روايات الصوفية لا المتصوفة
ثمة توجه غير معهود نحو كتابة الروايات التي تتمحور حول شخصيات تاريخية اتخذت من التصوف والعرفان منهجاً حياتياً تعبدياً في فهمها للتوحيد. ولعل هذا الأمر يرجع إلى العديد من البواعث أهمها الاهتمام العالمي وكذلك العربي المتعاظم بالصوفية والمتصوفة، وهو الاهتمام الذي لا يعود بجذوره إلى فترات متأخرة ولا إلى عهود النهضة الغربية وتعاظم ترجمة التراث والمؤلفات العربية والإسلامية، بل إلى القرون الإسلامية الأولى التي جايلت ظهور المتصوفة الأوائل أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار وإبراهيم الأدهم ورابعة العدوية وأبو هاشم الصوفي الكوفي ومعروف الكرخي (القرن الثاني الهجري). ويتعلق العامل الاخر بنجاح الأعمال العديدة التي تمحورت حول المتصوفة مثل قواعد العشق الأربعون (أليف شافاك) التي ترجمت إلى عدة لغات وبيعت منها مئات الآلاف من النسخ ورواية موت صغير (محمد حسن علوان الفائزة بالبوكر هذا العام) وبنت مولانا (مورل مفروي) والرومي نار العشق (نهال تجدد) وأعمال عديدة غيرها. وثالثاً رغبة بعض الكتاب بطرق باب الصوفية لإقبال القراء بشكل ملفت عليها، وليحفر هذا الكاتب اسمه في سماء الرواية باعتباره ولج مسلكاً صعباً غير تقليدي على خلاف السواد الأعظم من الروايات العربية الحالية التي تعالج الواقع تماماً أو تتطرق لحوادث تاريخية معروفة. والعامل الأخير يتعلق بنهم دور النشر لطباعة ونشر هذه الأعمال وتسويقها للقارئ. في معارض الكتب التي حضرتها مثل معرض أبوظبي والشارقة، لاحظت اقبال شريحة واسعة من القراء والمرتادين إلى مؤلفات وروايات الصوفية ظناً منهم إن قراءة عمل أو عملين يميط اللثام عنه وينقلهم للعيش في أجواء "خاصة" في عالم جديد بالكامل بعيد عن الماديات. لذا نرى تسابق دور النشر إلى طباعة كل ما يمت بالصوفية حتى بات الرومي والتبريزي ومحيي الدين ابن عربي نجوم معارض الكتب والمكتبات ونشرت مؤلفات عنهم بنحو فاق عدد الكتب التي تناولت الصحابة الأجلاء. وأتوقع خلال الفترات المقبلة صدور العديد من الروايات التي تتناول شخصيات صوفية مهمة مثل عبد القادر الجيلاني، وفريد الدين العطار وابن الفارض والخلاج وصدر الدين الشيرازي والغزالي وغيرهم كثيرون.
ومع ذلك ثمة الكثير من الملاحظات عن هذه الروايات:
أولاً: الروايات الأربع المشار إليها في أعلاه متكاملة فنياً وبنائياً وسردياً وبذل مؤلفوها جهوداً بائنة في اخراج نصوص جميلة عالجت حيوات شخصيات مهمة ممن عرف عنها بالتصوف مثل محيي الدين ابن عربي وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي. نجحت هذه الأعمال في نقل القارئ إلى قلب الحدث: الوصف المكاني والزماني والحدثي المتعدد على لسان الشخصيات الرئيسة أو على لسان الشخص الثالث وتسليط الضوء على الارهاصات السياسية والاجتماعية والفكرية التي عاشتها المدن التي كانت مسرحاً للأحداث التاريخية مثل قونية، دمشق، المغرب العربي، وبغداد.
ثانياً: هي روايات متصوفة أكثر مما هي صوفية فهي تتطرق بشكل كبير إلى حياة المتصوفة الاعتيادية لا تلك العرفانية والمكاشفات الروحية والتوحيد الخاص بهم الذي يختلف عن سائر البشر، التوحيد الذي يكون وجوده الحقيقي منحصر بالله وحده وما عداه مظهره لا وجوده. فهذا المتصوف العارف لا يرى في توحيده شيئاً إلا الله وسفره الروحي يتمثل في طي الطريق والوصول إلى مرحلة لا يرى فيها إلا الله. مثل هذه الأعمال يجب أن تكون حافلة بالمونولوجات (الحوارات الذاتية) والحضور الروحي لا البدني للشخصية الرئيسة في أكثر من موضع ومكان. عندما نكتب عن حياة شاعر لا بد أن تستحضر ملكته الشعرية وحواراته الأدبية ولحظات التأمل في الذات التي يعيشها ليستلهم منها الصورة الشعرية الجميلة. الأمر ينطبق على حياة العلماء والفنانين والمبدعين، وإلا لن تختلف رواية تعالج حياة متصوف عن عالم كيمياء أو شاعر جاهلي أو وزير ملك عباسي، إلا في الفترات التاريخية التي جايلها تلك الشخصية. مع إنها أعمال روائية مهمة جذبت شريحة واسعة من القراء نحو التعرف عن كثب على التصوف ومفهومه، أراها- شخصياً- تفتقر إلى الأصالة، بمعنى أنها لم تخرج من الإطار الشخصي والتاريخي المرتبط بأحداث معروفة تداولتها كتب التاريخ العديدة وأثرت في حياة الصوفيين. لم تضف هذه الأعمال للقارئ أية معرفة عميقة وأصيلة عن الصوفية لأن هؤلاء الروائيين طرقوا الطريق الأسهل، حياة المتصوفة، الذي يوفر أرضية متكاملة للبناء الروائي والسردي.
ثالثاً: خرجت الكثير من الشخصيات الروائية مثل جلال الدين وابن عربي بصورة ضعيفة بقصد أو دون قصد، وربما لغياب الفهم الحقيقي لطريقة تفكير الشخصية "صوفياً" أو لحرص الكاتب بألا يحسب مائلاً لمثل هذا التوجه (الصوفية في نظر البعض لون من الكفر). ففي رواية مهمة جداً مثل موت صغير التي تناولت حياة المتصوف الأشهر ابن عربي الذي يلقبه اتباعه بـ "الامام الأكبر"، لم أجد أي لمسات صوفية فيها سوى بعض الأقوال التي أدرجها الكاتب في بداية كل فصل، فشعرت إنني قرأت عن "محيي الدين" وليس "ابن عربي". وهذا الحوار (الذي عرضته في مقالتي قبل عدة أشهر عن فوز موت صغير بالبوكر) تظهر تفكيراً ساذجاً وفهماً جد سطحي لآيات القرآن.
التفت الحريري ناحيتي [أي ناحية ابن عربي باعتباره السارد الأول] وقال:
- أتصح صلاتنا ونحن سكارى؟
- أتعلم ما تقول؟
- نعم
- إذن تصح صلاتك، فالآية تقول "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون".
في هذا المشهد يصف ابن عربي حالهم بعد شرب الخمرة، والكاتب غير ملتفت إن سكارى لا تعني المخمور، بل سكر الذهن والبال، ولكن تداخل عليها مفهوم الكلمة حاضراً لا ماضياً، فالمعنى الحقيقي "الظاهري" لكلمة سكران هو مشوش الذهن، وإن الله تعالى يريد من الإنسان أن يقبل على الصلاة وهو صافي الذهن، بفكر خالص. وقد وردت الكلمة في موضع آخر في القرآن الكريم بهذا المعنى لوصف حال يوم القيامة "وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد" (الحج 2) ولكن ابن عربي، الإمام الأكبر، على ما يبدو لا يفقه حتى المعنى الظاهري للآية الشريفة.
رابعاً: هل عجز الخيال الروائي العربي من تقديم شخصيات جديدة غير تلك المعروفة ذات توجه صوفي/عرفاني خالص تفيض الحكمة والمعرفة على أفواههم ويعيشون حياتهم الصوفية الخاصة؟ لماذا هذا الالتصاق بالشخصيات التاريخية وبسرد حياتها عند كتابة رواية صوفية؟ حقيقة أجد رواية مثل "ترنيمة سلام" للكاتب الشاب أحمد عبد المجيد انها تحمل لمسات صوفية جميلة أكثر أصالة من عديد من الأعمال، حتى المشار إليها في أعلاه، فهو لم يلجأ لكتب التاريخ لتوفر له جل العمل، بل اعتمد في خياله المحض لتقديم شخصية شاب ذي نفحات تأملية.
أخيرا وليس آخر: هل يجب على كاتب الروايات الصوفية أن يكون متصوفاً أو صاحب طريقة أو من مؤيدي الصوفية؟ والجواب بكل تأكيد "لا" ولكن كما يقول المثل "ما لا يدرك كله، لا يترك جله". على الكاتب عندما يطرق باباً مهماً للكتابة عنه أن يهبه حقه المستحق وقدره من القراءة والمطالعة والبحث والتمحيص، لا أن يتعامل معه سطحياً أو حتى تجارياً من أجل اصدار رواية في هذا الحقل أو الجانب. الصوفية والعرفان يحتاجان إلى سنوات من البحث والقراءة المستفيضة من أجل أن يكون الروائي قادراً حتى لو بالدرجة الدنيا في استشراف بعض من طريقة فكر وتفكير المتصوفة لكي لا يكون العمل سيرة حياة المتصوف اليومية برتوش أدبية. فالأجدر بهذه الأعمال أن تصبح نصوصاً تاريخية لا روائية بالمعنى الخيالي للرواية وتضاف إلى مؤلفات جرجي زيدان وكتاب "حياة الامام علي" للشيخ عبد الفتاح عبد المقصود (تسعة أجزاء).
ومع ذلك ثمة الكثير من الملاحظات عن هذه الروايات:
أولاً: الروايات الأربع المشار إليها في أعلاه متكاملة فنياً وبنائياً وسردياً وبذل مؤلفوها جهوداً بائنة في اخراج نصوص جميلة عالجت حيوات شخصيات مهمة ممن عرف عنها بالتصوف مثل محيي الدين ابن عربي وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي. نجحت هذه الأعمال في نقل القارئ إلى قلب الحدث: الوصف المكاني والزماني والحدثي المتعدد على لسان الشخصيات الرئيسة أو على لسان الشخص الثالث وتسليط الضوء على الارهاصات السياسية والاجتماعية والفكرية التي عاشتها المدن التي كانت مسرحاً للأحداث التاريخية مثل قونية، دمشق، المغرب العربي، وبغداد.
ثانياً: هي روايات متصوفة أكثر مما هي صوفية فهي تتطرق بشكل كبير إلى حياة المتصوفة الاعتيادية لا تلك العرفانية والمكاشفات الروحية والتوحيد الخاص بهم الذي يختلف عن سائر البشر، التوحيد الذي يكون وجوده الحقيقي منحصر بالله وحده وما عداه مظهره لا وجوده. فهذا المتصوف العارف لا يرى في توحيده شيئاً إلا الله وسفره الروحي يتمثل في طي الطريق والوصول إلى مرحلة لا يرى فيها إلا الله. مثل هذه الأعمال يجب أن تكون حافلة بالمونولوجات (الحوارات الذاتية) والحضور الروحي لا البدني للشخصية الرئيسة في أكثر من موضع ومكان. عندما نكتب عن حياة شاعر لا بد أن تستحضر ملكته الشعرية وحواراته الأدبية ولحظات التأمل في الذات التي يعيشها ليستلهم منها الصورة الشعرية الجميلة. الأمر ينطبق على حياة العلماء والفنانين والمبدعين، وإلا لن تختلف رواية تعالج حياة متصوف عن عالم كيمياء أو شاعر جاهلي أو وزير ملك عباسي، إلا في الفترات التاريخية التي جايلها تلك الشخصية. مع إنها أعمال روائية مهمة جذبت شريحة واسعة من القراء نحو التعرف عن كثب على التصوف ومفهومه، أراها- شخصياً- تفتقر إلى الأصالة، بمعنى أنها لم تخرج من الإطار الشخصي والتاريخي المرتبط بأحداث معروفة تداولتها كتب التاريخ العديدة وأثرت في حياة الصوفيين. لم تضف هذه الأعمال للقارئ أية معرفة عميقة وأصيلة عن الصوفية لأن هؤلاء الروائيين طرقوا الطريق الأسهل، حياة المتصوفة، الذي يوفر أرضية متكاملة للبناء الروائي والسردي.
ثالثاً: خرجت الكثير من الشخصيات الروائية مثل جلال الدين وابن عربي بصورة ضعيفة بقصد أو دون قصد، وربما لغياب الفهم الحقيقي لطريقة تفكير الشخصية "صوفياً" أو لحرص الكاتب بألا يحسب مائلاً لمثل هذا التوجه (الصوفية في نظر البعض لون من الكفر). ففي رواية مهمة جداً مثل موت صغير التي تناولت حياة المتصوف الأشهر ابن عربي الذي يلقبه اتباعه بـ "الامام الأكبر"، لم أجد أي لمسات صوفية فيها سوى بعض الأقوال التي أدرجها الكاتب في بداية كل فصل، فشعرت إنني قرأت عن "محيي الدين" وليس "ابن عربي". وهذا الحوار (الذي عرضته في مقالتي قبل عدة أشهر عن فوز موت صغير بالبوكر) تظهر تفكيراً ساذجاً وفهماً جد سطحي لآيات القرآن.
التفت الحريري ناحيتي [أي ناحية ابن عربي باعتباره السارد الأول] وقال:
- أتصح صلاتنا ونحن سكارى؟
- أتعلم ما تقول؟
- نعم
- إذن تصح صلاتك، فالآية تقول "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون".
في هذا المشهد يصف ابن عربي حالهم بعد شرب الخمرة، والكاتب غير ملتفت إن سكارى لا تعني المخمور، بل سكر الذهن والبال، ولكن تداخل عليها مفهوم الكلمة حاضراً لا ماضياً، فالمعنى الحقيقي "الظاهري" لكلمة سكران هو مشوش الذهن، وإن الله تعالى يريد من الإنسان أن يقبل على الصلاة وهو صافي الذهن، بفكر خالص. وقد وردت الكلمة في موضع آخر في القرآن الكريم بهذا المعنى لوصف حال يوم القيامة "وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد" (الحج 2) ولكن ابن عربي، الإمام الأكبر، على ما يبدو لا يفقه حتى المعنى الظاهري للآية الشريفة.
رابعاً: هل عجز الخيال الروائي العربي من تقديم شخصيات جديدة غير تلك المعروفة ذات توجه صوفي/عرفاني خالص تفيض الحكمة والمعرفة على أفواههم ويعيشون حياتهم الصوفية الخاصة؟ لماذا هذا الالتصاق بالشخصيات التاريخية وبسرد حياتها عند كتابة رواية صوفية؟ حقيقة أجد رواية مثل "ترنيمة سلام" للكاتب الشاب أحمد عبد المجيد انها تحمل لمسات صوفية جميلة أكثر أصالة من عديد من الأعمال، حتى المشار إليها في أعلاه، فهو لم يلجأ لكتب التاريخ لتوفر له جل العمل، بل اعتمد في خياله المحض لتقديم شخصية شاب ذي نفحات تأملية.
أخيرا وليس آخر: هل يجب على كاتب الروايات الصوفية أن يكون متصوفاً أو صاحب طريقة أو من مؤيدي الصوفية؟ والجواب بكل تأكيد "لا" ولكن كما يقول المثل "ما لا يدرك كله، لا يترك جله". على الكاتب عندما يطرق باباً مهماً للكتابة عنه أن يهبه حقه المستحق وقدره من القراءة والمطالعة والبحث والتمحيص، لا أن يتعامل معه سطحياً أو حتى تجارياً من أجل اصدار رواية في هذا الحقل أو الجانب. الصوفية والعرفان يحتاجان إلى سنوات من البحث والقراءة المستفيضة من أجل أن يكون الروائي قادراً حتى لو بالدرجة الدنيا في استشراف بعض من طريقة فكر وتفكير المتصوفة لكي لا يكون العمل سيرة حياة المتصوف اليومية برتوش أدبية. فالأجدر بهذه الأعمال أن تصبح نصوصاً تاريخية لا روائية بالمعنى الخيالي للرواية وتضاف إلى مؤلفات جرجي زيدان وكتاب "حياة الامام علي" للشيخ عبد الفتاح عبد المقصود (تسعة أجزاء).
Published on February 14, 2019 08:15
•
Tags:
صوفية-تصوف-روايات-ادب-خيال-قصص
No comments have been added yet.