ينابيع عبـــــــدالله خلــــــــيفة
البحرين قارة كبيرة للإبداع والفولكلور
رصد الراوئي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في روايته الينابيع تأريخ البحرين أبتداء من القرن الثامن عشر، والتاسع عشر وأنتهاء بأيام الهاتف النقال الحالية، وجعل محمد العوّاد مدخلاً لعصر التنوير، وبداية لتأريخ التدخل الأوربي المباشر في شؤون المنطقة العربية ومنها البحرين.
ومن البديهيات المعروفة أن كل بلد في العالم بحاجة ماسة إلى ملحمة أدبية، فكرية، فلسفية، وحكائية تؤرخ تكوينه السياسي، وتكوين شرائحه الأجتماعية، ونضوجه، وتسجل ماضيه الإنساني خلال قرن أو اكثر.
وإذا لم يكن هناك ما يلبي هذه الحاجة الضرورية فالبلد سيبحث عمن يؤرخ له، ويبقى ينتظر ولادة المبدع المطلوب ونبوغه لأنجاز هذا العمل الأدبي، فالبلدان الحية بحاجة ماسة لمن يسجل ذاكرتها الإنسانية في كل مراحلها التأريخية.
فنجد في عصرنا الحديث الكثير من هذه النماذج الأدبية الكبيرة إبداعياً، التي آخت بين فن الرواية الحديثة، كما كتبها المحدثون في هذا الصنف الأدبي، والملحمة التي كتبت في اللغات الأخرى شعراً منذ قديم الزمان.
ومن النماذج العربية نقرأ ثلاثية محمد ديب في الجزائر الدار الكبيرة، الحريق، النول ، وأولاد حارتنا في مصر، لنجيب محفوظ، ومن العراق رباعية النخلة والجيران، وخمسة أصوات، والمخاض، والقربان، لغائب طعمة فرمان.
ومن السودان ثلاثية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، مريود، ضو البيت، ودومة ود حامد، وغيرها من التجارب الراوئية الرائدة في الوطن العربي والعالم.
الماء الأسود
ورواية الينابيع للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية متشعبة الموضوعات، غنية بالفلكلور البحريني والخليجي، وهي أيضاً تنهل من التأريخ السياسي للبحرين، وتقرأ أجتماعياً وأقتصادياً التحولات الديموغرافية في البلاد عبر أمتلاك الأراضي ووسائل الثروة والسلطة.
أبتداء من أمتلاك سفن البحث عن اللؤلؤ، في زمن ازدهار هذه التجارة في البحرين ودول الخليج العربي، وحتى أفولها بسبب اللؤلؤ المزيف الذي جاء من اليابان، وأنتشر في أسواق الزينة، وأفقد اللؤلؤ الحقيقي سوقه وقيمته الأولى.
وكذلك أرخت الرواية لظهور ثروة النفط والغاز في البحرين، مما مهد لتحولات سياسية وأجتماعية هامة في المجتمع البحريني.
أدت بدورها إلى تغييرات أجتماعية جذرية في بنيات المجتمع وطرائق معيشته، ونفسية غيرت سلوكه وتطلعاته نحو العالم ونظرته للتقدم العلمي، وطبيعة الحياة وتقدمها في المجتمعات الأكثر تطوراً وغنىً، ويرد في مقطع مؤثر من الرواية عن اكتشاف أول بئر نفط الذي ينعته الروائي في روايته بالماء الأسود، ويفرد له جزءاً كبيراً من السرد الروائي.
المهندسون والموظفون يعانقون بعضهم البعض، ويهتفون، وتصيح الآلات المعدنية مرسلة لغتها العجيبة عبر الفضاء، ويجمع الأوربيون كرات من المارد الأسود الممزق المتناثر على التربة، ويجرون بها نحو مكاتبهم ص199 وبأكتشاف النفط تمّد أعمدة الكهرباء لأول مرة في شوارع المنامة، ويدهش اهلها من رؤية أضواء المصابيح الكهربائية.
محمد العوّاد
وأبتداء من الجزء الأول في الرواية المعنون ب الصوت والجزء الثاني الماء الأسود يهيىء الروائي، للجزء الأخير من الرواية الفيضان ، بسرد التحولات الكبرى في حياة أهل البحرين.
وذلك من خلال شخصية محمد العوّاد، الذي يتمرد على سلطة الأب والعائلة، ويقرر أن يصبح مغنياً في عصر يعتبر أهله الغناء عاراً، ومثلبة وفي العادة لا تتشرف أي عائلة معروفة في البلاد بأنتماء المغني إليها في ذلك الزمن القبلي.
فيعيش حياته مبعداً عن كنف العائلة منبوذاً من جنتهم، باحثاً في أنغام عوده عن بحرين جديدة تتناغم مع تطلعاته الفنية، وحلمه الدائم بلقاء حبيبته ميّ، التي يحيل بينها وبينه، وضعها الطبقي الجديد بزواجها من متنفذ غني، فتحيل بينها وبينه أسوار وأسوار.
ولكن بالرغم من هذه الأسوار العالية إلا ان صوته من خلال أغنياته، التي يغنيها في الأعراس، والحفلات تصل إلى سمع هذه الحبيبة الحلم.
لقد أمتدت أحداث الرواية الملحمة إلى أمكنة عديدة كالمنامة والمحرق، وبومبى ودلهي ودمشق، وشملت أزمنة عديدة أبتداء من زمن القحط بسبب تغير نمط الأقتصاد على نحو مفاجىء في البحرين بفقدان اللؤلؤ لسوقه، وأسعاره الحقيقية.
ومجييء الميجر البريطاني بيلي وتبشيره للناس بإنهم لن يكونوا عبيداً بعد الآن ص 31إلى فترة الرخاء والعمران بأكتشاف النفط.
كائنات حقيقية
وتتضمن الرواية مشاهد أدبية وصفية قل مثيلها في الآدب الروائي العربي، ،اتسمت بالشعرية الخالصة، وقد بناها الروائي بحذق الفنان وتأني المفكر وحرفية النقاش الماهر، والشاعر الملهم مؤسساً على الصور الشعرية، وليس على الحدث الدرامي المتنامي في السرد مبانيه التخيلية، ولا أدري كم من الوقت والجهد أستغرقت كل صفحة من النثر الجيد في هذه الرواية من مبدعها ؟
كما ان تأملات أبطال الراوية العميقة والصادقة تشي بأنهم كائنات حقيقية، أخذ عنهم الكاتب كل ما تفوهوا به أو فكروا به، وما صادفهم من حوادث ومصاعب وكوارث، وقدمهم للقارىء بمشاهد ساخنة، كأنما حدثت قبل وقت قصير لا قبل مائة سنة أو أكثر.
ذلك ما نشعره على توالي الصفحات وعلى أمتداد 400 صفحة من القطع الكبير عن عشق محمد العوّاد المستحيل لميّ التي أقترنت بأحد المتنفذين، وعلاقته الموازية بأنثى أخرى، والتي كانت مجرد علاقة حسية علاقته بفيّ التي حملت منه سفاحاً.
ورفض الأقتران بها مبرراً ذلك الرفض بقوله الساخر أنا فنان أحلم أن اصعد إلى النجوم لا لأعيش بين بول الصغار ص65 بالرغم من حب فيّ له، لكنها أضطرت للزواج من النواخذة الكهل سعيد المناعي درءاً للفضيحة ص71.
العربي الكادح
أن وراء رواية الينابيع هماً وطنياً عميقاً يتلخص بسؤال الهوية، والبحث عن حلول لمعايشة التحولات الكبرى التي تمر بالعالم، وتفرض شروطها الموضوعية على أهل البلاد، وحاكميهم لمواكبة التقدم، وبناء مجتمع العدل والرفاهية والمستقبل الأفضل للأجيال القادمة. والينابيع تذكر بواقعية مكسيم غوركي الأشتراكية في روايته الأم، وروايات تورجنيف، فهي تنسج نسيجها من الطبقات الكادحة في المجتمع البحريني، فتنقل لنا حياة الصيادين وأقنان الأرض وعمال النفط المياومين والمشردين وفناني الهامش.
وتحاول الرواية من خلال ذلك بناء النموذج العربي للكادح، الذي يراوح بين مفاهيمه البرجوازية المتوسطة، والقيم الطبقية، التي أستقاها في الكثير من عاداته وتصرفاته بشكل مغلوط عن الفكر الأشتراكي العالمي.
فنرى تذبذب محمد العوّاد الفكري حين يدخل قصر معذبه، وسارق حبيبته ميّ، فيرى القصر متلألئاً بالأنوار وحشود العباءات والثياب البيض والخيول، التي ملأت الساحات وبنادق العرضة حين راح أصحابها يطلقون النار على المساء الهابط بقوة فوق الشطآن المقبوضة الروح ص 174 فنسمعه يردد في منللوج ما ينم على ندمه على ماضيه، فهو حين تأتيه الفرصة لدخول بيت أحد المتنفذين يشعر بالمهانة ويتذكر كيف كان يُجر إلى القلعة ويوضع في زنزانة مع اللصوص والقتلة، وكيف كان يهان من قبل أي شرطي جلف، لأنه غنى كلمات عن الحرية، التي سرعان ما تخلى عنها أصحابها ص183
جمعة بن العبد
أن الحكي السردي في الرواية ينفتح على عوالم تخيليية متشعبة، ويحمل في مضامينه المختلفة دعوات للتعايش بين الثقافات والديانات، ونبذ التطرف، والأستغلال الطبقي، والجهل والتخلف.
إذ بالرغم من أن الدعوة للتحديث في المجتمع البحريني الناشيء بدرت من أجانب كالميجرالبريطاني بيلي، وسكرتيره جون سميث الذي أدعى أنه عالم آثار دنماركي جاء ليبحث في آثار ديلمون وتأريخها.. ص104.
الذي يعجب بأهل البلاد وتقاليدهم، ويعتبر أن حياتهم أفضل بكثير من حياة الغربيين فيقول عنهم انهم يتصرفون ببساطة مذهلة، يجلسون على الأرض وتندفع أيديهم في الأرز يكورونه ويقذفونه في أفواههم، ويحكون القصص والأشعار طوال الليل عند الشطآن، وفي الساحات الرملية.
وتسمع أصوات مضاجعاتهم من وراء السعف الرقيق، وكل إنسان يسلم على الآخر الغريب ويصادقه في دقائق، ويدعوه إلى أكله، فيقبل الآخر دون خجل ص186 وعادات زوجته مارجريت، المدمنة على قراءة مسرحيات شكسبير ومارلو وقصص ديكنز وبلزاك وتولستوي والمهتمة بأساطير الشرق ص 185 إلا ان سرعان ما يتلقف بعض أبناء البحرين هذه الدعوة ويدعون إليها.
ومن هؤلاء جمعة بن العبد الذي يفخر بالحرية في بلاد الميجر الأجنبية ص38 والذي يتلقف دعوة المستر بيلي للتحرر من ديون المرابين والتجار الذين كانوا يستعبدون الناس بديونهم التي لا تنتهي بسبب الربا، وعدم أيفاء رحلات صيد اللؤلؤ بسداد الديون المتراكمة على الصيادين والفقراء العاملين في صيد اللؤلؤ.
يقول مستر بيلي للناس ستحصلون على كل شيء. لن تكونوا عبيداً بعد الآن. ألقوا بهذه الأوراق الحقيرة التي سجلوا فيها الزوّر والديون والقيود ص31.
البحرين قارة كبيرة
ولا يكتفي الروائي بأيراد مبادرة هذا الأنجليزي بل يسرد ممارساته الحداثية داخل مجتمع البحرين البدائي قبل اكثر من قرن، فهو يمارس فعلاً حداثياً لم يسبقه إليه أحد في البلاد حين يدخل للبلاد السيارة إلى البحرين لأول مرة، فتحدث ردة فعل عنيفة عند أغلب الناس، الذي أعتادوا على الجمل والفرس والعربة، التي تجرها الخيول، والحمير في تنقلاتهم. فيقول الروائي واصفاً تلك الدهشة وعدم تصديق الناس لما يرونه حين يدخل الميجر بيلي السيارة أول مرة إلى البلاد فيندهش الناس لرؤيا هذا الكائن المعدني الذي يسير من دون حيوانات تجره، كأنما الجان تحركه من دون أن يراها أحد ص67 ، ويسرد مسيرة مستر بيلي، الغرائبية في مجتمع أمي بدأ ينهض ببطء من كبوة التخلف والفقر وحتى نهايته المفجعة عندما اصيب بطلق ناري من مجهول فيما بعد. رواية الينابيع لـعبـــــــدالله خلــــــــيفة عمل روائي كبير رسم مسارات إنسانية لعشرات الأبطال من الناس العاديين من البحرين عاشوا حياتهم في قاع المجتمع، وآخرين في اعلى قمة المجتمع، والرواية تؤثر كثيراً في القارئ، الذي لم يعرف عن البحرين من قبل كثيراً وتجعله يفكر، ويعيد التفكير في الكثير من مسلماته السابقة عن بلاد صغيرة جغرافياً، بنفوسها القليلة نسبة للبلدان الأخرى، لكنه سيجدها في رواية الينابيع بلاداً كبيرة جداً وأكبر بكثير من قارة بأهلها وتاريخها، وحب كاتب الرواية لها.
صدرت الرواية عن دار الأنتشار العربي» بيروت ط1 عام 2012 عدد الصفحات من القطع الكبير 400 صفحة.
فيصل عبدالحسن
رصد الراوئي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في روايته الينابيع تأريخ البحرين أبتداء من القرن الثامن عشر، والتاسع عشر وأنتهاء بأيام الهاتف النقال الحالية، وجعل محمد العوّاد مدخلاً لعصر التنوير، وبداية لتأريخ التدخل الأوربي المباشر في شؤون المنطقة العربية ومنها البحرين.
ومن البديهيات المعروفة أن كل بلد في العالم بحاجة ماسة إلى ملحمة أدبية، فكرية، فلسفية، وحكائية تؤرخ تكوينه السياسي، وتكوين شرائحه الأجتماعية، ونضوجه، وتسجل ماضيه الإنساني خلال قرن أو اكثر.
وإذا لم يكن هناك ما يلبي هذه الحاجة الضرورية فالبلد سيبحث عمن يؤرخ له، ويبقى ينتظر ولادة المبدع المطلوب ونبوغه لأنجاز هذا العمل الأدبي، فالبلدان الحية بحاجة ماسة لمن يسجل ذاكرتها الإنسانية في كل مراحلها التأريخية.
فنجد في عصرنا الحديث الكثير من هذه النماذج الأدبية الكبيرة إبداعياً، التي آخت بين فن الرواية الحديثة، كما كتبها المحدثون في هذا الصنف الأدبي، والملحمة التي كتبت في اللغات الأخرى شعراً منذ قديم الزمان.
ومن النماذج العربية نقرأ ثلاثية محمد ديب في الجزائر الدار الكبيرة، الحريق، النول ، وأولاد حارتنا في مصر، لنجيب محفوظ، ومن العراق رباعية النخلة والجيران، وخمسة أصوات، والمخاض، والقربان، لغائب طعمة فرمان.
ومن السودان ثلاثية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، مريود، ضو البيت، ودومة ود حامد، وغيرها من التجارب الراوئية الرائدة في الوطن العربي والعالم.
الماء الأسود
ورواية الينابيع للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية متشعبة الموضوعات، غنية بالفلكلور البحريني والخليجي، وهي أيضاً تنهل من التأريخ السياسي للبحرين، وتقرأ أجتماعياً وأقتصادياً التحولات الديموغرافية في البلاد عبر أمتلاك الأراضي ووسائل الثروة والسلطة.
أبتداء من أمتلاك سفن البحث عن اللؤلؤ، في زمن ازدهار هذه التجارة في البحرين ودول الخليج العربي، وحتى أفولها بسبب اللؤلؤ المزيف الذي جاء من اليابان، وأنتشر في أسواق الزينة، وأفقد اللؤلؤ الحقيقي سوقه وقيمته الأولى.
وكذلك أرخت الرواية لظهور ثروة النفط والغاز في البحرين، مما مهد لتحولات سياسية وأجتماعية هامة في المجتمع البحريني.
أدت بدورها إلى تغييرات أجتماعية جذرية في بنيات المجتمع وطرائق معيشته، ونفسية غيرت سلوكه وتطلعاته نحو العالم ونظرته للتقدم العلمي، وطبيعة الحياة وتقدمها في المجتمعات الأكثر تطوراً وغنىً، ويرد في مقطع مؤثر من الرواية عن اكتشاف أول بئر نفط الذي ينعته الروائي في روايته بالماء الأسود، ويفرد له جزءاً كبيراً من السرد الروائي.
المهندسون والموظفون يعانقون بعضهم البعض، ويهتفون، وتصيح الآلات المعدنية مرسلة لغتها العجيبة عبر الفضاء، ويجمع الأوربيون كرات من المارد الأسود الممزق المتناثر على التربة، ويجرون بها نحو مكاتبهم ص199 وبأكتشاف النفط تمّد أعمدة الكهرباء لأول مرة في شوارع المنامة، ويدهش اهلها من رؤية أضواء المصابيح الكهربائية.
محمد العوّاد
وأبتداء من الجزء الأول في الرواية المعنون ب الصوت والجزء الثاني الماء الأسود يهيىء الروائي، للجزء الأخير من الرواية الفيضان ، بسرد التحولات الكبرى في حياة أهل البحرين.
وذلك من خلال شخصية محمد العوّاد، الذي يتمرد على سلطة الأب والعائلة، ويقرر أن يصبح مغنياً في عصر يعتبر أهله الغناء عاراً، ومثلبة وفي العادة لا تتشرف أي عائلة معروفة في البلاد بأنتماء المغني إليها في ذلك الزمن القبلي.
فيعيش حياته مبعداً عن كنف العائلة منبوذاً من جنتهم، باحثاً في أنغام عوده عن بحرين جديدة تتناغم مع تطلعاته الفنية، وحلمه الدائم بلقاء حبيبته ميّ، التي يحيل بينها وبينه، وضعها الطبقي الجديد بزواجها من متنفذ غني، فتحيل بينها وبينه أسوار وأسوار.
ولكن بالرغم من هذه الأسوار العالية إلا ان صوته من خلال أغنياته، التي يغنيها في الأعراس، والحفلات تصل إلى سمع هذه الحبيبة الحلم.
لقد أمتدت أحداث الرواية الملحمة إلى أمكنة عديدة كالمنامة والمحرق، وبومبى ودلهي ودمشق، وشملت أزمنة عديدة أبتداء من زمن القحط بسبب تغير نمط الأقتصاد على نحو مفاجىء في البحرين بفقدان اللؤلؤ لسوقه، وأسعاره الحقيقية.
ومجييء الميجر البريطاني بيلي وتبشيره للناس بإنهم لن يكونوا عبيداً بعد الآن ص 31إلى فترة الرخاء والعمران بأكتشاف النفط.
كائنات حقيقية
وتتضمن الرواية مشاهد أدبية وصفية قل مثيلها في الآدب الروائي العربي، ،اتسمت بالشعرية الخالصة، وقد بناها الروائي بحذق الفنان وتأني المفكر وحرفية النقاش الماهر، والشاعر الملهم مؤسساً على الصور الشعرية، وليس على الحدث الدرامي المتنامي في السرد مبانيه التخيلية، ولا أدري كم من الوقت والجهد أستغرقت كل صفحة من النثر الجيد في هذه الرواية من مبدعها ؟
كما ان تأملات أبطال الراوية العميقة والصادقة تشي بأنهم كائنات حقيقية، أخذ عنهم الكاتب كل ما تفوهوا به أو فكروا به، وما صادفهم من حوادث ومصاعب وكوارث، وقدمهم للقارىء بمشاهد ساخنة، كأنما حدثت قبل وقت قصير لا قبل مائة سنة أو أكثر.
ذلك ما نشعره على توالي الصفحات وعلى أمتداد 400 صفحة من القطع الكبير عن عشق محمد العوّاد المستحيل لميّ التي أقترنت بأحد المتنفذين، وعلاقته الموازية بأنثى أخرى، والتي كانت مجرد علاقة حسية علاقته بفيّ التي حملت منه سفاحاً.
ورفض الأقتران بها مبرراً ذلك الرفض بقوله الساخر أنا فنان أحلم أن اصعد إلى النجوم لا لأعيش بين بول الصغار ص65 بالرغم من حب فيّ له، لكنها أضطرت للزواج من النواخذة الكهل سعيد المناعي درءاً للفضيحة ص71.
العربي الكادح
أن وراء رواية الينابيع هماً وطنياً عميقاً يتلخص بسؤال الهوية، والبحث عن حلول لمعايشة التحولات الكبرى التي تمر بالعالم، وتفرض شروطها الموضوعية على أهل البلاد، وحاكميهم لمواكبة التقدم، وبناء مجتمع العدل والرفاهية والمستقبل الأفضل للأجيال القادمة. والينابيع تذكر بواقعية مكسيم غوركي الأشتراكية في روايته الأم، وروايات تورجنيف، فهي تنسج نسيجها من الطبقات الكادحة في المجتمع البحريني، فتنقل لنا حياة الصيادين وأقنان الأرض وعمال النفط المياومين والمشردين وفناني الهامش.
وتحاول الرواية من خلال ذلك بناء النموذج العربي للكادح، الذي يراوح بين مفاهيمه البرجوازية المتوسطة، والقيم الطبقية، التي أستقاها في الكثير من عاداته وتصرفاته بشكل مغلوط عن الفكر الأشتراكي العالمي.
فنرى تذبذب محمد العوّاد الفكري حين يدخل قصر معذبه، وسارق حبيبته ميّ، فيرى القصر متلألئاً بالأنوار وحشود العباءات والثياب البيض والخيول، التي ملأت الساحات وبنادق العرضة حين راح أصحابها يطلقون النار على المساء الهابط بقوة فوق الشطآن المقبوضة الروح ص 174 فنسمعه يردد في منللوج ما ينم على ندمه على ماضيه، فهو حين تأتيه الفرصة لدخول بيت أحد المتنفذين يشعر بالمهانة ويتذكر كيف كان يُجر إلى القلعة ويوضع في زنزانة مع اللصوص والقتلة، وكيف كان يهان من قبل أي شرطي جلف، لأنه غنى كلمات عن الحرية، التي سرعان ما تخلى عنها أصحابها ص183
جمعة بن العبد
أن الحكي السردي في الرواية ينفتح على عوالم تخيليية متشعبة، ويحمل في مضامينه المختلفة دعوات للتعايش بين الثقافات والديانات، ونبذ التطرف، والأستغلال الطبقي، والجهل والتخلف.
إذ بالرغم من أن الدعوة للتحديث في المجتمع البحريني الناشيء بدرت من أجانب كالميجرالبريطاني بيلي، وسكرتيره جون سميث الذي أدعى أنه عالم آثار دنماركي جاء ليبحث في آثار ديلمون وتأريخها.. ص104.
الذي يعجب بأهل البلاد وتقاليدهم، ويعتبر أن حياتهم أفضل بكثير من حياة الغربيين فيقول عنهم انهم يتصرفون ببساطة مذهلة، يجلسون على الأرض وتندفع أيديهم في الأرز يكورونه ويقذفونه في أفواههم، ويحكون القصص والأشعار طوال الليل عند الشطآن، وفي الساحات الرملية.
وتسمع أصوات مضاجعاتهم من وراء السعف الرقيق، وكل إنسان يسلم على الآخر الغريب ويصادقه في دقائق، ويدعوه إلى أكله، فيقبل الآخر دون خجل ص186 وعادات زوجته مارجريت، المدمنة على قراءة مسرحيات شكسبير ومارلو وقصص ديكنز وبلزاك وتولستوي والمهتمة بأساطير الشرق ص 185 إلا ان سرعان ما يتلقف بعض أبناء البحرين هذه الدعوة ويدعون إليها.
ومن هؤلاء جمعة بن العبد الذي يفخر بالحرية في بلاد الميجر الأجنبية ص38 والذي يتلقف دعوة المستر بيلي للتحرر من ديون المرابين والتجار الذين كانوا يستعبدون الناس بديونهم التي لا تنتهي بسبب الربا، وعدم أيفاء رحلات صيد اللؤلؤ بسداد الديون المتراكمة على الصيادين والفقراء العاملين في صيد اللؤلؤ.
يقول مستر بيلي للناس ستحصلون على كل شيء. لن تكونوا عبيداً بعد الآن. ألقوا بهذه الأوراق الحقيرة التي سجلوا فيها الزوّر والديون والقيود ص31.
البحرين قارة كبيرة
ولا يكتفي الروائي بأيراد مبادرة هذا الأنجليزي بل يسرد ممارساته الحداثية داخل مجتمع البحرين البدائي قبل اكثر من قرن، فهو يمارس فعلاً حداثياً لم يسبقه إليه أحد في البلاد حين يدخل للبلاد السيارة إلى البحرين لأول مرة، فتحدث ردة فعل عنيفة عند أغلب الناس، الذي أعتادوا على الجمل والفرس والعربة، التي تجرها الخيول، والحمير في تنقلاتهم. فيقول الروائي واصفاً تلك الدهشة وعدم تصديق الناس لما يرونه حين يدخل الميجر بيلي السيارة أول مرة إلى البلاد فيندهش الناس لرؤيا هذا الكائن المعدني الذي يسير من دون حيوانات تجره، كأنما الجان تحركه من دون أن يراها أحد ص67 ، ويسرد مسيرة مستر بيلي، الغرائبية في مجتمع أمي بدأ ينهض ببطء من كبوة التخلف والفقر وحتى نهايته المفجعة عندما اصيب بطلق ناري من مجهول فيما بعد. رواية الينابيع لـعبـــــــدالله خلــــــــيفة عمل روائي كبير رسم مسارات إنسانية لعشرات الأبطال من الناس العاديين من البحرين عاشوا حياتهم في قاع المجتمع، وآخرين في اعلى قمة المجتمع، والرواية تؤثر كثيراً في القارئ، الذي لم يعرف عن البحرين من قبل كثيراً وتجعله يفكر، ويعيد التفكير في الكثير من مسلماته السابقة عن بلاد صغيرة جغرافياً، بنفوسها القليلة نسبة للبلدان الأخرى، لكنه سيجدها في رواية الينابيع بلاداً كبيرة جداً وأكبر بكثير من قارة بأهلها وتاريخها، وحب كاتب الرواية لها.
صدرت الرواية عن دار الأنتشار العربي» بيروت ط1 عام 2012 عدد الصفحات من القطع الكبير 400 صفحة.
فيصل عبدالحسن
[image error]
Published on September 10, 2019 11:50
No comments have been added yet.


