عبـــــــدالله خلــــــــيفة: العصبيةُ والعمرانُ

[image error]
(ذلك لأن الدولة هي السوق الأعظم للعالم ومنه مادة العمران فإذا أحتجز السلطانُ الأموالَ والجبايات أو فُقدت فلم يصرفها قلّ حينئذٍ ما بأيدي الحاشية وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلت نفاقاتهم جملة وهم معظم السواد ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق من سواهم فيقع الكساد حينئذٍ في الأسواق وضعف الأرباح في المتاجر لقلة الأموال فيقل الخراجُ لذلك)، مقدمة ابن خلدون، جزء 2، ص 92.
يصور ابنُ خلدون هنا حركةً داخلية للسوق المركزية حيث تتحكم الأموالُ الحكومية في الاقتصاد العام، وهي حركة داخلية جزئية وكأنها هي السبب الرئيسي لبناء الاقتصاد في حين أنها هي التي تعتمدُ على مدخول الخراج، الذي عن طريق جلبه من الأرياف والبوادي والأمصار تتشكل الماليةُ العامة.
لكن تلك الحركة الجزئية وهي سيطرةُ السلطانِ على السوق والمال العام تغدو حركة مؤثرة هامة على مجمل الوضع الاقتصادي.
فعلى حسب إنفاق الدولة تتشكل الفئات الاجتماعية وتتحرك الأرزاق، ويزدهر السوق.
وهو ازدهار مؤقت قائم على مدى جلب الخراج الذي تسيطر عليه العُصبةُ القبلية، ويحدد تاريخ العُصبة وتماسكها مدى إستمرار هذه الطريقة الانتاجية التوزيعية.
فهذه العصبة القبلية أو الدينية تمكنت لقدرتها العسكرية وتماسكها العشائري من التغلغل في الأمصار وفرض سيطرتها، وتجعل من جماعتها المتوحِّدة قوى عسكرية وسياسية وإدارية وإعلامية وتضم قوى أخرى للمهمات الثانوية وهي كلها تتغذى على التماسك القَبلي وتوزيع الأموال والجبايات، وكلا الأمرين يشكلان أساسا الوجود السياسي الاقتصادي، ولكن توزيع الأموال يتم عبر خروجه من المصب السلطاني، فهو الذي يتحكم في تدفقه، كما يتحكم في تشكيل الفئات الاجتماعية المستفيدة والمتضررة.
هذا الرسم للخريطة الاجتماعيية السياسية يتشكل في فضاء العصر الإقطاعي، ويحدث تناقضاً بين التملك السلطاني والتجارة الحرة، فتغدو مؤسسات التجارة والحِرف والنقود مشكلة سياسياً، فهي ملجومة باللجام السلطاني الأعلى مُطلقةٌ حسب شده ومده، وتغدو البنية الاقتصادية مسيطر عليها غير حرة، متماسكة حسب قدرة العُصبة القبلية أو الدينية على التماسك الداخلي، وهي متماسكة حسب فيض النقد الذهبي المتدفق من الأعلى، ولهذا فإن تماسكها يؤدي لقوة السوق وازدهاره، ولهذا فإنه ثمة علاقة إجابية بين العصبة والعمران، فالحراك العربي التحولي النهضوي يعتمد على مجيء عصبة ذات مشروع إقتصادي، وتتسطيع قوتها القتالتية أن تؤسس مدنية وأسواقاً، وحين تنهار العصبة لخلافات داخلية أو لضربات خارجية فإن السوق ينهار. لكن المدينة لا تنهار حسب تاريخها، فثمة مدنٌ تاريخية لا يضعفها زوالُ حكم ما، فيما أخرى مرتبطة بذلك نظراً لضعفها العمراني وهامشيتها.
التناقض بين السياسة والاقتصاد، بين هيمنة مجموعة سياسية إدارية على السلع والحرف، يجعل التطور الاقتصادي رهن للصرف البذخي من قبل فئات الحكم وأنصارهم والمستفيدين من السوق، فالسلع المعمرة الثمينة هي التي تشترى من قبل العضبة وفئاتها، فيما يعيش الناس على المواد الاستهلاكية ولكن حسب التطور ومدى نمو الاقتصاد وزوال المركزية السياسية العليا وظهور مراكز إنتاج متعددة تغذي الأسواق.
لكن نمط العُصبة لا بد أن يخلق إقتصاداً مركزياً إدارياً ملجوماً، لا يتيح تعدد المراكز الانتاجية، وتنوع القوى الاجتماعية السياسية. بل وهو يخلق مركزية إدارية حادة في الخريطة الاجتماعية، بحيث يغدو الجيش هو الأداة الأساسية لها.
هذا لا يجعل كل التجار مشاركين في منافع السوق، فهناك تجار يعيشون على حركة السوق العادية، وآخرون على حركة السوق السياسية. فالعلاقات مع العصبة تؤدي لازدهار أعمالهم، فيما آخرون يخسرون نظراً لفقدانها.
وتحدد العلاقات الاجتماعية التاريخية هذه التحولات، فالسببيات الميكانيكية غير موجودة فثمة مدن لها تاريخ إنتاجي حر جزئي قوي، كما في تونس والقاهرة واليمن، وتمكنت رغم تغير الدول من البقاء، لكنها تظل على هامش الاقتصاد الاقطاعي، لا تستطيع تغييره ولا تنهار من تحولاته.
وإذ يتمكن النظامُ التقليدي من لجم حركة الرساميل وعدم جعلها تخترق بنيته وتحويله لاقتصاد حر، فهو يجمدها تاريخياً، وإنتاجياً وعلمياً، فكافة الظاهرات المصاحبة من علوم وفلسفات وتطورات إنتاجية وإقتصادية ترتبط بكيس الانفاق الحكومي.
وإذا كان ذلك يرتبط في الاقتصاد الزراعي القديم على الأرض وإنتاجها وأحجام القوى العاملة ومدى الخراج المُنتزع من حاجاتها، فإنه يعيش حالات تذبذب حسب ظروف المناخ وهروب القوى العاملة وأسعار المحاصيل، ويعيش حالات إنهيار مع تفاقم القوى السكانية وإشتداد الفقر وتكدس المال العام في جهات معينة، وهذه الظروف القديمة قد تنقل للعالم الحديث مع عدم تغير الأساس الاقتصادي الاجتماعي للدول، وإستمرارها في إقتصاد العصبة والعمران.
 يؤدي حكمُ العُصبة القبلية أو الدينية إلى إنهيار واسع في العلاقات البضاعية، فبدلاً من أن تتصاعد العلاقات السلعية نحو تكون الرساميل وتبدل قوى الانتاج يحدث العكس وتتدهور العلاقات الاقتصادية الاجتماعية بشكل شامل.
(فهو يقول- أي ابن خلدون- إن الناس ذوي المكان الاجتماعي الرفيع(الجاه) هم الأغنياء ويصبحون أغنى لأنهم قادرون على أن يحصلوا على خدمات الآخرين دون مقابل)، ابن خلدون وتاريخيته، عزيز العظمة، دار الطليعة، ص 147.
يتحول مركزُ السلطنةِ إلى أداةِ تحللٍ للعلاقات البضاعية، فرغم أنه يقومُ بنشرِ المعاملات التجارية والمالية وإفادة فئات عدةٍ لكن ذلك يتم حسب تبعيتها السياسية له، وهدرها للأموال العامة التي لا تتوجه للمشروعات كإصلاح  السدود التي تغدو حيوية لمجمل البناء الاقتصادي وقتذاك، بل تتوجه الأموال للبذخ ومظهريات السلطان وتنحرفُ تدريجياً حتى عن الأسواق العامة وفائدتها.
التناقض بين العلاقات السياسية السائدة والعلاقات البضاعية الرأسمالية لا يُلحظُ إلا بشكلٍ تاريخي مديد، وحين تتضاءل الأموالُ العامة الموجهة لقوى الانتاج الزراعية لا يعد بالامكان ظهور السلع الكمالية، ثم تتأثر السلع الاستهلاكية الشعبية.
عدم تحول أشكال الوعي إلى سلع كالكتاب والشعر والقصة والفلسفة يصيبها بالعطب كذلك، رغم مكانتها الأدبية الرفيعة. إن التكسب بالثقافة يدمرها في حين إن تنامي السوق يغذيها.
(ترتفع الأسعارُ بفضل ما يفرضه الحكامُ من ضرائب، لأن الصناع والمنتجين الزراعيين يضيفون هذه الضرائب على حساب المستهلك)، المقدمة.
مع تدهور العلاقات البضاعية التاريخي تتدهور قوى الانتاج، وهذا يحدث في العصرين الوسيط الماضي والعربي الراهن، فالانتاجُ الزراعي يُصاب بأزمات مستمرة، وتتصحر الحقول، وترتفع أسعار المواد الأولية الغذائية، فيما تكون البدائلُ الانتاجية مصانع مواد أولية تابعة للعُصبة القبلية أو الدينية أو العسكرية أو الحزبية حسب التطور التاريخي، فتغدو مستبدلةً عن قوى الانتاج الزراعية والحِرفية المتدهورة، ويصيبها ما أصاب العلاقات البضاعية في الزمن العربي الوسيط.
ينعكس التدهور التاريخي على العلاقات السياسية المهيمنة التي تتعرض للتدهور هي الأخرى، فتتشكل جماعاتٌ تخرقُ خرائطَ البلدان، والأمثلة في عصر ابن خلدون هي المدن- الدول القصيرة العمر، فيما تعبر الحركات الدينية والأنظمة الشمولية عن ذات النموذج في العصر الراهن.
التحلل السياسي يقود كذلك إلى تدهور الخدمات وإنتشار الأوبئة وتصاعد الفقر وغير هذا من الظاهرات المختلفة.
إضمحلالُ الدول لا يتم بمعارك حاسمة بل عبر تدهور تدريجي تستغله القوى الصاعدة الهامشية بتثبيت أقدامها في المناطق الضعيفة التطور فتتحلل الدول.
لم تقم الدولُ والجماعات العربية والدول الاستعمارية الحاكمة في زمن ما قبل الاستقلال بتغيير علاقات الانتاج الإقطاعية الموروثة بل غيرت بعض الجوانب في قوى الانتاج والأشكال الحادة من تلك العلاقات الانتاجية كبقايا الرق والسخرة.
إستمرار العلاقات الاقطاعية أعاد البناءات القديمة فغدت العصبةُ القرابية أو السياسية أو الدينية أو العسكرية هي التي توزع الدخول، على الفئات المقربة منها، وتتم تبعية السوق لآليات عملها، الأمر الذي يعيدُ هيمنةَ السياسي البيروقراطي المضاد لتطور التسليع ويؤدي لتوقف تطور العلاقات الرأسمالية التحولية.
رغم أن العصر الحديث عرف توسعاً كبيراً للعلاقات البضاعية، وتغلغلت أشكالها المتجددة في البُنى العربية حسب تطورها التاريخي إلا أن العلاقات ما قبل الرأسمالية حدتْ ومنعتْ تطورها نحو الاكتمال البنيوي. أي أن تقوم بالقطع مع بُنى الاقطاع الموروثة.
هذا يُرى على مدى القرن العشرين حيث ضُربت العلاقات المالية الصناعية الواعدة ثم تفاقمت الأنظمة العسكرية والدينية في عمليات تآكل ضارية للتطورات الاقتصادية الحرة، ثم توسعت الأزمة في القرن الواحد والعشرين وظهر الوقوف على مفترق الطرق العالمية وتدهور الأوضاع وعجز الحلول عن فهم البُنى وسيرورات التاريخ.
العُصبة السياسية القرابية العسكرية وغيرها تجعل الانتاج تابع للقرابة أو الهيمنة الحزبية بشكل مضاد لقوانين التطور السلعي، مما يؤدي إلى تدهور مصادر الانتاج كما لاحظنا في خراج الزراعة في العصر الوسيط وخَراج المؤسسات الصناعية والمعملية في العصر الراهن، وهذا يصيب كافة العلاقات الاقتصادية بالتدهور والأزمات والشلل.
حين بدأت الدول العربية تتململ من سيطرات القوى التقليدية الكبرى خاصة السلطنة العثمانية جاءت القوى الغربية مدعيةً الحداثة وإنتاج عصر جديد.
لم تكن لبريطانيا عَصبية أو هيمنة تقليدية في المركز لكنها في سيطرتها على بعض الدول العربية كرست تلك الهيمنة عبر التعاون معها وتصعيدها.
إنها تستنهض وتعمم القوى التقليدية، لهذا فإن علاقات الانتاج الإقطاعية سيُعاد تشكيلها مع تصعيد العلاقات البضاعية الرأسمالية في جوانب معينة.
إن التكوينين التقليدي والحديث المزيف سيُربطان في بنية إجتماعية واحدة، تخضع لتطورها التاريخي، وصراعات القوى الاجتماعية داخلها وحولها.
في العراق الذي هو مثال واضح قوي على هذه العملية المركبة المتناقضة تحول المندوب السامي لسلطة مطلقة يهيمن على ما يصدر من تشريعات ويكون المَلكية التابعة، والوزارة والمؤسسة البرلمانية الذيلية له.
لقد قيل بأن العهد الجديد يهدف للخروج من هيمنة عثمانية(إقطاعية شديدة الاستبداد والتخلف والتعصب القومي والديني والطائفي، وفي مجتمع ما يزال يرزح تحت سيادة العلاقات البدوية الأبوية والإقطاعية البالية)،(فهد والحركة الوطنية العراقية: كاظم حبيب وزهدي الداوودااي، ص26، دار الكنوز).
ليست العلاقات الإقطاعية بقايا بل هي نمط إنتاج، هي علاقات مسيسة مشكلة للبنية الاجتماعية، ولهذا حين يغدو المندوب السامي مكان الخليفة العثماني أو الوالي، فإنه يواصل إنتاج البنية في ظل ظروف مختلفة.
تباين النمط مع العلاقات البضاعية الرأسمالية هو تباين غير تناحري، فالنمطُ يهيمن على تلك العلاقات بأشكالها الجديدة ويخضعها لقوانين تطوره.
ولهذا تحدث ظاهرات متناسقة، فالجيش البريطاني يهيمن ويضعف التطور العسكري الوطني، وتغدو له إمتيازات مثل القرون الوسطى، ولهذا تغدو مفردات مثل(البرلمان) والصحافة الحديثة والأحزاب على غير مسمياتها الحقيقية، ويصير النفط كثروة حديثة مثل الخراج، فهيمنة الشركات البريطانية تزحزحُ الشركات الألمانية مثلما توقف سكة الحديد وتندفع الحكومة الأمريكية هجوماً على سيطرة الأنكليز على النفط حتى تُستبدل بالشركات الألمانية.
الفوائض النقدية النفطية تتجه للغرب وتُوسع السوق العراقية الداخلية للمنتجات البريطانية، وتُرفع فئاتُ التجار المستوردة لها، وتغدو هذه الفئات هي المالكة للصحافة والممثلة في البرلمان.
فيما تُحارب المحاولات الصناعية الحرة إلا في أثناء الحرب العالمية الثانية حين تدعو الحاجة لها، وحين يتصاعد النضال من أجل التصنيع والتحرر الوطني.
كما أن الارتباط بالمركز البريطاني والمركز الأمريكي يؤدي لجلب ظاهرات مشكلات الرأسمالية وهي في بلدانها، حيث تؤدي أزمة 1929 إلى مشكلات إقتصادية وطنية كبيرة.
وفيما تنهب شركات النفط جسم الثروة الوطنية الرئيسية وتمنع حدوث التراكم الرأسمالي الوطني الانتاجي، توسع الاستهلاك البذخي، وتصعد فئات زعماء القبائل ورجال الدين، نظراً لقيامها بهدم البنية التحديثية في مجالات العلاقات الاجتماعية وأنماط الوعي، وإضعاف أشكال الفكر والفلسفة العقلانية.
تقوم السلطة المسيطرة بإعادة العلاقات الانتاجية العامة السياسية، فتخلق الكابحَ الكلي الذي يؤدي على مدى عقود التاريخ القادمة لتحجيم حتى العلاقات الرأسمالية التي تشكلت.
وهذا الكابح يتجسد في بروز قوى العشائر والقوى الدينية وصعودها في ظل سيطرة دولة حداثية كبرى، فهذه القوى التقليدية المُعطى لها فرص الانتشار وإعادة تجديد خلاياها القديمة تتوسع في المدن وتتغلغل في المؤسسات السياسية والفكرية والاجتماعية، ثم تصعد قياداتها بعد عقود كما تتوج الأمر في السيطرة الأمريكية التالية.
إن الأشكال الوطنية والنهضوية تقاوم، فتظهر برامج حكومية لتطور الصناعات ودعمها، رغم هشاشة ما يُخصص لها من أموال على مدى عقود، وأغلبها في الصناعات الخفيفة، كما أن الحكومات التالية والجمهورية تتوسع في الصناعات لكنها لا تحدث هدماً لعلاقات الانتاج البنيوية.
هكذا عمدت العصبية البريطانية وقد لبست لبوس الشرق التقليدي في إنتاج عمران ملتبس متناقض، يزدهر أغلبه في بلدها، عبر إستنزاف المواد الخام النفطية والزراعية، بينما يموج بالتناقض والحصار في البنية الوطنية المحلية، وهي بنية مماثلة للدول العربية الأخرى حسب مستويات تطورها، ولن يحدث فيها تبدل كياني ساحق.
لهذا كله تزداد العودة للوراء لأن العلاقات البضاعية لا تصل لذروتها عبر سيادة رأس المال الصناعي مع كل نتائجها التحديثية، فتغدو المراوحة التاريخية، حتى يضعف الجسم الوطني من الضربات ويتدرج في الانهيار.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: العصبيةُ والعمرانُ
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 15, 2019 12:26
No comments have been added yet.