم لا يقوم ابن خلدون بتتبع الكتابتين وسببيتيهما بل يتطرق إلى حكم عام تجاه أولئك المؤرخين:
«إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التصنيف وإتباع آثارهم» وبهذا فإن ابن خلدون لم يقم بغربلة هاتين المدرستين، وتحولت المدرسة الأخيرة إلى كل عام، لم يُدرس للوصول إلى كيفية كتابة التاريخي بشكلٍ موضوعي.
وعبر هذه القفزات بين شكلين من الوعي التاريخي ومن ثم عبر تعمعم الشكل الأخير الذي يقول عنه إنه الخلاصة، يتناول بلمحات خاطفة الشكل الأخير من السرد التاريخي محدداً مداه، بأنه قام بتناول عموم الدولتين في صدر الإسلام، أو قام بتجاوز ذلك وتناول ما قبل وما بعد الإسلام، فيأخذ السرد التأريخي المذكور هنا المدى الزمني وليس بنيته الداخلية التحليلية والتفسيرية المفترضة. ثم هناك المثال الثالث وهو حين يقوم مؤرخون بالكتابة عن تواريخ بلدانهم، وكل هذه التواريخ في الكم الزمني والجغرافي، وليس في الوعي السردي التحليلي للتاريخ الذي كان يفترض من ابن خلدون كشفه وتحديد هياكله.
ثم يطرح ابن خلدون في ومضات متقطعة أسباب ضعف ذلك الوعي بالتاريخ، أى حين يدخل فى النسيج الفكري المنهجي المطلوب فيصف عمل المؤرخين بأنهم:
«يجلبون الأخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الأول، صوراً تجردت عن موادها، وصفحات انتضيت من أغمادها.. إنما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواعٌ لم تعبر أجناسها ولا تحققت فصولها»، فيتركز نقد ابن خلدون هنا حول الوقائع التي سردها بمترادفات عدة، فهذه الوقائع المسرودة لم تكن تمتاز بالدقة من قبل الساردين.
إن السرد التقليدي غير العميق للتاريخ يتركز حول الدول وقيامها واضمحلالها الخ..، وهو مرفوض لدى ابن خلدون فيغدو التاريخ عنده هو بحث في تاريخية الدول، ويُظهر أن الطريقتين السابقتين قبله في التأريخ هما طريقة واحدة، دون أن نرى أنها بنية منهجية مختلفة عن السابقة، فهي طريقةُ سردٍ غير دقيق للدول، حيث أن السابقين عموماً لم يجمعوا بين السرد السياسي وجانب آخر عظيم الأهمية حيث اكتشفه هو ورعاه وهو:
«وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً»، «وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها».
إن ابن خلدون يقوم بالسرد السياسي والاجتماعي مترابطين متداخلين، حيث كانت الطريقة فيما قبله هى فك الاتصال بينهما، حيث تبدو الدول لديه هى المظهر التاريخى الأولي، فهي أساس الحركة التاريخية، وهي لها أسباب اجتماعية، أما السرد التاريخي قبله فلم يكن كذلك حسب رأيه.
تترافق وخيوط المنهجية الوامضة الأولى تحديد لفصول الكتاب واختصاصه بتاريخ المغرب الذي تتواشج فيه تواريخ أمم أخرى ولهذا فإنه يختص بقراءة تاريخ الشعبين اللذين شكلا هذا التاريخ، «وهم العرب والبربر إذ هما الجيلان اللذان عُرف بالمغرب ماواهما، وطال عنى الأحقاب مثواهما»، وإذا كان مشتملاً على أخبار العرب والبربر، فإن الكتاب كُتب والعرب أهل حكم سابق لا راهن:
«لفناء العرب ودولتهم بها وخروجهم عن ملكة أهل العصبيات».
لا نستطيع أن نفهم التقلبات لابن خلدون دون أن نعرف جذور الهوية الفكرية له، فهو حين يتحدث عن الفضاء الاسلامي العام ستكون مواقفه متقاربة مع السلطة المركزية الإسلامية، ولكن حين تظهر الانقسامات في العالم الاسلامي، ويتشكل الجناح المستقل الذي شكلته القبائلُ البربرية (الأمازيغية) في شمال أفريقيا والأندلس فإن ابن خلدون سيعود إلى جذوره، وإلى انتمائه الثقافى.
وللتدليل على الموقف المناطقي الأمازيغي هناك متن الكتاب الأساسي الذي يعالج تاريخ المغرب من خلال وجهة نظر تقليدية تراجع فيها المؤلفُ عن منهجيته، والأهم هنا أن نلاحظ الكثير من المقاطع في المقدمة نفسها. فكل الظاهرات التاريخية السياسية التي شكلها البربر وساهموا فيها بشكل هام ، هي ظواهر إيجابية عظيمة في نظر ابن خلدون ، والأمر يبدأ من أهمية الدولة الفاطمية حتى إلى الأكلات المغاربية.
ويتصاعد الوعى بدور البربر وأهميته التاريخية حين يناقش في الوقائع التالية مسألة مؤسس الدولة الإدريسية ومؤسس الدولة الموحدية والدون الفاطمية وغيرهما.
يقيمُ ابن خلدون تراتبية خاص للحدث التاريخي ويتجلى ذلك أولاً في قيام العصبيات بدور المحرك التاريخي الأساسي، وثانياً يقوم هذا المحركُ بإنتاج مختلف أنواع السلطات، وثالثاً يتشكلُ من هذه السلطات البناء الاجتماعي العام والثقافة.
إننا هنا أمام نظرة لفهم التاريخ البدوي، أي كيف يقوم الرعاةُ بصناعة التاريخ. أي أن التاريخ هنا لا يغدو تاريخ الإنسانية، بل هو تاريخ العرب والبربر أو غيرهم من القبائل التي انضمت للعملية التاريخية ، كجماعاتٍ رعويةٍ أنشأتْ تاريخها عبر التكوين العشائري.
إن النظرة الخلدونية هنا هي تسجيلُ ما حدث ويحدث حينئذٍ من حراك اجتماعي مرئي للمؤرخ، فيغدو حراكُ القبائل في تصوره هو التاريخ والعمران ومشكل الدول والمعاش.
ومن هنا فهي تتطابق مع الفعل السياسي الرعوي السائد، أي أنها تقرأ ما فعله الرعاةُ، وكيف كونوا الأبنية الاجتماعية والثقافية، أي أنها تقرأ ما شكله المسيطرون، وليس ما شكله المسيطر عليهم، أي أن نقرأ تاريخ القبائل السائدة واضمحلالها، لا تاريخ الفلاحين الباقين عبر العصور، وكيف تمت السيطرة عليهم واستغلالهم ولكنهم لم يذوبوا.
فهي ترى العالم التاريخي من جانب المُشكلين والقاهرين للبُنى لا من جانب المقهورين. ومن هنا فهي ستعممُ قالبَ العصبيةِ ولا تقوم بتحليل عناصره الداخلية المتضادة.
فالعصبية القبلية كمحركٍ تاريخي أولي مطلق، سيكونٌ متجوهراً، أي خارج التناقض، والقبيلةُ حين تقوم بتشكيل التاريخ عبر السيطرة على المدن، لا يكون فيها تناقض داخلى، أي لا توجد بها مستويات اجتماعية متناقضة؛ فهي تتحركُ وتحكلمُ وكأنها جوهر مطلق، ثم يأتي التغيير والتفسخ ليس من داخلها بل من خارجها، عبر قيامها بالسيطرة على الدولة فتتآكلُ تلك العصبية بالغنى والبذخ والترهل فتأتي قبيلة أخرى وهكذا، يغدو التاريخ العربي والإسلامي وكأنه إعادة إنتاج مستمرة لهذه القبلية بمراحلها.
ومن هنا يغدو تاريخ القبائل حسب رؤية ابن خلدون، رغم أنه يمرُ بالتاريخ، كأنه خارج التاريخ كذلك.
أي أن تشكيل قبيلة قريش وعصبيتها هي نفسها عصبية قبيلة أخرى، لا أن يكون تاريخ قبيلة قريش مرتبط ببنية اجتماعية معينة، هي بنية عشائرية ما قبل العبودية – والإقطاع، هي غير قبيلة أخرى كونت سلطتها في زمن تشكل أسلوب الإنتاج الإقطاعي، أي أن المدى النهضوي الاجتماعي لقبيلة كهذه هو غير المدى النهضوي لقبيلة في ظرف موضوعي آخر، ولكن هذا لا يغدو مهماً في هذه الرؤية فالمهم هو طابع هذه العصبية المتجددة بغض النظر عن المراحل والتشكيلات التاريخية.
هذا من جانب المسيطرين أما المسيطرُ عليهم، فإنهم يبدون خارج هذا التاريخ، لكون الفلاحين انصهروا قبلياً وفقدوا العصبية القبلية ، ولكنهم كانوا قبائل لهم عصبية سابقة، وهم ينتجون حراكاً اجتماعياً مختلفاً، وهكذا فإن التاريخ يغدو أكثر تعقيداً وتركيباً ؛ من كونه نتاج العصبية القبلية السائدة فقط.
إن الحراكَ التاريخي لدى ابن خلدون سيكونُ بفعل العصبيات الرعوية السائدة، ولكن حين تكونُ في فترة نهضةٍ ومدٍ حضاري، وعندما ستتفسخُ، وتتحلل من الداخل، فستكونَ خارجَ رؤيته، التي راح فيها الحماسُ للسلطة ولاستمرار والعمران يتداخلان فيها بصورةٍ مركبة، فتغدو العصبيةُ الفاعلةَ هي الأثيرةُ عنده، ولكن حين تضمحلُ فإنه سيخرجها من عالمه.
وهذا يتطابقُ مع تطور القبائل البربرية في القبول بالإسلام ثم في صناعة شكلها الحضاري الخاص منه. فالإسلامُ العامُ يغدو قائماً على هذه العصبية، والموجاتُ التالية التي فيها قومهُ موجةٌ مهمةٌ من موجاتها، تغدو هي المرئية التاريخية في تسجيله وبصره.
أما الموجات غير العصبية، غير الرعوية، الغائرة و|لموثرة، فإنها تصير غير مُسجلةٍ وغير مفحوصةٍ تاريخياً.
تغدو الحضارةُ اذاً هي حضارةُ الرعاة في زمن عصبيتهم، أي في زمن تماسكهم القبلي، ولكن بعد ذلك حين يتحللون اجتماعياً فهم يدخلون دور الانطفاء والذل، ولهذا كذلك فإنه لا توجد حضارة في وعي ابن خلدون خارج التوهج البدوي هذا، فبعده انطفاء وموات.
ومن هنا كذلك فلا وجود لديه لأمم تسود فيها الزراعة وتقوم عصبيتها على المحراث، أي لن يستطيع أن يرى فعل الأقوام غير الرعوية، أي أن يرى فعل الأقوام الحضرية في مقاومة الرعاة، وفي إنتاج حضارتها.
هكذا يغدو التاريخُ الناهض هو من صنع العصبية القبلية وانطفاء التاريخ من انطفائها، ومن هنا لا يرى ابن خلدون الحراك التاريخي بأنه من صنع الجماعات الاجتماعية المتعددة التي تتضمن القبائل وكذلك الطبقات والأمم.
وبالتالي كان يصعب عليه أن يرى اللوحات المتداخلة بين الرعاة والفلاحين، بين العصبيات القبلية والقوى المنتجة، وكيف أن الفرس كانت عصبيتهم «القومية»، أو كفاحهم القومي، يتراءى داخل الثقافة العربية الإسلاميه؛ حيث راحوا يشقون لأنفسهم طريقاً خاصاً مغايراً داخلها ، مثلما أن البربر راحوا يشقون طريقاً خاصاً، ولكن من خلال السائد فيها، في حين شكل الفرس تلك «القومية» ضد السائد المهيمن داخلها.
وهكذا فإنه لن يرى التعقيدات في اللوحات المشكلة والإنتاج الثقافي المتكون في تلك المقاومة وموجاته المتعددة وكيف أنه راح يعيدُ تشكيلَ تلك الأمة بطريقة مختلفة.
إذن تعودُ جذورُ الرؤيةِ الخلدونية غير الدقيقة إلى فهمه لمسألة «العصبية»، فهو كما قلنا لن يرى القبيلة ذات تكوين اجتماعي متناقض، في مستوياتها الاجتماعية خاصةً، وكيف تنقسم إلى شيوخ وفقراء يشكلون قطبي القبيلة، ويقوم الشيوخ بالمحافظة على هياكل القبيلة التراتبية وثقافتها البدوية حين الانتقال إلى حكم المدينة، وهذه العملية تخضع للهياكل الاجتماعية العامة ومستوى التطور وجذور الأقوام المتصارعة الخ..
إن وحدة القبيلة تتشكل في ظروف الصحراء ولكن هذه الوحدة تتفكك مع تبدل ظروف الحياة، فتتصاعد الانقساماتُ الاجتماعية داخل القبيلة، والتطورُ يتعلق هنا بكيفية نمو العملية السياسية والاجتماعية، فالعصبية القبلية تشكل قوة مسيطرة مستبدة على السلطة، وإذا كانت تقوم بإنجازات نهضوية في البداية فإن التحكم في السلطة والثروة يقودان إلى كوارث ومشكلات تالية..
إن ما يراه ابن خلدون كسبب للتقدم هو أيضا سبب للتخلف والتفكك، وقيام حركات تاريخية مختلفة حسب طابع الأقوام والشعوب والصراع الاجتماعي الدائر فى قلبها.
وهو صراع قد يبدأ داخل رحم القبيلة ذات العصبية، ورؤية ابن خلدون لا تتبع هذه الصراعات الداخلية والانقسامات المتوارية داخل القبيلة، لكونه يرى القبيلة كجوهر مطلق، ورغم أنه يمشي في التاريخ، وتتم عملية رصد ظواهر عديدة منه بشكل موضوعي، إلا أن رؤيته كجوهر مفلق تمنع رؤية الاحتمالات المتعددة والطبقات المختلفة للتاريخ المتكونة من خلال ذلك.
وهذا ما حدث لقبيلة قريش حيث كان الصراع بين بني هاشم وبني أمية مبكراً فيها، وهو ما جعل التاريخ ينمو عبر الصراع بين هذين الفرعي القبليين، والاجتماعيين السياسيين المختلفين، لكن شجرة الصراع القبلي المتنامية ارتفعت عبر تغيرات اجتماعية كبرى.
إن الوحدة القبلية لا تنفي الصراع فيها، ولهذا فإن الصراع القبلي كشكل للصراع الاجتماعي، وكتعبير عن مستوياته داخل أسلوب الإنتاج، لن يظهر كحزئيةٍ من قوانين أعم، أي كتعبير عن قوانين الصراع الاجتماعي في ظل بنية اجتماعية معينة.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الوعي التاريخي عند ابن خلدون
http://archive.alsharekh.org/newPreview.aspx?PID=3089237&ISSUEID=18630&AID=421562
في التمهيد الأولى لكتابه «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، يدعو ابن خلدون لتجاوز النظرة السردية للتاريخ العربي الإسلامي نحو نظرة تحليلية تعليلية له، فيقول: إن التاريخ: «إن هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمّى فيها الأقوال، وتُضرب الأمثال، وتطرف الأندية إذا غصها الاحتفال.. الخ».
ولكن هذا الظاهر السردي وراءه شيءٌ آخر:
«وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع، وأسبابها عميق»، إن هاتين الطريقتين تعمران عن نمو النظر التاريخي في الكتابة العربية، ولهما تاريخهما الخاص المرتبط بسيرورة الوعي والتطور الاجتماعي، ولكن ابن خلدون لا يقرأ تاريخ هذه الكتابة التاريخية على نحو تاريخي، بل على نحو ذاتى فهناك الفحول الذين كتبوا تاريخ العرب والإسلام وهناك المندسون:
«وأن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الماطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها»..
يظهر الصنف الأول من الكتابة التاريخية أنه كتابة سردية خبرية بلا تحقيق وتتقيح، ثم ظهرت كتابة أخرى كتبها نفرٌ محدود مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدى والمسعودي وغيرهم كما يقول، ثم لا يقوم ابن خلدون بتتبع الكتابتين وسببيتيهما بل يتطرق إلى حكم عام تجاه أولئك المؤرخين:
«إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التصنيف وإتباع آثارهم» وبهذا فإن ابن خلدون لم يقم بغربلة هاتين المدرستين، وتحولت المدرسة الأخيرة إلى كل عام، لم يُدرس للوصول إلى كيفية كتابة التاريخي بشكلٍ موضوعي.
وعبر هذه القفزات بين شكلين من الوعي التاريخي ومن ثم عبر تعمعم الشكل الأخير الذي يقول عنه إنه الخلاصة، يتناول بلمحات خاطفة الشكل الأخير من السرد التاريخي محدداً مداه، بأنه قام بتناول عموم الدولتين في صدر الإسلام، أو قام بتجاوز ذلك وتناول ما قبل وما بعد الإسلام، فيأخذ السرد التأريخي المذكور هنا المدى الزمني وليس بنيته الداخلية التحليلية والتفسيرية المفترضة. ثم هناك المثال الثالث وهو حين يقوم مؤرخون بالكتابة عن تواريخ بلدانهم، وكل هذه التواريخ في الكم الزمني والجغرافي، وليس في الوعي السردي التحليلي للتاريخ الذي كان يفترض من ابن خلدون كشفه وتحديد هياكله.
ثم يطرح ابن خلدون في ومضات متقطعة أسباب ضعف ذلك الوعي بالتاريخ، أى حين يدخل فى النسيج الفكري المنهجي المطلوب فيصف عمل المؤرخين بأنهم:
«يجلبون الأخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الأول، صوراً تجردت عن موادها، وصفحات انتضيت من أغمادها.. إنما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواعٌ لم تعبر أجناسها ولا تحققت فصولها»، فيتركز نقد ابن خلدون هنا حول الوقائع التي سردها بمترادفات عدة، فهذه الوقائع المسرودة لم تكن تمتاز بالدقة من قبل الساردين.
إن السرد التقليدي غير العميق للتاريخ يتركز حول الدول وقيامها واضمحلالها الخ..، وهو مرفوض لدى ابن خلدون فيغدو التاريخ عنده هو بحث في تاريخية الدول، ويُظهر أن الطريقتين السابقتين قبله في التأريخ هما طريقة واحدة، دون أن نرى أنها بنية منهجية مختلفة عن السابقة، فهي طريقةُ سردٍ غير دقيق للدول، حيث أن السابقين عموماً لم يجمعوا بين السرد السياسي وجانب آخر عظيم الأهمية حيث اكتشفه هو ورعاه وهو:
«وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً»، «وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها».
إن ابن خلدون يقوم بالسرد السياسي والاجتماعي مترابطين متداخلين، حيث كانت الطريقة فيما قبله هى فك الاتصال بينهما، حيث تبدو الدول لديه هى المظهر التاريخى الأولي، فهي أساس الحركة التاريخية، وهي لها أسباب اجتماعية، أما السرد التاريخي قبله فلم يكن كذلك حسب رأيه.
تترافق وخيوط المنهجية الوامضة الأولى تحديد لفصول الكتاب واختصاصه بتاريخ المغرب الذي تتواشج فيه تواريخ أمم أخرى ولهذا فإنه يختص بقراءة تاريخ الشعبين اللذين شكلا هذا التاريخ، «وهم العرب والبربر إذ هما الجيلان اللذان عُرف بالمغرب ماواهما، وطال عنى الأحقاب مثواهما»، وإذا كان مشتملاً على أخبار العرب والبربر، فإن الكتاب كُتب والعرب أهل حكم سابق لا راهن:
«لفناء العرب ودولتهم بها وخروجهم عن ملكة أهل العصبيات».
لا نستطيع أن نفهم التقلبات لابن خلدون دون أن نعرف جذور الهوية الفكرية له، فهو حين يتحدث عن الفضاء الاسلامي العام ستكون مواقفه متقاربة مع السلطة المركزية الإسلامية، ولكن حين تظهر الانقسامات في العالم الاسلامي، ويتشكل الجناح المستقل الذي شكلته القبائلُ البربرية (الأمازيغية) في شمال أفريقيا والأندلس فإن ابن خلدون سيعود إلى جذوره، وإلى انتمائه الثقافى.
وللتدليل على الموقف المناطقي الأمازيغي هناك متن الكتاب الأساسي الذي يعالج تاريخ المغرب من خلال وجهة نظر تقليدية تراجع فيها المؤلفُ عن منهجيته، والأهم هنا أن نلاحظ الكثير من المقاطع في المقدمة نفسها. فكل الظاهرات التاريخية السياسية التي شكلها البربر وساهموا فيها بشكل هام ، هي ظواهر إيجابية عظيمة في نظر ابن خلدون ، والأمر يبدأ من أهمية الدولة الفاطمية حتى إلى الأكلات المغاربية.
ويتصاعد الوعى بدور البربر وأهميته التاريخية حين يناقش في الوقائع التالية مسألة مؤسس الدولة الإدريسية ومؤسس الدولة الموحدية والدون الفاطمية وغيرهما.
يقيمُ ابن خلدون تراتبية خاص للحدث التاريخي ويتجلى ذلك أولاً في قيام العصبيات بدور المحرك التاريخي الأساسي، وثانياً يقوم هذا المحركُ بإنتاج مختلف أنواع السلطات، وثالثاً يتشكلُ من هذه السلطات البناء الاجتماعي العام والثقافة.
إننا هنا أمام نظرة لفهم التاريخ البدوي، أي كيف يقوم الرعاةُ بصناعة التاريخ. أي أن التاريخ هنا لا يغدو تاريخ الإنسانية، بل هو تاريخ العرب والبربر أو غيرهم من القبائل التي انضمت للعملية التاريخية ، كجماعاتٍ رعويةٍ أنشأتْ تاريخها عبر التكوين العشائري.
إن النظرة الخلدونية هنا هي تسجيلُ ما حدث ويحدث حينئذٍ من حراك اجتماعي مرئي للمؤرخ، فيغدو حراكُ القبائل في تصوره هو التاريخ والعمران ومشكل الدول والمعاش.
ومن هنا فهي تتطابق مع الفعل السياسي الرعوي السائد، أي أنها تقرأ ما فعله الرعاةُ، وكيف كونوا الأبنية الاجتماعية والثقافية، أي أنها تقرأ ما شكله المسيطرون، وليس ما شكله المسيطر عليهم، أي أن نقرأ تاريخ القبائل السائدة واضمحلالها، لا تاريخ الفلاحين الباقين عبر العصور، وكيف تمت السيطرة عليهم واستغلالهم ولكنهم لم يذوبوا.
فهي ترى العالم التاريخي من جانب المُشكلين والقاهرين للبُنى لا من جانب المقهورين. ومن هنا فهي ستعممُ قالبَ العصبيةِ ولا تقوم بتحليل عناصره الداخلية المتضادة.
فالعصبية القبلية كمحركٍ تاريخي أولي مطلق، سيكونٌ متجوهراً، أي خارج التناقض، والقبيلةُ حين تقوم بتشكيل التاريخ عبر السيطرة على المدن، لا يكون فيها تناقض داخلى، أي لا توجد بها مستويات اجتماعية متناقضة؛ فهي تتحركُ وتحكلمُ وكأنها جوهر مطلق، ثم يأتي التغيير والتفسخ ليس من داخلها بل من خارجها، عبر قيامها بالسيطرة على الدولة فتتآكلُ تلك العصبية بالغنى والبذخ والترهل فتأتي قبيلة أخرى وهكذا، يغدو التاريخ العربي والإسلامي وكأنه إعادة إنتاج مستمرة لهذه القبلية بمراحلها.
ومن هنا يغدو تاريخ القبائل حسب رؤية ابن خلدون، رغم أنه يمرُ بالتاريخ، كأنه خارج التاريخ كذلك.
أي أن تشكيل قبيلة قريش وعصبيتها هي نفسها عصبية قبيلة أخرى، لا أن يكون تاريخ قبيلة قريش مرتبط ببنية اجتماعية معينة، هي بنية عشائرية ما قبل العبودية – والإقطاع، هي غير قبيلة أخرى كونت سلطتها في زمن تشكل أسلوب الإنتاج الإقطاعي، أي أن المدى النهضوي الاجتماعي لقبيلة كهذه هو غير المدى النهضوي لقبيلة في ظرف موضوعي آخر، ولكن هذا لا يغدو مهماً في هذه الرؤية فالمهم هو طابع هذه العصبية المتجددة بغض النظر عن المراحل والتشكيلات التاريخية.
هذا من جانب المسيطرين أما المسيطرُ عليهم، فإنهم يبدون خارج هذا التاريخ، لكون الفلاحين انصهروا قبلياً وفقدوا العصبية القبلية ، ولكنهم كانوا قبائل لهم عصبية سابقة، وهم ينتجون حراكاً اجتماعياً مختلفاً، وهكذا فإن التاريخ يغدو أكثر تعقيداً وتركيباً ؛ من كونه نتاج العصبية القبلية السائدة فقط.
إن الحراكَ التاريخي لدى ابن خلدون سيكونُ بفعل العصبيات الرعوية السائدة، ولكن حين تكونُ في فترة نهضةٍ ومدٍ حضاري، وعندما ستتفسخُ، وتتحلل من الداخل، فستكونَ خارجَ رؤيته، التي راح فيها الحماسُ للسلطة ولاستمرار والعمران يتداخلان فيها بصورةٍ مركبة، فتغدو العصبيةُ الفاعلةَ هي الأثيرةُ عنده، ولكن حين تضمحلُ فإنه سيخرجها من عالمه.
وهذا يتطابقُ مع تطور القبائل البربرية في القبول بالإسلام ثم في صناعة شكلها الحضاري الخاص منه. فالإسلامُ العامُ يغدو قائماً على هذه العصبية، والموجاتُ التالية التي فيها قومهُ موجةٌ مهمةٌ من موجاتها، تغدو هي المرئية التاريخية في تسجيله وبصره.
أما الموجات غير العصبية، غير الرعوية، الغائرة و|لموثرة، فإنها تصير غير مُسجلةٍ وغير مفحوصةٍ تاريخياً.
تغدو الحضارةُ اذاً هي حضارةُ الرعاة في زمن عصبيتهم، أي في زمن تماسكهم القبلي، ولكن بعد ذلك حين يتحللون اجتماعياً فهم يدخلون دور الانطفاء والذل، ولهذا كذلك فإنه لا توجد حضارة في وعي ابن خلدون خارج التوهج البدوي هذا، فبعده انطفاء وموات.
ومن هنا كذلك فلا وجود لديه لأمم تسود فيها الزراعة وتقوم عصبيتها على المحراث، أي لن يستطيع أن يرى فعل الأقوام غير الرعوية، أي أن يرى فعل الأقوام الحضرية في مقاومة الرعاة، وفي إنتاج حضارتها.
هكذا يغدو التاريخُ الناهض هو من صنع العصبية القبلية وانطفاء التاريخ من انطفائها، ومن هنا لا يرى ابن خلدون الحراك التاريخي بأنه من صنع الجماعات الاجتماعية المتعددة التي تتضمن القبائل وكذلك الطبقات والأمم.
وبالتالي كان يصعب عليه أن يرى اللوحات المتداخلة بين الرعاة والفلاحين، بين العصبيات القبلية والقوى المنتجة، وكيف أن الفرس كانت عصبيتهم «القومية»، أو كفاحهم القومي، يتراءى داخل الثقافة العربية الإسلاميه؛ حيث راحوا يشقون لأنفسهم طريقاً خاصاً مغايراً داخلها ، مثلما أن البربر راحوا يشقون طريقاً خاصاً، ولكن من خلال السائد فيها، في حين شكل الفرس تلك «القومية» ضد السائد المهيمن داخلها.
وهكذا فإنه لن يرى التعقيدات في اللوحات المشكلة والإنتاج الثقافي المتكون في تلك المقاومة وموجاته المتعددة وكيف أنه راح يعيدُ تشكيلَ تلك الأمة بطريقة مختلفة.
إذن تعودُ جذورُ الرؤيةِ الخلدونية غير الدقيقة إلى فهمه لمسألة «العصبية»، فهو كما قلنا لن يرى القبيلة ذات تكوين اجتماعي متناقض، في مستوياتها الاجتماعية خاصةً، وكيف تنقسم إلى شيوخ وفقراء يشكلون قطبي القبيلة، ويقوم الشيوخ بالمحافظة على هياكل القبيلة التراتبية وثقافتها البدوية حين الانتقال إلى حكم المدينة، وهذه العملية تخضع للهياكل الاجتماعية العامة ومستوى التطور وجذور الأقوام المتصارعة الخ..
إن وحدة القبيلة تتشكل في ظروف الصحراء ولكن هذه الوحدة تتفكك مع تبدل ظروف الحياة، فتتصاعد الانقساماتُ الاجتماعية داخل القبيلة، والتطورُ يتعلق هنا بكيفية نمو العملية السياسية والاجتماعية، فالعصبية القبلية تشكل قوة مسيطرة مستبدة على السلطة، وإذا كانت تقوم بإنجازات نهضوية في البداية فإن التحكم في السلطة والثروة يقودان إلى كوارث ومشكلات تالية..
إن ما يراه ابن خلدون كسبب للتقدم هو أيضا سبب للتخلف والتفكك، وقيام حركات تاريخية مختلفة حسب طابع الأقوام والشعوب والصراع الاجتماعي الدائر فى قلبها.
وهو صراع قد يبدأ داخل رحم القبيلة ذات العصبية، ورؤية ابن خلدون لا تتبع هذه الصراعات الداخلية والانقسامات المتوارية داخل القبيلة، لكونه يرى القبيلة كجوهر مطلق، ورغم أنه يمشي في التاريخ، وتتم عملية رصد ظواهر عديدة منه بشكل موضوعي، إلا أن رؤيته كجوهر مفلق تمنع رؤية الاحتمالات المتعددة والطبقات المختلفة للتاريخ المتكونة من خلال ذلك.
وهذا ما حدث لقبيلة قريش حيث كان الصراع بين بني هاشم وبني أمية مبكراً فيها، وهو ما جعل التاريخ ينمو عبر الصراع بين هذين الفرعي القبليين، والاجتماعيين السياسيين المختلفين، لكن شجرة الصراع القبلي المتنامية ارتفعت عبر تغيرات اجتماعية كبرى.
إن الوحدة القبلية لا تنفي الصراع فيها، ولهذا فإن الصراع القبلي كشكل للصراع الاجتماعي، وكتعبير عن مستوياته داخل أسلوب الإنتاج، لن يظهر كحزئيةٍ من قوانين أعم، أي كتعبير عن قوانين الصراع الاجتماعي في ظل بنية اجتماعية معينة.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الوعي التاريخي عند ابن خلدون
http://archive.alsharekh.org/newPreview.aspx?PID=3089237&ISSUEID=18630&AID=421562
Published on August 11, 2019 15:43
No comments have been added yet.


