1⇦ بلزاك: الروايةُ والثورةُ
أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac 20 مايو 1799 - 18 أغسطس 1850. روائي فرنسي، يُعتبر مع فلوبير، مؤسِّسَي الواقعية في الأدب الأوروبي. إنتاجهُ الغزير من الروايات والقصص، يُسمى في مجموعه الكوميديا الإنسانية La Comédie humaine كان بمثابة بانوراما للمجتمع الفرنسي في فترة عودةِ المَلكية (1815-1830) ومَلكية يوليو (1830-1848).
وكان أونوريه دي بلزاك من رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر في الفترة التي اعقبت سقوط نابليون وكان روائياً وكاتباً مسرحياً وناقداً أدبياً وناقداً فنياً أيضاً كما اشتهر بكونه كاتباً صحفياً وطابعةً وقد ترك بصمةً كبيرة في الأدب الفرنسي برواياته التي تتعدى الـ91 رواية وقصص قصيرة (137 قصة) نُشرت ما بين 1829 إلى 1852 وقد وُلد في 20 مايو 1799، وتُوفي في باريس 18 أغسطس 1850.
وقَيل إنه كان من مدمني العمل الأدبي مما أثر على وضعه الصحي (توفي في سن مبكرة عن عمر ناهز الـ51 عاماً)، (وكان في حياته يعاني من الديون التي أثقلت كاهله بسبب الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر التي غامر بالقيام بها، وقضى عمره فاراً من دائنيه مختفياً ومتقمصاً أسماء وهمية وفي منازل مختلفة، وعاش بلزاك مع العديد من النساء قبل أن يتزوج في 1850 الكونتيسة «هانسكا» التي ظل يتودد إليها أكثر من سبعة عشر عاماً)، موسوعة لوكيبيديا.
لقد حظي بلزاك بتقدير المفكرين التقدميين ولهذا كان كارل ماركس يتصور أن بلزاك قدم تحليلاً واسعاً نقدياً عن النظام الرأسمالي في فرنسا، ولكنه كان مرتبكاً من الناحية الفكرية حيث اعتبر أن النموذج الملكي الرأسمالي البريطاني هو الأفضل لفرنسا لو طُبق، واعتبر ذلك رؤيةً خيالية من جانبه لكون النماذج الاجتماعية تظهر من خلال نضال الشعب ولا تُستورد.
ويقول جورج لوكاش عن بلزاك: (لقد بيَّن أنجلس أن بلزاك، رغم أنه مَلكي سياسيا، توصل في أعماله تحديداً إلى فضح فرنسا الإقطاعية، والملَكية، وإلى توضيح بطريقة قوية وممتازة، كيف أن النظامَ الإقطاعي كان محكوماً بالموت)، بلزاك والواقعية الفرنسية، دار الناشرين المتحدين، ص18 .
(لا أحدَ مثل بلزاك أحسَّ بعمق الآلام اللاحقة بكل طبقات الشعب من جراء الانتقال إلى الانتاج الرأسمالي والانهيار الروحي والأخلاقي العميق الذي كان ضرورياً في تطور كل طبقات الشعب..)، السابق، ص22 .
لم يكن بلزاك متناقضاً مع نفسه، لأنه هو ذاته تجسيدٌ للتناقض. المحللون التقدميون لم يكتشفوا شخصية بلزاك ذاته كبرجوازي صغير، فهذا الكائنُ الاجتماعي الإنساني عبّر عن التناقضات الاجتماعية من داخل رؤيته المتناقضة كعضو في فئةٍ مترجرجة.
فهو كاتبُ يبيعُ بضاعتَه الورقية ويطمحُ إلى الغنى، وهو تاجرٌ صغير ومساهم ومضاربٌ يسعى للارتفاع إلى طبقة البرجوازية بسرعة شديدة، لكنه مَدين ومفلس ويخاف السقوط في طبقة العمال والمعدمين، وهو عاشق موله يحب ارستقراطية ثرية ترثُ الكثيرَ ولكنه يموت دون أن يطال شيئاً من ثروتها.
بين هذا وذاك عاش، وذبذبتُهُ الاجتماعيةُ السياسية تؤرجحُهُ هنا وهناك، تغدو تأييداً لنضال الجمهوريين الشجعان وبقاءً على الولاء للملَكية، تصيرُ رغبةً شديدة في الثراء والوصول إلى الرأسمالية وتكتب كذلك تصويراً لاذعاً للرأسمالية. هو كاثوليكي مَلكي ويعري الكاثوليكيين المَلكيين. هو خيالي شديد الخيالية حيناً وهو دارسٌ مختبري مدقق حيناً آخر. هو واقعي وهو رومانسي.
هذه الكتلةُ الحساسة المبدعة التي ظهرتْ من بين فئات البرجوازية الصغيرة رأت الثورةَ التي قادتها فئات البرجوازية الصغيرة، بخلاف المتصور أنها الطبقةُ البرجوازية، فقد مهدتْ لها وعبّدت الطريق أمامها بعد عقود تلك الفئاتُ المترجرجة، وخلقتْ من زمن الثورة اضطرابات واسعة وتحولات شاسعة، فعبرَ بلزاك عن الاضطراب وعن لحظات التقدم المتوارية في الأشياء والعلاقات، وطمحَ إلى الاستقرار السياسي ورفضَ حكمَ الثورة ولكنه أحسَّ بالثورة التي ستتفجر لاحقاً. كره الثورةَ وعبدَ نموذجها العسكري الذي صعدَ على أكتافها وغيرَها وسحقَها: نابليون بونابرت.
علينا أن نقرأ بشكلٍ واسع كيفيةَ تجسد هذا التناقض روايةً، وسياسةً، وخاصة عبر التكوينات الإبداعية التي تعكس هذه الرؤية المتضادة ونرى أن نموذجَها الشخصي المستمر والواسع هو البرجوازي الصغير، هو نموذجها الخلاق المأزوم.
تتحكمُ فيه البُنى الاجتماعيةُ المتحولة، ويضع قدماً في اليسار ويضع قدماً في اليمين، يضعُ قدماً في العمال والفلاحين وأخرى في الأغنياء والمترفين!
يضعُ يداً في العلم ويتناول أدوات الباحثين ويضعُ يداً أخرى في الفن والتحليق في الخيال.
بلزاك يعطينا مفاتيح ليس لفهم الثورة الفرنسية بل كذلك الثورات التالية في القرن العشرين التي صنعتها نفسُ الفئاتِ الصغيرة المتناقضة، وبالتالي يحتاجُ الأمرُ إلى تحليل مطول وهنا بعضٌ منه.
في الروايةِ الأولى التي نشرَها باسمه سنة 1827 والمسماة الناعقون أو الثوار الملَكيون في ترجمات مختلفة، يقدمُ بلزاك بنيةً حدثية شخوصية متسارعة متداخلة، يغلبُ عليها السردُ الخارجي التصويري المتصاعد، في دراما حدثية قتالية عاطفية متواشجة.
ليست فيها عتبةٌ تصويرية تمهيدية بل تتوجه مباشرة نحو البؤرة الروائية، حيث هي منذ البداية في قلب الحدث الروائي المركزي.
المنطقة الريفية من بريتانيا المقاطعة الفرنسية القريبة من بريطانيا التي تغدو بؤرة الثورة المضادة ضد الجمهورية، تُصورُ عبر طبيعتها الجبلية الزراعية الخلابة، وعبر الصراعات المشوقة العنيفة.
البؤرة الشخوصية تتمحور حول قصة عاطفية في نسيج المعركة بين المَلكيين والجمهوريين، أثناء الفترة الأولى المبكرة لحكم نابليون، وتغدو الفتاة الارستقراطية (دو فرنوي) هي هذه البؤرة.
السرد الظاهري الحدثي المتتابع يسجل صدامات المَلكيين الريفيين المنتشرين بإتساع في منطقتهم الريفية المُهّاجمة من قبل الجمهوريين، وتلك الفتاة البؤرة الشخوصية تظهر وتمسك خيوط الحدث وإمتداداته المختلفة.
الفتاة هي رمزية الثورة، والمرحلة، وعقدة التناقضات المركبة، فهي وُجهتْ لاختطاف أو قتل قائد الثوار المَلكيين، وهي ابنة غير شرعية لأحد الدوقات الذي لم يعترف بها سوى أخيراً وهو يحتضر، وحصلت على ثروة وتعهد بها محتالٌ غني كبير، وخاصمها الأخ في المحاكم ليلغي الاعتراف بها.
وأقامت علاقة مع الشخصية الثورية الكبيرة دانتون الذي قُتل في صراعات الثوار الجمهوريين، وظلت بعض عواطفها ملكية، ووجهت من قبل السلطة الخفية للثورة لكي تقتل زعيم (الناعقين)، المتمردين المَلكيين، لكنها تقعُ في غرامه.
الأحداث الدرامية الميلودرامية ذات الخيوط المتشعبة لمختلف الشخصيات من شخصيات الناعقين المؤثرين ممثلي الريفيين المتدينين الرجعيين الدمويين اللصوص، إلى زعيمهم الشاب الارستقراطي الشجاع الرومانسي الواقع في الحب، الذي يخلط الهجمات العسكرية الضارية بالجري وراء فتاته، إلى الضابط الجمهوري العجوز الشجاع الشهم الذي يقود المعركة، ومعه ضباط شباب مفعمين بالشجاعة والتضحية والرومانسية والأعجاب بالجميلة (دو فرنوي).
هناك الخلفية الريفية، جسدُ المكان، مركزُ الفعل والحدث، المكانُ الذي يعبرُ عن شخصية الريفيين، حيث الأراضي المسيجة الأشبه بالقلاع، التي حازها الفلاحون في الزمان غير المروي، والتي تعجز القوةُ الجمهورية العسكرية من السيطرة عليها.
عملية التداخل بين القوتين المتحاربتين تنعكس على مختلف جوانب الرواية، خاصة في بؤرتها الشخوصية، حيث الفتاة المزودجة الأنتماء، الجمهورية القادمة من باريس لكن عمقها الداخلي عاطفي شفاف لا يتغلغل بمُثُل الثورة، بل بمهمة عملية، بوليسية، مخفقة، بسبب عدم تغلغلها في الذات، غير الثورية.
ومُثُل الثورة غير مصوَّرة، وغير مجسَّدة في علاقات بل في شظايا من شخوص الضباط الجمهوريين، مُثُلُ الثورة تغدو هي حماية الوطن الفرنسي من الأجانب الأنكليز وغيرهم.
المُثُلُ القوميةُ تتغلغل ذائبةً في خلفيات الشخوص والأحداث، فلدى الفتاة هي إنتماء للجميع، وهي إضطرابٌ بين المَلكيين والجمهوريين، بين الارستقراطية والبرجوازية، بين الشعب والأعداء.
المعسكران الجمهوري والمَلكي مرسومان بموضوعية، السارد المسيطر على رسم الخطوط الخارجية والداخلية، هو نفسه المؤلف المطلع على كل شيء الذي درس المنطقة وجغرافيتها وأحداثها، وقطعَ منها بنيةً روائية مغامراتية ذات مشاهد حيوية، ليس فيها غوص عميق في ذوات الشخوص، وجذورهم الروحية والنفسية والاجتماعية، لكن فيها تحديدات عامة للمعسكرين، بل وصف للمرئي الحدثي، الراكض، المتداخل، المتوجه للمستقبل، الراجع مرة واحدة للماضي الموسع في حياة الفتاة (دو فرنوي)، ولهذا فإن المرئي المتناقض بين المعسكرين يظل في الحدث، لا في المنولوج، في الديالوج السريع، وفي الوصف للمشاهد، ولمواقع النزاع بين أشكال الطبيعة، فيحدث التداخلُ بين المعارك والجغرافيا الريفية، فتبرزُ الإيديولوجيا الجمهورية في السخرية من شعارات المسيحية وعباداتها، وتبرز بإتساع الإيديولوجيا الدينية حيث الكاثوليكية المتداخلة بالصراع السياسي العسكري الدموي والمدافعة عن الكهنوت المنهار.
ولهذا فإن التصوير المباشر يسلط الأضواء على مشهدية الخندقين الاجتماعيين المتصارعين كما هما مرئيان في اللحظة اليومية.
لهذا فإن الراوي لصيق المؤرخ هنا، ويبدأ بالقول:
(لكن لا بد للمؤرخ إن شاء أن يكون واقعياً تصويرياً أن يذكر أن المنطقة عادت ذات يوم ضاحكة الأسارير لينة الملامح بعد أن أعلن الجنرال (هوش) الصلح ووقع ميثاقه).
يغدو السارد مؤرخاً واقعياً مصوراً، محايداً بين الفريقين. لكنه حيادٌ مصّورٌ من قبل الطبقة السائدة المنقسمة هنا، جمهورياً وملكياً، الطبقة المنقسمة بين الارستقراطيين والبرجوازيين، في لحظتهم المرئية المسجلة هنا، لحظة الجمهوريين، الذين يحطمون الأغلال الكبيرة للإقطاع.
السارد الراوي الذي يستعيد اللحظة الصراعية التاريخية يسجلُ دقائقها، يعرض شخوصاً متعددة متضادة، في بياناتها الخارجية والسلوكية.
المعسكران، والطبقتان الارستقراطية و(البرجوازية)، تضادهما مباشر، إيديولوجي سطحي، يتمظهر عبر الانقسام الحاد بين الدين التقليدي، حيث المنطقة التي تقسمُ كلَ لحظة بـ(قديسة أوراي) وبين نفي الدين وإلغائه عبر الشعارات العسكرية. هو صراعٌ يمتظهر ضد ما هو فج ورجعي من الإقطاع، وعبرَ ما هو سطحي وفج من البرجوازية الصغيرة.
الواقعية الرومانسية تتداخل عبر الالتزام بمشهدية الصراع الاجتماعي المباشر وحركات لقطاته الموضوعية، وبوجودِ قصة الحب بين الآنسة دو فرنوي والمركيز دو مونتوران التي تنمو بالحيل المليودرامية عبر التلاقي في عربةٍ وبالحب من أول نظرة، والحب المتغلب على عقبات الصراع الاجتماعي والشهيد في خاتمة المطاف.
الواقعية تصفُ كل ما هو فظ وعنيف في الناعقين الريفيين الأجلاف، وحركة عربة النقل معبرة عن مستوى الأدوات المجسدة للتطور الاجتماعي كما يقول بلزاك نفسه كراو مباشر، ومشاهد الواقع اليومي من أدواتٍ وأبنية وملابس وصراع على الأشياء وتركات المقتولين.
وهي رومانسيةٌ في وصفها لنمو الحب والطبيعة الجميلة منشدة للرواية التسجيلية المشوقة.
مستوى الصراع الاجتماعي الافتتاحي المبكر الملحمي بين المَلكية والجمهورية، بين الارستقراطية والبرجوازية، ينعكس في البنية السردية المباشرة الدرامية الصراعية، الموضوعية، حيث الراوي الذي يصور الفريقين بكل ما يمتلك كل فريق من مزاياه الحقيقية، وهو في ذاته المعبر عن الكل، عن جموع الفرنسيين في مسيرتهم القومية، عن الارستقراطية وهي تتبرجز، وعن الثورة كأداةٍ للقومية، عن مزاياها الشجاعة والمضحية، عن نقد حثالة الإقطاع المتجسدة في الناعقين الدمويين لصوص الصراع السياسي.
الراوي بلزاك يقف محايداً فوق الصراعات الجزئية المتلاشية في دراما التاريخ، ممسكاً خيطَ الطبقة المسيطرة المتحولة، عارضاً تكونها التاريخي المعقد، حيث تقوم الثورةُ وإمتداداتُها التاريخية بإعادةِ نسج المجتمع، المرئي من قبل الطبقة السائدة، المتحولة، الذي يغدو بلزاك هو عينُها، المحدقةُ فيها، المبتعدة عن سلبياتها ومخلفاتها، والمبتعدة كذلك عن الطبقات العاملة، المرئية في الظلال والخلفية الاجتماعية التاريخية كأدوات لها، كضباط وجنود وفلاحين وتجار يمهدون التربة لنظامها.
لقد هُزمت الثورةُ الفرنسية بعد تقلبات حكم الجمهوريين المتصارعين وهم اليعاقبة والجيرونديين، أي فئتا البرجوازية الصغيرة اليسارية واليمينية، حيث لم تصعدْ بعدْ البرجوازية الكبيرة التي تحتاج لوقت من أجل التراكم الصناعي الواسع، فيأتي نابليون ويُجري تحولات ولكن حروبه تقود للهزيمة وعودة المَلكية. هنا يبدأ عهدٌ جديد للرأسمالية التي تتغلغلُ في المجتمع وهي مهزومةٌ سياسياً ومنتصرةٌ إقتصادياً، وبلزاك يعرضُ هذه التحولات في العمق.
أدواتُ تحليلِ بلزاك الروائية والفكرية متضافرة، فهو يصورُ مشهديات دقيقة، منسوجة مع الشخصيات والأحداث والأمكنة ذات الدور التوظيفي.
ومن مواد حياته الخاصة، ومن عذاب أخته مع زوجها وموتها الفاجع، ومن دخوله في السوق وفشله التجاري فيه، فيجسدُ اللغةَ الاقتصاديةَ البضاعية ودور رأس المال الجدلي، البنائي من جهة والاستغلالي من جهة أخرى، عبر جزئياتٍ وبُنى مشهدية صغيرة لا تتوجه للسيرورة الكلية للمجتمع الرأسمالي، بل لقطاعاتٍ فيه مقطوعة عن سياقه العام، فبلزاك لا يعمم بل يصف ويحلل جزئياً.
بلزاك ليس صاحب رؤية نقدية فكرية مدروسة بل لديه تحليلات ووجهة نظر حصل عليها عبر التجربة في أثناء تجارته الفاشلة. لقد خبر بقوة البضاعة والمال وكل الورق المجسد للعلاقات السلعية وأثمانها.
في البدء يغدو مشهده الروائي الافتتاحي لوحاتٍ للمكان، حيث يقوم بالدخول ووصف البيت الخاص منتزعاً سماته الأكثر وضوحاً وعمقاً، وهي التي تعكس حياة شخوصه. فالعتمة والتهالك والانغلاق كلها سمات تعكس صاحب هذا البيت الثري صاحب الكروم، البخيل، القروي.
في روايته (أوجيني غرانده) يجثمُّ عند موقع المنزل كمهندس أثري فنان: إلى جانب البيت المتداعي المرضوم الجدران حيث خلّدَ الحِرفيُّ زخارفَ أدواته، يرتفعُ قصرُ أحدِ النبلاء، حيث ما تزال تُرى على القوس الحجرية لبابهِ بعض معالم شعاراته التي حطمتها الثوراتُ المختلفةُ التي هزّت البلادَ من العام 1890) أوجيني غرانده، وزارة الثقافة السورية، ص8.
وهو يقفُ مطولاً عند المنزلِ والريف وصاحبِ البيتِ البرجوازي منتجِ النبيذ، موضحاً علاقته بالثورة وكيف صعدَ معها وإستفاد منها، لكنه في زمنِ عودةِ المَلَكيةِ وهزيمةِ الثورة تجمدتْ مكانةُ صاحب الكروم السياسية فانطلق في جمع الثرواتِ بكل طريقة وعبر تقتيرٍ شديد على أهله، ويبدو ذلك في وصف المنزل التمهيدي.
يتتبع بلزاك هذا النمو السردي ويتدخلُ فيه على شكلِ راوٍ مهيمن عارفٍ بكل شيء عن شخوصه وعالمهم، وهو يصّعدُ بناءَهُ الفني عبر متابعة الشخوص التي تظهر تدريجياً على مسرح الحدث المتصاعد، فصانعُ البراميل النبيذيةِ السابق جزءٌ من مشهد الريف الفرنسي حيث يرتعدُ الكرّامون من مخاطر صباحات ممطرة، لكن (الصراع مستمر بين السماء والمصالح الأرضية).
وفيما كان الكّرامُ يخسرُ سياسياً كان يحصدُ مواريث كبيرة، وتعيش ابنته وزوجته في ضنك شديد، أما الخادمة (فحكمَ عليها من واقع خبرته كبراميلي على مدى قوتها الجسمية، وضمنَ الاستفادة المرجوة من مخلوقةٍ أنثى كأنها فُصلتْ على نموذج هرقل).
تنامتْ تفاصيلُ العلاقات التي تكشفُ هذا البرجوازي في مرحلة التراكم وكيف تكونُ الوجباتُ شحيحةً، والملابس قديمة، والأهل في مَعزلٍ عن الحفلات والصرف، فيما يتكدسُّ الذهبُ في الغرفة الخلفية السرية المعزولة عن الغرف الأخرى.
ويجري هجومُ العائلات الريفية على خطف الفتاة ابنته والرغبة في الزواج بها والاستيلاء على كل الثروة المخبأة، لكن البراميلي كرانده يبحثُ لها عن عريس صاحب ملايين، مستثمراً دوافع هذه العلائلات.
المؤلف الراوي بلزاك هو كاتب بحث كذلك، فالروايةُ لديه ليست قصةً عادية، بل هي بحثٌ تشريحي تجسيدي، ومن هنا يعنونُ الروايةَ بـ(دراسة طبائع)، و(مشاهد من حياة المقاطعات)، ومشاهد المقاطعات مخصصة للريف، أي للرأسمالية الريفية المتخلفة في وعيها وعاداتها ولكنها شديدة الحرص على الذهب، وبؤرةُ هذه الأبحاثِ السردية هي شخوصٌ تجاريةٌ في ميدان أعمالها وإنتاجها، فتأتي مشاهدٌ وصفية للمكان، تكّونُ الأرضَ الموضوعية الجغرافية، ثم تتصاعدُ عمليةُ التحليلِ نحو المهن الرأسمالية، وذلك عبرَ دقائق الحياة الاقتصادية، فيرينا الساردُ المباشرُ هنا كيف يكّونُ الكرامُ كرانده ثروتَه عبر حركة الأحداث، من حساباتٍ دقيقة لانتاجِ الكروم وتصريفه، وإستغلال كل مادة في الربح: (كما اتفق السيدُ غرانده مع السباخين من مستأجري أرضه أن يؤمنوا لبيته البقول، بينما يجني من بستانه كميات وافرة من الفاكهة تكفيه ويبيع قسماً كبيراً، وكان حطب تدفئته يقطع من أسيجته...)، ص17. وهكذا فإنه يستغلُ كلَ مادة حوله. لكن هذه جوانب صغيرة غير العمليات المالية الكبيرة.
هذا التحليلُ المادي للعيش لا ينفصلُ عن تطويرِ الحبكة الروائية، فهي ليست عروضاً تقريرية، بل دراسة سردية، فواقع البيت الثري في كنوزهِ المتوارية يصطدمُ بحركةِ الحياة العنيفة، فالابنةُ الجميلة التي تعيشُ العزلةَ وشظف الحياة، ترى فجأةً شارل ابنَ عمها الجميلَ القادمَ من باريس الأناقة والرهافة والمذهولَ الفزعَ من حياةِ الريف وخنِ عمهِ الكئيب العتيق، والمستغربَ من إرسال أبيه له إلى هذا المكان. لكن خيوطَ إنزالهِ التي تمت بمغزلِ الروائي أدت إلى صدماتٍ عنيفة فأبوه أرسله بعد أن أفلسَ وقررَ الانتحار ونفذَهُ ووقبل ذلك أعطاهُ رسالةً للعم من أجل أن يعتني بشارل في هذه المحنة!
حبكةٌ مُصاغةٌ بحيل، لكن التناقضَ في بيتِ الكرام يتفجر، والابنةُ المعزولةُ عن الحياة تحبُ ابنَ عمها وتساعده وتصيبُ أباها بشلل نظراً لمطالبها المادية المروِّعة التي تضربُ الاكتنازَ الرأسمالي الطويل!
حبكةٌ ظلت هنا في النماذج الفردية المعزولة المتخلفة عن الحياة الاجتماعية الثورية في العاصمة باريس، ولكن الرومانسيةُ دخلت من النافذة الواقعية وقام المؤلف بخلق علاقة غرامية غريبة، ومع هذا فالدراسة والحبكة تقدمان خليةً من المجتمع الرأسمالي الفرنسي في حقبةِ المَلكيةِ العائدة التي ستكون في أكثر زمنه، مما يدعو الروائي للتدخل عامة وشرح رؤيته الناقدة للشح والتبذير وكل ما يعيق الفرح كذلك من أجل (رأسمالية أخلاقية).
وهذا التركيز على الشخصية المحورية وعلى صفات معينة فيها وربطها بتطور الاقتصاد سيكون هو طريقه الإبداعي الواسع الرئيسي الحافل بالنماذج والتجارب.
البرجوازي الصغير يصعد عبر تراكم رأس المال الذي يعضُّ عليه بأسنانه ولكنه يعود مرة أخرى لجحيمه بتحطم رأس المال!
كانت عودةُ المَلكية سنة 1815 وزوال عهد الجمهورية قد أرجعَ الارستقراطية الحاكمة السابقة، وأخذ هذا التناقضُ يشدُّ رؤيةَ بلزاك كأكثر التناقضات حدة. فزمنُ المُثُل الثورية والتضحيات زال، وغدا الناس يتهافتون على المال والبضائع.
هذه هي المرحلة الثانية التي تشكلت فيها ملحمتهُ (الكوميديا الانسانية) ذروة إنتاجه الروائي، والتي لم ينقطع فيها عن عرض النماذج البشرية وهي تُشوى بين حقبتين في نادر الأعمال، وتشوى في المرحلة المَلكية العائدة بشكلٍ رئيسي.
في قصته (مرقص سو)يتابعُ التضادَ الذي إنشغلَّ به بين المال والعواطف البشرية، ويكشفُ سيطرةَ مُثـُل النبالة المتهاوية في الواقع، فهذه المُثُل المتعارضة مع تصاعد الطبقة البرجوازية ما زالت تؤثر على بعض القطاعات الاجتماعية:
(فمرقص سو ليس فقط المكان الذي صادفت فيه أميلي دي فونتين لونغفيل لأول مرة، إنما هو خاصةً مكان لقاء رمز بين الماضي والمستقبل، بين الارستقراطية والشعب)مرقص سو، وزارة الثقافة السورية، دراسة حول القصة والمؤلف، ص71.
المرقصُ مكانٌ ريفي يسمحُ بإلتقاء طبقات عديدة، وأميلي دي فونتين هي فتاةٌ من العامة، من البرجوازية الصغيرة المتذبذبة جسم بلزاك الأدبي، حيث تتردد بين واقعها وطموحها، فهي تريد أن تقفز دفعة واحدة إلى الارستقراطية وتتزوج أحد النبلاء العائدين للحكم، وهي ترفض رفضاً قاطعاً أي شاب من عامة الشعب حتى لو أثرى وتحول لبائع كبير!
وكعادتهِ فإن بلزاك يُضّفر بين البنية الاجتماعية والحدث القصصي، فدائماً لديه زمن الثورة، وزمن عودة المَلكية، وقد تبدلت أحوالُ النماذج بسبب هاتين الفترتين، فزمنُ القصة هو زمن عودة المَلكية وزمن لويس الثامن عشر الذي رأى أهميةَ تجديد المَلكية وتحديثها، لكن والد الفتاة أميلي هو شخصيةٌ محافظةٌ عاشتْ في زمن المَلكية السابقة وتدهورتْ مع مجيءِ الثورة، وخسرَ الكثيرَ من ماله، وراح مع عودة المَلكية يستعيدُ شيئاً من المجد الماضي ولم يؤيد الملكُ على هذا التحديث في البدء، لكن مع المزايا التقاعدية المتدفقة عليه غيّرَ آراءه.
الابنةُ الارستقراطية المغرورة لم تُصور وهي تنشأ في هذا العالم، بل ظهرتْ أخلاقُها مكتملةً مضادة لتدهور أحوال العائلة، وكأنها إحتفظت في ذاتها بالنبالة وأرادت زوجاً يجمعُ كلَ خصائصها من الألقاب والشارات والأطيان.
لكن عالم المَلكية العائدةَ بدأ يتبرجز، والكثيرُ من المُلاك تدهورتْ أحوالُهم وتوجه بعضُهم للتجارة وإنشاء المصانع، لكن الثقافة الارستقراطية ومثُلَها لم تزل منتشرةً خاصة في الجماعات التي تحيطُ بالمَلكية، وتصيرُ الفتاةُ المحورية أميلي تجسيداً لهذا التضاد بين المثل المتدهورة وحقائق الحياة الجديدة.
فهي ترى شاباً وسيماً تنطبق عليه كل صفات (النبيل)، وتنشأ حركةٌ حدثيةٌ بينهما، تؤدي للتعارف المبهم وعدم إنكشاف الأصول الأسرية والطبقية. لكن الفتاة مصرة بأنه نبيل وأنه صاحبُ ثروةٍ قادمة من نبالة مؤكدة.
وتغيرت أحوالُ الفتاة تغيراً كبيراً وغدت متفائلة لا تسخر من الناس ولا تجرحهم كما تفعل عادة، ويحاول أبوها أن يخفف من طبعها المتعالي وأن يجعلها واقعية تتماشى مع إنتصار البرجوازية ومثُلِها، لا أن تحرنَ عند أطلال النبالة، لكنها ترفض ذلك وتؤكد أن حبيبها هو نبيل حقيقي.
وفي موقفٍ مفاجئ وهي في السوق ترى حبيبَها في متجرٍ ويمسكُ قماشاً ويبيعهُ فتُصاب بصدمة عاطفية شديدة!
فقامتْ بقطع علاقتها به بشكل نهائي، وارتمت في أحضان كهلٍ نبيل يملكُ ثروةً ولكنه بعمر أبيها وأكثر وعاشَ مجدَ المَلكية السابقة وكان يسخرُ منها!
كان هدف حياتها أن تلتصق بنبيل وترتعش بين جنبات شعاراته وخيوله وأملاكه، وتحقق هدفها والنبيل يلفظ أنفاسه.
في حين كان حبيبها الشاب هو من نبالة حقيقية مضحية، فقد ساعدَ أخاه وحصل على لقب النبل وتدفقت ثروته.
في وعي الكاتب بلزاك إهتمام رفيع بالأخلاق وكشف تناقضها مع التطرف المالي أو الطبقي، كشخصية من صغار البرجوازيين، المتحضرين، المواصلين تصعيد الرأسمالية التحديثية، وهو يرى أن قيم المالِ والبضاعة تنتشر وتكتسحُ المبادئَ (النبيلة)، وهو صاحبُ موقف نقدي إجتماعي مَلكي بونابرتي كما سنرى لاحقاً، فيمثل تشكيلة فكرية متناقضة، لكنه يقدمُ المشاهدَ ومواد الحياة التي تتفجر فيها تناقضات الطبقتين النبيلة والبرجوازية في هذه الحقبة. ومن هنا فهو يعرض الصراعات الاجتماعية المختلفة خاصة بين القطبين السائدين اللذين يمثلان الطبقة الحاكمة المشتركة في زمن عودة المَلكية بعد هزيمة نابليون، أما الطبقات الشعبية المكافحة فهي تأتي في الخلفية وكمواد خام مستغلة فلم تكن قد ترسخت في الحياة الاجتماعية في ذلك الحين. إن حضور الطبقة العاملة ومثلها المختلفة لم تظهر على المسرح البلزاكي.
وفي قصته الأخرى في نفس المجلد المسماة (المحفظة) هي عن نبيلين، أحدهما لا يزال بثروته، والآخر هو امرأةٌ كهلة إفتقرتْ وتعيشُ في شقةٍ بائسة مع ابنتها، ويأتي ذلك النبيلُ ليلعبَ معها الورق، ونظراً لعطفه عليها ورغبته في مساعدتها وعدم جرحها يفتعلُ الخسارةَ المستمرة في اللعب، ويُرى هذا المشهد من خلال عين فنان تشكيلي هو جار للمرأتين، فيظنُّ الفنانَ الحساسَ بأن المرأةَ وابنتَها تغشان ذلك العجوز الثري، خاصة وأنه إفتقدَ محفظته في المنزل وظنَّ أن المرأة الشابة التي أحبته سرقتها! ويسمعُ عن المرأتين كلاماً سيئاً فيصدقُ إتهامه الخاطئ، وحين يعود لهما يجد أن الفتاة جددت محفظته القديمة وما زالت نقودهُ فيها وما زال النبيل الشهم يخسر في اللعب!
هو عرضٌ هنا عن النبالة الإنسانية بغض النظر عن الموقع الطبقي، فالخصال الإنسانية تمتد بين شرائح متضادة.
النبالة المتعثرة والبرجوازية الصاعدة هي الملامح العريضة لمرحلة بلزاك الأولى ما قبل ثورة 1830 حيث ستؤكد البرجوازيةُ بعدها حضورَها الاقتصادي الكاسح ويختفي صراعُ النبالة والبرجوازية.
تعطي روايات بلزاك دروساً لفهم التحولات الاجتماعية بين الإقطاع والرأسمالية، ولهذا هي مفيدة لدرس العرب في الفترة الراهنة خاصة. فالثورة تتحطم والقوى(النبيلة) الإقطاعية تذوب، والرأسمالية تتوسع وتتجذر لكن كيف؟ هذا ما توضحه سلسلة الروايات الكثيرة.
ونتناولُ في هذا الجزء من التحليل رواية (الكولونيل شابير) هذه الرواية الآخاذة النموذجية من العمارة الكبيرة الإبداعية لبلزاك.
ليس ثمة رواية لبلزاك يبلغُ فيها التضادُ بين مرحلتي الثورة الفرنسية وما بعد الثورة، أي في زمن العودة إلى المَلكية، كما في هذه الرواية، إنه تضادٌ مكثف حادٌ عنيف مجسمٌ بحرقة.
الممهداتُ والعتبات الروائية التي طالما إتبعها الروائي للمضي نحو البؤرة الروائية هي هنا جسدُ المحاماةِ الأمامي الوضيع.
هنا المكتبُ الرثُ في أشيائهِ وموظفيه الستة، في وساختهِ وثرثرته السخيفة ونكاته الفجة، وبمنظرِ بقايا الأكل فيه، والملفات الظاهرة القبيحة، وفي الصِبية الذين يعملون في هذا المكتب والمستخدَمين لتوصيل الرسائل والتبليغات، هؤلاء الصبية الذين يضحكون على الزبون الفقير الرث الثياب.
هنا الآلية الحِرفية ما قبل التحول النوعي للمهنة، كجزءٍ من تضاريس رأسماليةٍ حِرفية وأجسام إجتماعية ما قبل رأسمالية تحيطُ بالعاصمة الفرنسية، كما سيظهرُ من تنامي السرد.
مثلما أن السردَ غير متبلور مركزياً، وله زوائد كهذه العتبة.
هذه الكتيبةُ من الموظفين وكلامُهم ونكاتهم لا دخلَ عميقاً لها في بؤرةِ الرواية، لكنها تقدمُ الشخصيةَ المحورية لتتوغل وتسودَ في العرض الروائي.
هذه الشخصيةُ الرثةُ الفقيرة الداخلة في هذا المكتب، هي بؤرةُ الروايةِ القصيرة هذه، وهنا تبدو الرواية على مفترق طريقين فأما أن تمضي مع شخوص المقدمة ويتحولون لبؤرة مركزية، وأما أن يتحول هذا المجهول للبؤرة، وقلقُ البؤرة هذا هو قلقٌ بنيوي لمرحلة بلزاك الروائية.
بعد هذه المشهدية التمهيدية التي يعرضها بلزاك نظراً لكونها جزء من ذكريات عمله كشاب في مكتب المحاماة، يأخذ الرجلُ الفقيرُ الشبح المسرحَ بكليته: (ذلك المشهد يمثل واحدة من آلاف المتع التي تجعل المرء يقول وهو يتذكرُ شبابَه الماضي ما كان أحلى ذلك العهد)، الكولونيل شابير، ص 17، وزارة الثقافة السورية، 1990.
يطلب الرجلُ الرثُ مقابلةَ المحامي ويُعطى من قبل الموظف موعدٌ في منتصف الليل حتى لا يجيء، لكنه يحضر ويتأكد أن الموعد هو من تصميم المحامي نفسه الذي رتبه لكي يدرس قضايا الزبائن في هدأة الليل وليس لكي يقابل المدعين.
تتبدل اللوحةُ فجأةً ويغدو دخول المحامي صاحب الخلفية الثقافية عوناً سردياً للسارد الأولي وهو المؤلف، حيث تقترب قامتا الساردين.
يصبح هذا الرجل الكولونيل السابق هو الراوي حين يطلب منه المحامي سرد قصته، وتحول الساردين وتتابعهم هو كذلك جزء من طبيعة الروي البلزاكي.
شارك الكولونيل في معركة يقودها نابليون ضد الروس في ألمانيا، فيذكر اللحظات الأخيرة في سقوطه ونتائج هذا السقوط:
(وسقط الحصانُ وفارسُهُ إذن واحدٌ فوق الآخر. وكان أن غُطيت بجثةِ جوادي التي حالتْ دون أن تدوسني الخيول أو أن تصيبني القذائف)، ص23.
أصابت ضربةٌ نارية رأسَهُ وحفرته بعمق، وحالت الجثثُ المختلفة دون موته، وصعدَ من خلالها بعد فترة، فاقداً الذاكرة لبعض الوقت وفاقداً أوراقه وعالمه العسكري السياسي كله.
تحول القائد العسكري إلى قتيل في الأوراق الرسمية، وظل يهيمُّ كمتشردٍ وساعده زوجان على تحديد حالته وتنظيم محضر بحالته، ولكن حالت الحربُ والظروف دون عودته لبلده ووضعه، في حين توجهت زوجته للزواج من رجلٍ نبيل وأنجبت من الزوج الجديد ولدين، فغدت عودته لوضعه السابق مستحيلة.
دخل النموذج في حالة ترميز فالضابط الكبير الذي سار مع جيش نابليون عبر العالم، لم يجد هذا الجيش الغازي، بل وجد أعداءه في باريس، والثورة التي طردتْ الإقطاعيين ورجال الدين هُزمتْ، وعاد هؤلاء لمركزِ السلطة، فغدا بمثابةِ شبحٍ لها، فهو جزءٌ مهزومٌ مشوه عاد إلى فرديته المسحوقة وسقطت إشاراتُها ومركزها، فالزوجة التي مثلت رمزاً مضاداً صعدت للنبالة وغدا زوجها الجديد النبيل يحذر من ماضيها، وأي هزة تأتي من صوب الماضي كفيلة بهدم الزواج.
الترميز يغدو فردياً، وحالة الكولونيل شابير تغدو مقطوعة الروابط مع حالةِ البرجوازية الثورية السابقة حيث أن وجوده العسكري في خدمة نابليون الذي عسّكر الثورة ثم حطمَ مثُلَها بغزوه للبلدان الأخرى، تعبير عن إنهيار المُثُل الثورية الديمقراطية وتحولها لغزو وصناعة إستبداد في الدول المغزوة.
ولهذا فإن شابير لا يستعيد تلك المُثُل أو يحدث مقارنات على مستويات عدة بين الحالة الجمهورية والحالة المَلكية العائدة، فهو فردي نمطي، لهذا فهو لا يقيم أية علاقات مع النماذج المتضررة من عودة المَلكية، وهو لا يصطدم بجوانب موضوعية من الزمن الجديد تكشف جوانب من شخصية ذات عمق كذلك.
فمطلبه الرئيس هو العودة لمركز العسكري ووضعه العائلي، وحين لا يجدهما يتحلل، ويصير قمامةً من العهد النابليوني البائد.
لهذا فإن شخصية المحامي المتعاطف والمهني المستفيد تلعب دور كشف الحالة في حقيقة حيثياتها، ومدى إنطبلق أقواله على شخصه.
وهو أمرٌ يوسعُ دائرةَ البؤرة، ينقلُها لمكانِ عيشِ الكولونيل في الضواحي الرثة ذات الظروف الحِرفية العتيقة، وإلى ظروف الزوجة المرفهة التي غدت ارستقراطية، وهذا مظهران يعكسان تنامي التناقضات الطبقية في المجتمع الرأسمالي الوليد المتسع.
تدخل الرواية دائرة الحِيل والمناورات القانونية، وتنتقل لمكان عيش الزوجة وعلاقاتها الجديدة، وتذبذبها بين الماضي والحاضر الزوجيين، مدركة أين تكمن مصالحها وأتجاهها، محيلةً مناورات المحامي التي تحصرُها في زاويةٍ ضيقة مهددةً وضعَها الطبقي الجديد بالانهيار، إلى مناوراتٍ وخدع للزوج الأول السابق، بحيث تجعله يخسر قضيته الرابحة بنفسه.
تحلل الشخصية العسكرية وتدهورها نحو الجنون يبقى شأناً ضيقاً فردياً، بحيث أن الوضع المختل القائم ذاتياً وموضوعياً، لم يتغير بل يعود الوضع للوراء.
لهذا تغدو الرواية قصيرة، ذات روابط قليلة، فزخم الشخصية المحورية كانت لحظة خروجه من تحت الجثث ومن تحت الأنقاض الاجتماعية، وإعادة شخصه، ولكنه حين يهمل هذا التطور تذبل الروابط الفنية والاجتماعية.
فلا نجد فرقاً كبيراً بين دفنه بين الجثث الميتة وبين وجوده في مركز الطب النفسي، والتشوه النفسي السياسي بدأ منذ إرتباطه بالجيش، لكنه لم يحاكم هذا الوضع، بل ظل له مفخرة، ولهذا فإن مرئيات الزمن العسكري وتحدياته البطولية تظل معدومة.
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp...
http://www.alraafed.com/2017/05/19/8751/
http://www.akhbar-alkhaleej.com/12744...
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
تطور الأنواع الأدبية العربية
وكان أونوريه دي بلزاك من رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر في الفترة التي اعقبت سقوط نابليون وكان روائياً وكاتباً مسرحياً وناقداً أدبياً وناقداً فنياً أيضاً كما اشتهر بكونه كاتباً صحفياً وطابعةً وقد ترك بصمةً كبيرة في الأدب الفرنسي برواياته التي تتعدى الـ91 رواية وقصص قصيرة (137 قصة) نُشرت ما بين 1829 إلى 1852 وقد وُلد في 20 مايو 1799، وتُوفي في باريس 18 أغسطس 1850.
وقَيل إنه كان من مدمني العمل الأدبي مما أثر على وضعه الصحي (توفي في سن مبكرة عن عمر ناهز الـ51 عاماً)، (وكان في حياته يعاني من الديون التي أثقلت كاهله بسبب الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر التي غامر بالقيام بها، وقضى عمره فاراً من دائنيه مختفياً ومتقمصاً أسماء وهمية وفي منازل مختلفة، وعاش بلزاك مع العديد من النساء قبل أن يتزوج في 1850 الكونتيسة «هانسكا» التي ظل يتودد إليها أكثر من سبعة عشر عاماً)، موسوعة لوكيبيديا.
لقد حظي بلزاك بتقدير المفكرين التقدميين ولهذا كان كارل ماركس يتصور أن بلزاك قدم تحليلاً واسعاً نقدياً عن النظام الرأسمالي في فرنسا، ولكنه كان مرتبكاً من الناحية الفكرية حيث اعتبر أن النموذج الملكي الرأسمالي البريطاني هو الأفضل لفرنسا لو طُبق، واعتبر ذلك رؤيةً خيالية من جانبه لكون النماذج الاجتماعية تظهر من خلال نضال الشعب ولا تُستورد.
ويقول جورج لوكاش عن بلزاك: (لقد بيَّن أنجلس أن بلزاك، رغم أنه مَلكي سياسيا، توصل في أعماله تحديداً إلى فضح فرنسا الإقطاعية، والملَكية، وإلى توضيح بطريقة قوية وممتازة، كيف أن النظامَ الإقطاعي كان محكوماً بالموت)، بلزاك والواقعية الفرنسية، دار الناشرين المتحدين، ص18 .
(لا أحدَ مثل بلزاك أحسَّ بعمق الآلام اللاحقة بكل طبقات الشعب من جراء الانتقال إلى الانتاج الرأسمالي والانهيار الروحي والأخلاقي العميق الذي كان ضرورياً في تطور كل طبقات الشعب..)، السابق، ص22 .
لم يكن بلزاك متناقضاً مع نفسه، لأنه هو ذاته تجسيدٌ للتناقض. المحللون التقدميون لم يكتشفوا شخصية بلزاك ذاته كبرجوازي صغير، فهذا الكائنُ الاجتماعي الإنساني عبّر عن التناقضات الاجتماعية من داخل رؤيته المتناقضة كعضو في فئةٍ مترجرجة.
فهو كاتبُ يبيعُ بضاعتَه الورقية ويطمحُ إلى الغنى، وهو تاجرٌ صغير ومساهم ومضاربٌ يسعى للارتفاع إلى طبقة البرجوازية بسرعة شديدة، لكنه مَدين ومفلس ويخاف السقوط في طبقة العمال والمعدمين، وهو عاشق موله يحب ارستقراطية ثرية ترثُ الكثيرَ ولكنه يموت دون أن يطال شيئاً من ثروتها.
بين هذا وذاك عاش، وذبذبتُهُ الاجتماعيةُ السياسية تؤرجحُهُ هنا وهناك، تغدو تأييداً لنضال الجمهوريين الشجعان وبقاءً على الولاء للملَكية، تصيرُ رغبةً شديدة في الثراء والوصول إلى الرأسمالية وتكتب كذلك تصويراً لاذعاً للرأسمالية. هو كاثوليكي مَلكي ويعري الكاثوليكيين المَلكيين. هو خيالي شديد الخيالية حيناً وهو دارسٌ مختبري مدقق حيناً آخر. هو واقعي وهو رومانسي.
هذه الكتلةُ الحساسة المبدعة التي ظهرتْ من بين فئات البرجوازية الصغيرة رأت الثورةَ التي قادتها فئات البرجوازية الصغيرة، بخلاف المتصور أنها الطبقةُ البرجوازية، فقد مهدتْ لها وعبّدت الطريق أمامها بعد عقود تلك الفئاتُ المترجرجة، وخلقتْ من زمن الثورة اضطرابات واسعة وتحولات شاسعة، فعبرَ بلزاك عن الاضطراب وعن لحظات التقدم المتوارية في الأشياء والعلاقات، وطمحَ إلى الاستقرار السياسي ورفضَ حكمَ الثورة ولكنه أحسَّ بالثورة التي ستتفجر لاحقاً. كره الثورةَ وعبدَ نموذجها العسكري الذي صعدَ على أكتافها وغيرَها وسحقَها: نابليون بونابرت.
علينا أن نقرأ بشكلٍ واسع كيفيةَ تجسد هذا التناقض روايةً، وسياسةً، وخاصة عبر التكوينات الإبداعية التي تعكس هذه الرؤية المتضادة ونرى أن نموذجَها الشخصي المستمر والواسع هو البرجوازي الصغير، هو نموذجها الخلاق المأزوم.
تتحكمُ فيه البُنى الاجتماعيةُ المتحولة، ويضع قدماً في اليسار ويضع قدماً في اليمين، يضعُ قدماً في العمال والفلاحين وأخرى في الأغنياء والمترفين!
يضعُ يداً في العلم ويتناول أدوات الباحثين ويضعُ يداً أخرى في الفن والتحليق في الخيال.
بلزاك يعطينا مفاتيح ليس لفهم الثورة الفرنسية بل كذلك الثورات التالية في القرن العشرين التي صنعتها نفسُ الفئاتِ الصغيرة المتناقضة، وبالتالي يحتاجُ الأمرُ إلى تحليل مطول وهنا بعضٌ منه.
في الروايةِ الأولى التي نشرَها باسمه سنة 1827 والمسماة الناعقون أو الثوار الملَكيون في ترجمات مختلفة، يقدمُ بلزاك بنيةً حدثية شخوصية متسارعة متداخلة، يغلبُ عليها السردُ الخارجي التصويري المتصاعد، في دراما حدثية قتالية عاطفية متواشجة.
ليست فيها عتبةٌ تصويرية تمهيدية بل تتوجه مباشرة نحو البؤرة الروائية، حيث هي منذ البداية في قلب الحدث الروائي المركزي.
المنطقة الريفية من بريتانيا المقاطعة الفرنسية القريبة من بريطانيا التي تغدو بؤرة الثورة المضادة ضد الجمهورية، تُصورُ عبر طبيعتها الجبلية الزراعية الخلابة، وعبر الصراعات المشوقة العنيفة.
البؤرة الشخوصية تتمحور حول قصة عاطفية في نسيج المعركة بين المَلكيين والجمهوريين، أثناء الفترة الأولى المبكرة لحكم نابليون، وتغدو الفتاة الارستقراطية (دو فرنوي) هي هذه البؤرة.
السرد الظاهري الحدثي المتتابع يسجل صدامات المَلكيين الريفيين المنتشرين بإتساع في منطقتهم الريفية المُهّاجمة من قبل الجمهوريين، وتلك الفتاة البؤرة الشخوصية تظهر وتمسك خيوط الحدث وإمتداداته المختلفة.
الفتاة هي رمزية الثورة، والمرحلة، وعقدة التناقضات المركبة، فهي وُجهتْ لاختطاف أو قتل قائد الثوار المَلكيين، وهي ابنة غير شرعية لأحد الدوقات الذي لم يعترف بها سوى أخيراً وهو يحتضر، وحصلت على ثروة وتعهد بها محتالٌ غني كبير، وخاصمها الأخ في المحاكم ليلغي الاعتراف بها.
وأقامت علاقة مع الشخصية الثورية الكبيرة دانتون الذي قُتل في صراعات الثوار الجمهوريين، وظلت بعض عواطفها ملكية، ووجهت من قبل السلطة الخفية للثورة لكي تقتل زعيم (الناعقين)، المتمردين المَلكيين، لكنها تقعُ في غرامه.
الأحداث الدرامية الميلودرامية ذات الخيوط المتشعبة لمختلف الشخصيات من شخصيات الناعقين المؤثرين ممثلي الريفيين المتدينين الرجعيين الدمويين اللصوص، إلى زعيمهم الشاب الارستقراطي الشجاع الرومانسي الواقع في الحب، الذي يخلط الهجمات العسكرية الضارية بالجري وراء فتاته، إلى الضابط الجمهوري العجوز الشجاع الشهم الذي يقود المعركة، ومعه ضباط شباب مفعمين بالشجاعة والتضحية والرومانسية والأعجاب بالجميلة (دو فرنوي).
هناك الخلفية الريفية، جسدُ المكان، مركزُ الفعل والحدث، المكانُ الذي يعبرُ عن شخصية الريفيين، حيث الأراضي المسيجة الأشبه بالقلاع، التي حازها الفلاحون في الزمان غير المروي، والتي تعجز القوةُ الجمهورية العسكرية من السيطرة عليها.
عملية التداخل بين القوتين المتحاربتين تنعكس على مختلف جوانب الرواية، خاصة في بؤرتها الشخوصية، حيث الفتاة المزودجة الأنتماء، الجمهورية القادمة من باريس لكن عمقها الداخلي عاطفي شفاف لا يتغلغل بمُثُل الثورة، بل بمهمة عملية، بوليسية، مخفقة، بسبب عدم تغلغلها في الذات، غير الثورية.
ومُثُل الثورة غير مصوَّرة، وغير مجسَّدة في علاقات بل في شظايا من شخوص الضباط الجمهوريين، مُثُلُ الثورة تغدو هي حماية الوطن الفرنسي من الأجانب الأنكليز وغيرهم.
المُثُلُ القوميةُ تتغلغل ذائبةً في خلفيات الشخوص والأحداث، فلدى الفتاة هي إنتماء للجميع، وهي إضطرابٌ بين المَلكيين والجمهوريين، بين الارستقراطية والبرجوازية، بين الشعب والأعداء.
المعسكران الجمهوري والمَلكي مرسومان بموضوعية، السارد المسيطر على رسم الخطوط الخارجية والداخلية، هو نفسه المؤلف المطلع على كل شيء الذي درس المنطقة وجغرافيتها وأحداثها، وقطعَ منها بنيةً روائية مغامراتية ذات مشاهد حيوية، ليس فيها غوص عميق في ذوات الشخوص، وجذورهم الروحية والنفسية والاجتماعية، لكن فيها تحديدات عامة للمعسكرين، بل وصف للمرئي الحدثي، الراكض، المتداخل، المتوجه للمستقبل، الراجع مرة واحدة للماضي الموسع في حياة الفتاة (دو فرنوي)، ولهذا فإن المرئي المتناقض بين المعسكرين يظل في الحدث، لا في المنولوج، في الديالوج السريع، وفي الوصف للمشاهد، ولمواقع النزاع بين أشكال الطبيعة، فيحدث التداخلُ بين المعارك والجغرافيا الريفية، فتبرزُ الإيديولوجيا الجمهورية في السخرية من شعارات المسيحية وعباداتها، وتبرز بإتساع الإيديولوجيا الدينية حيث الكاثوليكية المتداخلة بالصراع السياسي العسكري الدموي والمدافعة عن الكهنوت المنهار.
ولهذا فإن التصوير المباشر يسلط الأضواء على مشهدية الخندقين الاجتماعيين المتصارعين كما هما مرئيان في اللحظة اليومية.
لهذا فإن الراوي لصيق المؤرخ هنا، ويبدأ بالقول:
(لكن لا بد للمؤرخ إن شاء أن يكون واقعياً تصويرياً أن يذكر أن المنطقة عادت ذات يوم ضاحكة الأسارير لينة الملامح بعد أن أعلن الجنرال (هوش) الصلح ووقع ميثاقه).
يغدو السارد مؤرخاً واقعياً مصوراً، محايداً بين الفريقين. لكنه حيادٌ مصّورٌ من قبل الطبقة السائدة المنقسمة هنا، جمهورياً وملكياً، الطبقة المنقسمة بين الارستقراطيين والبرجوازيين، في لحظتهم المرئية المسجلة هنا، لحظة الجمهوريين، الذين يحطمون الأغلال الكبيرة للإقطاع.
السارد الراوي الذي يستعيد اللحظة الصراعية التاريخية يسجلُ دقائقها، يعرض شخوصاً متعددة متضادة، في بياناتها الخارجية والسلوكية.
المعسكران، والطبقتان الارستقراطية و(البرجوازية)، تضادهما مباشر، إيديولوجي سطحي، يتمظهر عبر الانقسام الحاد بين الدين التقليدي، حيث المنطقة التي تقسمُ كلَ لحظة بـ(قديسة أوراي) وبين نفي الدين وإلغائه عبر الشعارات العسكرية. هو صراعٌ يمتظهر ضد ما هو فج ورجعي من الإقطاع، وعبرَ ما هو سطحي وفج من البرجوازية الصغيرة.
الواقعية الرومانسية تتداخل عبر الالتزام بمشهدية الصراع الاجتماعي المباشر وحركات لقطاته الموضوعية، وبوجودِ قصة الحب بين الآنسة دو فرنوي والمركيز دو مونتوران التي تنمو بالحيل المليودرامية عبر التلاقي في عربةٍ وبالحب من أول نظرة، والحب المتغلب على عقبات الصراع الاجتماعي والشهيد في خاتمة المطاف.
الواقعية تصفُ كل ما هو فظ وعنيف في الناعقين الريفيين الأجلاف، وحركة عربة النقل معبرة عن مستوى الأدوات المجسدة للتطور الاجتماعي كما يقول بلزاك نفسه كراو مباشر، ومشاهد الواقع اليومي من أدواتٍ وأبنية وملابس وصراع على الأشياء وتركات المقتولين.
وهي رومانسيةٌ في وصفها لنمو الحب والطبيعة الجميلة منشدة للرواية التسجيلية المشوقة.
مستوى الصراع الاجتماعي الافتتاحي المبكر الملحمي بين المَلكية والجمهورية، بين الارستقراطية والبرجوازية، ينعكس في البنية السردية المباشرة الدرامية الصراعية، الموضوعية، حيث الراوي الذي يصور الفريقين بكل ما يمتلك كل فريق من مزاياه الحقيقية، وهو في ذاته المعبر عن الكل، عن جموع الفرنسيين في مسيرتهم القومية، عن الارستقراطية وهي تتبرجز، وعن الثورة كأداةٍ للقومية، عن مزاياها الشجاعة والمضحية، عن نقد حثالة الإقطاع المتجسدة في الناعقين الدمويين لصوص الصراع السياسي.
الراوي بلزاك يقف محايداً فوق الصراعات الجزئية المتلاشية في دراما التاريخ، ممسكاً خيطَ الطبقة المسيطرة المتحولة، عارضاً تكونها التاريخي المعقد، حيث تقوم الثورةُ وإمتداداتُها التاريخية بإعادةِ نسج المجتمع، المرئي من قبل الطبقة السائدة، المتحولة، الذي يغدو بلزاك هو عينُها، المحدقةُ فيها، المبتعدة عن سلبياتها ومخلفاتها، والمبتعدة كذلك عن الطبقات العاملة، المرئية في الظلال والخلفية الاجتماعية التاريخية كأدوات لها، كضباط وجنود وفلاحين وتجار يمهدون التربة لنظامها.
لقد هُزمت الثورةُ الفرنسية بعد تقلبات حكم الجمهوريين المتصارعين وهم اليعاقبة والجيرونديين، أي فئتا البرجوازية الصغيرة اليسارية واليمينية، حيث لم تصعدْ بعدْ البرجوازية الكبيرة التي تحتاج لوقت من أجل التراكم الصناعي الواسع، فيأتي نابليون ويُجري تحولات ولكن حروبه تقود للهزيمة وعودة المَلكية. هنا يبدأ عهدٌ جديد للرأسمالية التي تتغلغلُ في المجتمع وهي مهزومةٌ سياسياً ومنتصرةٌ إقتصادياً، وبلزاك يعرضُ هذه التحولات في العمق.
أدواتُ تحليلِ بلزاك الروائية والفكرية متضافرة، فهو يصورُ مشهديات دقيقة، منسوجة مع الشخصيات والأحداث والأمكنة ذات الدور التوظيفي.
ومن مواد حياته الخاصة، ومن عذاب أخته مع زوجها وموتها الفاجع، ومن دخوله في السوق وفشله التجاري فيه، فيجسدُ اللغةَ الاقتصاديةَ البضاعية ودور رأس المال الجدلي، البنائي من جهة والاستغلالي من جهة أخرى، عبر جزئياتٍ وبُنى مشهدية صغيرة لا تتوجه للسيرورة الكلية للمجتمع الرأسمالي، بل لقطاعاتٍ فيه مقطوعة عن سياقه العام، فبلزاك لا يعمم بل يصف ويحلل جزئياً.
بلزاك ليس صاحب رؤية نقدية فكرية مدروسة بل لديه تحليلات ووجهة نظر حصل عليها عبر التجربة في أثناء تجارته الفاشلة. لقد خبر بقوة البضاعة والمال وكل الورق المجسد للعلاقات السلعية وأثمانها.
في البدء يغدو مشهده الروائي الافتتاحي لوحاتٍ للمكان، حيث يقوم بالدخول ووصف البيت الخاص منتزعاً سماته الأكثر وضوحاً وعمقاً، وهي التي تعكس حياة شخوصه. فالعتمة والتهالك والانغلاق كلها سمات تعكس صاحب هذا البيت الثري صاحب الكروم، البخيل، القروي.
في روايته (أوجيني غرانده) يجثمُّ عند موقع المنزل كمهندس أثري فنان: إلى جانب البيت المتداعي المرضوم الجدران حيث خلّدَ الحِرفيُّ زخارفَ أدواته، يرتفعُ قصرُ أحدِ النبلاء، حيث ما تزال تُرى على القوس الحجرية لبابهِ بعض معالم شعاراته التي حطمتها الثوراتُ المختلفةُ التي هزّت البلادَ من العام 1890) أوجيني غرانده، وزارة الثقافة السورية، ص8.
وهو يقفُ مطولاً عند المنزلِ والريف وصاحبِ البيتِ البرجوازي منتجِ النبيذ، موضحاً علاقته بالثورة وكيف صعدَ معها وإستفاد منها، لكنه في زمنِ عودةِ المَلَكيةِ وهزيمةِ الثورة تجمدتْ مكانةُ صاحب الكروم السياسية فانطلق في جمع الثرواتِ بكل طريقة وعبر تقتيرٍ شديد على أهله، ويبدو ذلك في وصف المنزل التمهيدي.
يتتبع بلزاك هذا النمو السردي ويتدخلُ فيه على شكلِ راوٍ مهيمن عارفٍ بكل شيء عن شخوصه وعالمهم، وهو يصّعدُ بناءَهُ الفني عبر متابعة الشخوص التي تظهر تدريجياً على مسرح الحدث المتصاعد، فصانعُ البراميل النبيذيةِ السابق جزءٌ من مشهد الريف الفرنسي حيث يرتعدُ الكرّامون من مخاطر صباحات ممطرة، لكن (الصراع مستمر بين السماء والمصالح الأرضية).
وفيما كان الكّرامُ يخسرُ سياسياً كان يحصدُ مواريث كبيرة، وتعيش ابنته وزوجته في ضنك شديد، أما الخادمة (فحكمَ عليها من واقع خبرته كبراميلي على مدى قوتها الجسمية، وضمنَ الاستفادة المرجوة من مخلوقةٍ أنثى كأنها فُصلتْ على نموذج هرقل).
تنامتْ تفاصيلُ العلاقات التي تكشفُ هذا البرجوازي في مرحلة التراكم وكيف تكونُ الوجباتُ شحيحةً، والملابس قديمة، والأهل في مَعزلٍ عن الحفلات والصرف، فيما يتكدسُّ الذهبُ في الغرفة الخلفية السرية المعزولة عن الغرف الأخرى.
ويجري هجومُ العائلات الريفية على خطف الفتاة ابنته والرغبة في الزواج بها والاستيلاء على كل الثروة المخبأة، لكن البراميلي كرانده يبحثُ لها عن عريس صاحب ملايين، مستثمراً دوافع هذه العلائلات.
المؤلف الراوي بلزاك هو كاتب بحث كذلك، فالروايةُ لديه ليست قصةً عادية، بل هي بحثٌ تشريحي تجسيدي، ومن هنا يعنونُ الروايةَ بـ(دراسة طبائع)، و(مشاهد من حياة المقاطعات)، ومشاهد المقاطعات مخصصة للريف، أي للرأسمالية الريفية المتخلفة في وعيها وعاداتها ولكنها شديدة الحرص على الذهب، وبؤرةُ هذه الأبحاثِ السردية هي شخوصٌ تجاريةٌ في ميدان أعمالها وإنتاجها، فتأتي مشاهدٌ وصفية للمكان، تكّونُ الأرضَ الموضوعية الجغرافية، ثم تتصاعدُ عمليةُ التحليلِ نحو المهن الرأسمالية، وذلك عبرَ دقائق الحياة الاقتصادية، فيرينا الساردُ المباشرُ هنا كيف يكّونُ الكرامُ كرانده ثروتَه عبر حركة الأحداث، من حساباتٍ دقيقة لانتاجِ الكروم وتصريفه، وإستغلال كل مادة في الربح: (كما اتفق السيدُ غرانده مع السباخين من مستأجري أرضه أن يؤمنوا لبيته البقول، بينما يجني من بستانه كميات وافرة من الفاكهة تكفيه ويبيع قسماً كبيراً، وكان حطب تدفئته يقطع من أسيجته...)، ص17. وهكذا فإنه يستغلُ كلَ مادة حوله. لكن هذه جوانب صغيرة غير العمليات المالية الكبيرة.
هذا التحليلُ المادي للعيش لا ينفصلُ عن تطويرِ الحبكة الروائية، فهي ليست عروضاً تقريرية، بل دراسة سردية، فواقع البيت الثري في كنوزهِ المتوارية يصطدمُ بحركةِ الحياة العنيفة، فالابنةُ الجميلة التي تعيشُ العزلةَ وشظف الحياة، ترى فجأةً شارل ابنَ عمها الجميلَ القادمَ من باريس الأناقة والرهافة والمذهولَ الفزعَ من حياةِ الريف وخنِ عمهِ الكئيب العتيق، والمستغربَ من إرسال أبيه له إلى هذا المكان. لكن خيوطَ إنزالهِ التي تمت بمغزلِ الروائي أدت إلى صدماتٍ عنيفة فأبوه أرسله بعد أن أفلسَ وقررَ الانتحار ونفذَهُ ووقبل ذلك أعطاهُ رسالةً للعم من أجل أن يعتني بشارل في هذه المحنة!
حبكةٌ مُصاغةٌ بحيل، لكن التناقضَ في بيتِ الكرام يتفجر، والابنةُ المعزولةُ عن الحياة تحبُ ابنَ عمها وتساعده وتصيبُ أباها بشلل نظراً لمطالبها المادية المروِّعة التي تضربُ الاكتنازَ الرأسمالي الطويل!
حبكةٌ ظلت هنا في النماذج الفردية المعزولة المتخلفة عن الحياة الاجتماعية الثورية في العاصمة باريس، ولكن الرومانسيةُ دخلت من النافذة الواقعية وقام المؤلف بخلق علاقة غرامية غريبة، ومع هذا فالدراسة والحبكة تقدمان خليةً من المجتمع الرأسمالي الفرنسي في حقبةِ المَلكيةِ العائدة التي ستكون في أكثر زمنه، مما يدعو الروائي للتدخل عامة وشرح رؤيته الناقدة للشح والتبذير وكل ما يعيق الفرح كذلك من أجل (رأسمالية أخلاقية).
وهذا التركيز على الشخصية المحورية وعلى صفات معينة فيها وربطها بتطور الاقتصاد سيكون هو طريقه الإبداعي الواسع الرئيسي الحافل بالنماذج والتجارب.
البرجوازي الصغير يصعد عبر تراكم رأس المال الذي يعضُّ عليه بأسنانه ولكنه يعود مرة أخرى لجحيمه بتحطم رأس المال!
كانت عودةُ المَلكية سنة 1815 وزوال عهد الجمهورية قد أرجعَ الارستقراطية الحاكمة السابقة، وأخذ هذا التناقضُ يشدُّ رؤيةَ بلزاك كأكثر التناقضات حدة. فزمنُ المُثُل الثورية والتضحيات زال، وغدا الناس يتهافتون على المال والبضائع.
هذه هي المرحلة الثانية التي تشكلت فيها ملحمتهُ (الكوميديا الانسانية) ذروة إنتاجه الروائي، والتي لم ينقطع فيها عن عرض النماذج البشرية وهي تُشوى بين حقبتين في نادر الأعمال، وتشوى في المرحلة المَلكية العائدة بشكلٍ رئيسي.
في قصته (مرقص سو)يتابعُ التضادَ الذي إنشغلَّ به بين المال والعواطف البشرية، ويكشفُ سيطرةَ مُثـُل النبالة المتهاوية في الواقع، فهذه المُثُل المتعارضة مع تصاعد الطبقة البرجوازية ما زالت تؤثر على بعض القطاعات الاجتماعية:
(فمرقص سو ليس فقط المكان الذي صادفت فيه أميلي دي فونتين لونغفيل لأول مرة، إنما هو خاصةً مكان لقاء رمز بين الماضي والمستقبل، بين الارستقراطية والشعب)مرقص سو، وزارة الثقافة السورية، دراسة حول القصة والمؤلف، ص71.
المرقصُ مكانٌ ريفي يسمحُ بإلتقاء طبقات عديدة، وأميلي دي فونتين هي فتاةٌ من العامة، من البرجوازية الصغيرة المتذبذبة جسم بلزاك الأدبي، حيث تتردد بين واقعها وطموحها، فهي تريد أن تقفز دفعة واحدة إلى الارستقراطية وتتزوج أحد النبلاء العائدين للحكم، وهي ترفض رفضاً قاطعاً أي شاب من عامة الشعب حتى لو أثرى وتحول لبائع كبير!
وكعادتهِ فإن بلزاك يُضّفر بين البنية الاجتماعية والحدث القصصي، فدائماً لديه زمن الثورة، وزمن عودة المَلكية، وقد تبدلت أحوالُ النماذج بسبب هاتين الفترتين، فزمنُ القصة هو زمن عودة المَلكية وزمن لويس الثامن عشر الذي رأى أهميةَ تجديد المَلكية وتحديثها، لكن والد الفتاة أميلي هو شخصيةٌ محافظةٌ عاشتْ في زمن المَلكية السابقة وتدهورتْ مع مجيءِ الثورة، وخسرَ الكثيرَ من ماله، وراح مع عودة المَلكية يستعيدُ شيئاً من المجد الماضي ولم يؤيد الملكُ على هذا التحديث في البدء، لكن مع المزايا التقاعدية المتدفقة عليه غيّرَ آراءه.
الابنةُ الارستقراطية المغرورة لم تُصور وهي تنشأ في هذا العالم، بل ظهرتْ أخلاقُها مكتملةً مضادة لتدهور أحوال العائلة، وكأنها إحتفظت في ذاتها بالنبالة وأرادت زوجاً يجمعُ كلَ خصائصها من الألقاب والشارات والأطيان.
لكن عالم المَلكية العائدةَ بدأ يتبرجز، والكثيرُ من المُلاك تدهورتْ أحوالُهم وتوجه بعضُهم للتجارة وإنشاء المصانع، لكن الثقافة الارستقراطية ومثُلَها لم تزل منتشرةً خاصة في الجماعات التي تحيطُ بالمَلكية، وتصيرُ الفتاةُ المحورية أميلي تجسيداً لهذا التضاد بين المثل المتدهورة وحقائق الحياة الجديدة.
فهي ترى شاباً وسيماً تنطبق عليه كل صفات (النبيل)، وتنشأ حركةٌ حدثيةٌ بينهما، تؤدي للتعارف المبهم وعدم إنكشاف الأصول الأسرية والطبقية. لكن الفتاة مصرة بأنه نبيل وأنه صاحبُ ثروةٍ قادمة من نبالة مؤكدة.
وتغيرت أحوالُ الفتاة تغيراً كبيراً وغدت متفائلة لا تسخر من الناس ولا تجرحهم كما تفعل عادة، ويحاول أبوها أن يخفف من طبعها المتعالي وأن يجعلها واقعية تتماشى مع إنتصار البرجوازية ومثُلِها، لا أن تحرنَ عند أطلال النبالة، لكنها ترفض ذلك وتؤكد أن حبيبها هو نبيل حقيقي.
وفي موقفٍ مفاجئ وهي في السوق ترى حبيبَها في متجرٍ ويمسكُ قماشاً ويبيعهُ فتُصاب بصدمة عاطفية شديدة!
فقامتْ بقطع علاقتها به بشكل نهائي، وارتمت في أحضان كهلٍ نبيل يملكُ ثروةً ولكنه بعمر أبيها وأكثر وعاشَ مجدَ المَلكية السابقة وكان يسخرُ منها!
كان هدف حياتها أن تلتصق بنبيل وترتعش بين جنبات شعاراته وخيوله وأملاكه، وتحقق هدفها والنبيل يلفظ أنفاسه.
في حين كان حبيبها الشاب هو من نبالة حقيقية مضحية، فقد ساعدَ أخاه وحصل على لقب النبل وتدفقت ثروته.
في وعي الكاتب بلزاك إهتمام رفيع بالأخلاق وكشف تناقضها مع التطرف المالي أو الطبقي، كشخصية من صغار البرجوازيين، المتحضرين، المواصلين تصعيد الرأسمالية التحديثية، وهو يرى أن قيم المالِ والبضاعة تنتشر وتكتسحُ المبادئَ (النبيلة)، وهو صاحبُ موقف نقدي إجتماعي مَلكي بونابرتي كما سنرى لاحقاً، فيمثل تشكيلة فكرية متناقضة، لكنه يقدمُ المشاهدَ ومواد الحياة التي تتفجر فيها تناقضات الطبقتين النبيلة والبرجوازية في هذه الحقبة. ومن هنا فهو يعرض الصراعات الاجتماعية المختلفة خاصة بين القطبين السائدين اللذين يمثلان الطبقة الحاكمة المشتركة في زمن عودة المَلكية بعد هزيمة نابليون، أما الطبقات الشعبية المكافحة فهي تأتي في الخلفية وكمواد خام مستغلة فلم تكن قد ترسخت في الحياة الاجتماعية في ذلك الحين. إن حضور الطبقة العاملة ومثلها المختلفة لم تظهر على المسرح البلزاكي.
وفي قصته الأخرى في نفس المجلد المسماة (المحفظة) هي عن نبيلين، أحدهما لا يزال بثروته، والآخر هو امرأةٌ كهلة إفتقرتْ وتعيشُ في شقةٍ بائسة مع ابنتها، ويأتي ذلك النبيلُ ليلعبَ معها الورق، ونظراً لعطفه عليها ورغبته في مساعدتها وعدم جرحها يفتعلُ الخسارةَ المستمرة في اللعب، ويُرى هذا المشهد من خلال عين فنان تشكيلي هو جار للمرأتين، فيظنُّ الفنانَ الحساسَ بأن المرأةَ وابنتَها تغشان ذلك العجوز الثري، خاصة وأنه إفتقدَ محفظته في المنزل وظنَّ أن المرأة الشابة التي أحبته سرقتها! ويسمعُ عن المرأتين كلاماً سيئاً فيصدقُ إتهامه الخاطئ، وحين يعود لهما يجد أن الفتاة جددت محفظته القديمة وما زالت نقودهُ فيها وما زال النبيل الشهم يخسر في اللعب!
هو عرضٌ هنا عن النبالة الإنسانية بغض النظر عن الموقع الطبقي، فالخصال الإنسانية تمتد بين شرائح متضادة.
النبالة المتعثرة والبرجوازية الصاعدة هي الملامح العريضة لمرحلة بلزاك الأولى ما قبل ثورة 1830 حيث ستؤكد البرجوازيةُ بعدها حضورَها الاقتصادي الكاسح ويختفي صراعُ النبالة والبرجوازية.
تعطي روايات بلزاك دروساً لفهم التحولات الاجتماعية بين الإقطاع والرأسمالية، ولهذا هي مفيدة لدرس العرب في الفترة الراهنة خاصة. فالثورة تتحطم والقوى(النبيلة) الإقطاعية تذوب، والرأسمالية تتوسع وتتجذر لكن كيف؟ هذا ما توضحه سلسلة الروايات الكثيرة.
ونتناولُ في هذا الجزء من التحليل رواية (الكولونيل شابير) هذه الرواية الآخاذة النموذجية من العمارة الكبيرة الإبداعية لبلزاك.
ليس ثمة رواية لبلزاك يبلغُ فيها التضادُ بين مرحلتي الثورة الفرنسية وما بعد الثورة، أي في زمن العودة إلى المَلكية، كما في هذه الرواية، إنه تضادٌ مكثف حادٌ عنيف مجسمٌ بحرقة.
الممهداتُ والعتبات الروائية التي طالما إتبعها الروائي للمضي نحو البؤرة الروائية هي هنا جسدُ المحاماةِ الأمامي الوضيع.
هنا المكتبُ الرثُ في أشيائهِ وموظفيه الستة، في وساختهِ وثرثرته السخيفة ونكاته الفجة، وبمنظرِ بقايا الأكل فيه، والملفات الظاهرة القبيحة، وفي الصِبية الذين يعملون في هذا المكتب والمستخدَمين لتوصيل الرسائل والتبليغات، هؤلاء الصبية الذين يضحكون على الزبون الفقير الرث الثياب.
هنا الآلية الحِرفية ما قبل التحول النوعي للمهنة، كجزءٍ من تضاريس رأسماليةٍ حِرفية وأجسام إجتماعية ما قبل رأسمالية تحيطُ بالعاصمة الفرنسية، كما سيظهرُ من تنامي السرد.
مثلما أن السردَ غير متبلور مركزياً، وله زوائد كهذه العتبة.
هذه الكتيبةُ من الموظفين وكلامُهم ونكاتهم لا دخلَ عميقاً لها في بؤرةِ الرواية، لكنها تقدمُ الشخصيةَ المحورية لتتوغل وتسودَ في العرض الروائي.
هذه الشخصيةُ الرثةُ الفقيرة الداخلة في هذا المكتب، هي بؤرةُ الروايةِ القصيرة هذه، وهنا تبدو الرواية على مفترق طريقين فأما أن تمضي مع شخوص المقدمة ويتحولون لبؤرة مركزية، وأما أن يتحول هذا المجهول للبؤرة، وقلقُ البؤرة هذا هو قلقٌ بنيوي لمرحلة بلزاك الروائية.
بعد هذه المشهدية التمهيدية التي يعرضها بلزاك نظراً لكونها جزء من ذكريات عمله كشاب في مكتب المحاماة، يأخذ الرجلُ الفقيرُ الشبح المسرحَ بكليته: (ذلك المشهد يمثل واحدة من آلاف المتع التي تجعل المرء يقول وهو يتذكرُ شبابَه الماضي ما كان أحلى ذلك العهد)، الكولونيل شابير، ص 17، وزارة الثقافة السورية، 1990.
يطلب الرجلُ الرثُ مقابلةَ المحامي ويُعطى من قبل الموظف موعدٌ في منتصف الليل حتى لا يجيء، لكنه يحضر ويتأكد أن الموعد هو من تصميم المحامي نفسه الذي رتبه لكي يدرس قضايا الزبائن في هدأة الليل وليس لكي يقابل المدعين.
تتبدل اللوحةُ فجأةً ويغدو دخول المحامي صاحب الخلفية الثقافية عوناً سردياً للسارد الأولي وهو المؤلف، حيث تقترب قامتا الساردين.
يصبح هذا الرجل الكولونيل السابق هو الراوي حين يطلب منه المحامي سرد قصته، وتحول الساردين وتتابعهم هو كذلك جزء من طبيعة الروي البلزاكي.
شارك الكولونيل في معركة يقودها نابليون ضد الروس في ألمانيا، فيذكر اللحظات الأخيرة في سقوطه ونتائج هذا السقوط:
(وسقط الحصانُ وفارسُهُ إذن واحدٌ فوق الآخر. وكان أن غُطيت بجثةِ جوادي التي حالتْ دون أن تدوسني الخيول أو أن تصيبني القذائف)، ص23.
أصابت ضربةٌ نارية رأسَهُ وحفرته بعمق، وحالت الجثثُ المختلفة دون موته، وصعدَ من خلالها بعد فترة، فاقداً الذاكرة لبعض الوقت وفاقداً أوراقه وعالمه العسكري السياسي كله.
تحول القائد العسكري إلى قتيل في الأوراق الرسمية، وظل يهيمُّ كمتشردٍ وساعده زوجان على تحديد حالته وتنظيم محضر بحالته، ولكن حالت الحربُ والظروف دون عودته لبلده ووضعه، في حين توجهت زوجته للزواج من رجلٍ نبيل وأنجبت من الزوج الجديد ولدين، فغدت عودته لوضعه السابق مستحيلة.
دخل النموذج في حالة ترميز فالضابط الكبير الذي سار مع جيش نابليون عبر العالم، لم يجد هذا الجيش الغازي، بل وجد أعداءه في باريس، والثورة التي طردتْ الإقطاعيين ورجال الدين هُزمتْ، وعاد هؤلاء لمركزِ السلطة، فغدا بمثابةِ شبحٍ لها، فهو جزءٌ مهزومٌ مشوه عاد إلى فرديته المسحوقة وسقطت إشاراتُها ومركزها، فالزوجة التي مثلت رمزاً مضاداً صعدت للنبالة وغدا زوجها الجديد النبيل يحذر من ماضيها، وأي هزة تأتي من صوب الماضي كفيلة بهدم الزواج.
الترميز يغدو فردياً، وحالة الكولونيل شابير تغدو مقطوعة الروابط مع حالةِ البرجوازية الثورية السابقة حيث أن وجوده العسكري في خدمة نابليون الذي عسّكر الثورة ثم حطمَ مثُلَها بغزوه للبلدان الأخرى، تعبير عن إنهيار المُثُل الثورية الديمقراطية وتحولها لغزو وصناعة إستبداد في الدول المغزوة.
ولهذا فإن شابير لا يستعيد تلك المُثُل أو يحدث مقارنات على مستويات عدة بين الحالة الجمهورية والحالة المَلكية العائدة، فهو فردي نمطي، لهذا فهو لا يقيم أية علاقات مع النماذج المتضررة من عودة المَلكية، وهو لا يصطدم بجوانب موضوعية من الزمن الجديد تكشف جوانب من شخصية ذات عمق كذلك.
فمطلبه الرئيس هو العودة لمركز العسكري ووضعه العائلي، وحين لا يجدهما يتحلل، ويصير قمامةً من العهد النابليوني البائد.
لهذا فإن شخصية المحامي المتعاطف والمهني المستفيد تلعب دور كشف الحالة في حقيقة حيثياتها، ومدى إنطبلق أقواله على شخصه.
وهو أمرٌ يوسعُ دائرةَ البؤرة، ينقلُها لمكانِ عيشِ الكولونيل في الضواحي الرثة ذات الظروف الحِرفية العتيقة، وإلى ظروف الزوجة المرفهة التي غدت ارستقراطية، وهذا مظهران يعكسان تنامي التناقضات الطبقية في المجتمع الرأسمالي الوليد المتسع.
تدخل الرواية دائرة الحِيل والمناورات القانونية، وتنتقل لمكان عيش الزوجة وعلاقاتها الجديدة، وتذبذبها بين الماضي والحاضر الزوجيين، مدركة أين تكمن مصالحها وأتجاهها، محيلةً مناورات المحامي التي تحصرُها في زاويةٍ ضيقة مهددةً وضعَها الطبقي الجديد بالانهيار، إلى مناوراتٍ وخدع للزوج الأول السابق، بحيث تجعله يخسر قضيته الرابحة بنفسه.
تحلل الشخصية العسكرية وتدهورها نحو الجنون يبقى شأناً ضيقاً فردياً، بحيث أن الوضع المختل القائم ذاتياً وموضوعياً، لم يتغير بل يعود الوضع للوراء.
لهذا تغدو الرواية قصيرة، ذات روابط قليلة، فزخم الشخصية المحورية كانت لحظة خروجه من تحت الجثث ومن تحت الأنقاض الاجتماعية، وإعادة شخصه، ولكنه حين يهمل هذا التطور تذبل الروابط الفنية والاجتماعية.
فلا نجد فرقاً كبيراً بين دفنه بين الجثث الميتة وبين وجوده في مركز الطب النفسي، والتشوه النفسي السياسي بدأ منذ إرتباطه بالجيش، لكنه لم يحاكم هذا الوضع، بل ظل له مفخرة، ولهذا فإن مرئيات الزمن العسكري وتحدياته البطولية تظل معدومة.
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp...
http://www.alraafed.com/2017/05/19/8751/
http://www.akhbar-alkhaleej.com/12744...
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
تطور الأنواع الأدبية العربية
Published on September 08, 2019 14:29
•
Tags:
1-بلزاك-الرواية-والثورة
No comments have been added yet.


