عمار الثويني Ammar Al Thuwaini's Blog
March 18, 2019
لغة الرواية: الفصحى أم العامية
عمار الثويني
مقال رأي- عمار الثويني
أشرت في عرضي لرواية اعدام رسام للكاتب سلام إبراهيم والمنشورة قبل عدة أشهر بأن لغة السرد الروائي- العربية طبعاً- كانت الحلقة الأضعف في خضم التطورات الكبيرة التي شهدها الفن الروائي في العقود الأخيرة. وهذا الضعف أسهم في ولادة نصوص من الصعب وصفها بالأدبية حتى لو حملت بعض سمات الأدب بين ثنايا الرواية، فهي تجمع ما بين اللغة التقريرية والصحافية وما بات يعرف بلغة المدونات لتشابهها الكبير باللغة المستخدمة في وسائل التواصل الاجتماعي: مباشرة وبجمل قصيرة وذوات أفكار سطحية.
وفي هذا المقال أود أن أسلط الضوء على وجهة نظري الداعية إلى عدم استخدام اللهجات العامية في الرواية أو تقنينها بدرجة كبيرة، خاصة بعد ظهور بعض الأعمال المكتوبة بالكامل بها. وهي وجهة نظر شخصية بحتة يختلف معي كثيرون وهذا أمر طبيعي واعتيادي. وهذا الأمر لا يعني عدم استخدام أية كلمة عامية، بل بعض الكلمات والعبارات تضفي جمالية خاصة على النص، لكن استخدام جمل كاملة باللهجة العامية يوهن السرد.
ورأيي هذا يقوم على عدة نقاط من أهمها:
أولاً: إن اللغة العربية، وأقصد بها اللغة الفصحى، منقرضة على صعيد التداول اليومي شفاهياً، ولا يتحدث بها أبناؤها إلا في الأفلام/المسلسلات التاريخية وفي مراكز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، إضافة إلى نشرات الأخبار. أما اللغة المكتوبة، فهي مستخدمة على نطاق واسع وتمثل اللغة الرسمية للمؤسسات الحكومية والخاصة وكذلك لشريحة واسعة من أفراد المجتمع. لقد أفضى شيوع اللهجة العامية إلى تحول بعض الفنون الأدبية مثل المسرحية إلى مجرد عروض للضحك والتهريج، بينما يعيش الشعر العربي العمودي والحر في حالة احتضار مقابل قصيدة التفعيلة التي يجب أن تكون مكملة للشعر، لا بديلاً عنه.
ثانياً: إن لغة السرد تحتل جزءاً مهماً من كامل العمل الروائي الطويل نسبياً، حيث تتوزع الرواية ما بين الوصف والسرد والحوار. إن ادراج الحوار باللهجة العامية يؤثر بشكل كبير في جمالية وانسيابية السرد، خاصة أن بعض الفقرات الحوارية تأتي مباشرة بعد صفحات من السرد الجميل والبليغ، مما يجعل منه نصاً مرقعاً.
ثالثاً: اللغة العربية تملك نحواً مميزاً يحمل الكثير من السمات الجمالية والابداعية والبلاغية التي تتيح للكاتب مجالاً رحباً لإظهار قدراته ومعرفته بخبايا وأسرار هذه اللغة العظيمة. اللهجة العامية لا تملك قواعد أو نحواً واضحاً، وبالتالي لا تملك سمات جمالية تجعل القارئ يتأمل بالجمل والعبارات المسرودة بها، فضلاً عن أنها لا تشكل منصة لتمييز قدرة كاتب عن آخر من المهارات اللغوية والسرد الأدبي عن غيره. وحتى على صعيد الكتابة والاملاء، ظهر في اللهجات العامية مثل العراقية عدد من الحروف غير العربية أصلاً، وغير معترف بها ضمن الأبجدية العربية. هذا الأمر يجعل النص المسرود بالعامية هجيناً وغريباً لدى كثير من القراء، خاصة بالنسبة لغير العراقيين.
رابعاً: إلى جانب النحو والقواعد، تملك اللغة الفصيحة بذخاً في المفردات والتراكيب التي تتيح للكاتب حرية الاختيار على عكس العامية، وبذلك يكون قادراً على تقديم نص "أدبي جميل". خذ مثلاً كلمة "شعرَ" البسيطة جداً. يمكنني ابدالها بكلمة أحسَّ، أدرك، أيقن، فَطِنَ وغيرها، إضافة إلى تنوع استخدام المصدر (الاسم) ذاته، فأقول مثلاً: يعتريني، يخالجني، يراودني، يتملكني، يهيم بي، يحيق بي (شعور). وعلى صعيد ترتيب الجملة، تتيح اللغة الفصيحة العديد من الخيارات البلاغية على عكس العامية. لنأخذ جملة بسيطة مثل: "لاذت الأم بالصمت على الرغم من الألم". بوسعنا القول: لاذت الأم، رغم الألم، بالصمت، ونكتب أيضاً: على الرغم من الألم، لاذت الأم بالصمت. وبمقدورنا القول أيضاً: لاذت الأم بالصمت والألم. مثل هذه المرونة غير متاحة في اللهجة العامية.
خامساً: مع أن حجة كثيرين باللجوء إلى العامية في الحوارات كونها الأقرب إلى الواقع دون تكلف وتسهم في إيصال الفكرة المطلوبة مباشرة، وهو أمر صحيح واتفق معه، لكن استخدام اللغة الفصحى لا أراه تضعيفاً للنص، بل تقوية له، فالقارئ، وهو يطالع رواية، يتوقع نصاً أدبياً "جيداً". أضف إلى ذلك، إن اللغة الفصحى المستخدمة خلال الحوار هي مألوفة جداً للقارئ خاصة مع كثرة الروايات والأعمال الأدبية المترجمة عن اللغات العالمية. هذه الترجمات لو اتخذت اللهجة العامية بدلاً من الفصحى ستكون محل استهجان لدى الجميع. وأخيراً وليس آخر فإن القارئ يركز على الفكرة بينما يبحث العديد من القراء عن اقتباسات جميلة، ولو كانت بالعامية لما كانت محل ترحيب بالنسبة لهم.
سادساً: يرى البعض أن استخدام اللهجة العامية يسهم في نشر هذه اللهجة بين بقية الدول العربية على عكس الفصحى. وهذا أمر مردود، لأن تأثير الرواية في العالم العربي محدود مقارنة مع الأفلام والمسلسلات التي تشاهدها شرائح واسعة من المجتمع. اللهجة المصرية انتشرت بفضل السينما والدراما المصرية، وكذلك اللبنانية، ولم يكن للرواية تلك المساهمة الكبيرة. أضف إلى ذلك أن القارئ العربي يميل إلى أدب/كتّاب بلاده أكثر من بقية الدول العربية في الأعم الأغلب كون المواضيع الأقرب إلى وجدانه. لذلك ليس مستغرباً أن نرى كاتباً مشهوراً في بلده، وغير معروف في بقية الدول العربية لأسباب تتعلق بضعف التوزيع وقلة الأعداد المطبوعة(تطبع عادة ألف نسخة من كل رواية، وهو عدد محدود مقارنة مع عدد سكان الدول العربية- أكثر من 450 مليون نسمة).
سابعاً: اللهجات العامية عديدة ومتنوعة والكثير منها صعبة. حتى في البلد الواحد وربما في المكان الواحد، ثمة أكثر من لهجة يتحدث بها أبناء تلك المنطقة. وجدت الكثير من النصوص المكتوبة باللهجة العامية لا تفسر للقارئ المعنى ولا تشرح له المبغى من هذه الجملة أو تلك (أحياناً يدرج الروائي الشروحات في نهاية العمل). ومثل هذا الأمر يؤثر في سلاسة القراءة. خذ مثلاً كلمة "العِيش" (بكسر العين) فهي تعني في مصر الخبز، وفي دول الخليج يقصد بها الرز ولا أدري معناها في بقية الدول. لو استخدمنا مثلاً الرز/الأرز الفصيحة والمعروفة لدى الجميع، لما التبس المعنى على القارئ.
ثامناً: قد يرى البعض أن اللهجة حالة تطور للغة، وأن اللغة العربية لغة "قديمة" لا تصلح للواقع الحالي، وأقصد به في الحوار بشكل خاص. اللهجة لن تكون بديلاً أبداً عن اللغة، واللغة تتطور طبيعياً لا أن يكون هذا التطور حالة "اجبارية مرغمة عليها". في اللغة الإنجليزية ثمة العشرات من الكلمات الجديدة التي تدخل كل عام وتضاف إلى خزين المفردات. والأمر ينطبق على اللغة العربية التي شهدت دخول مفردات جديدة وأجدها شخصية جميلة وممتعة. لا أرى بأساً في استخدام كلمات مثل "قنفة"، "بيتونة"، "كاروك"، "قفّاص"، "علاّس"، وغيرها من الكثير من المفردات شائعة التداول. وفي المقابل، فإن بعض الكلمات العربية الفصيحة مثل "مندوحة"، "مناص"، "تثريب" لم تعد مستخدمة حتى في النصوص الأدبية المعاصرة.
تاسعاً: القول إن اللغة الفصيحة لا تليق ببعض الشخصيات المدرجة في العمل الروائي، خاصة غير المتعلمين، هو أمر يحمل الكثير من الدقة. الحل يكمن في براعة الروائي، أن يحيك لشخصياته الحوار الذي يليق بخلفية كل واحد وقدراته بطريقة حذقة. الفخ الذي يسقط فيه البعض في منح بعض الشخصيات منزلة أكبر من قدراتها الثقافية، أو يساوي ما بين الشخصيات خلال حديثهم كأنه قد اقتطع جزءاً من حوار كامل ووزعه بينهم غير آبه بالأدوار والخلفيات.
عاشراً: يرى البعض أن استخدام اللغة الفصيحة يحجم من الحوار، وأنا شخصياً أحبذ تقليل الحوار قدر الإمكان وجعله مقتصراً تماماً على ما له علاقة بالأحداث. بعض الحوارات تأخذ صفحات كاملة خلال السرد لكأنها محاضرة من أستاذ لا يريد أحد مقاطعته، وبعض الحوارات مجرد حشو لا فائدة منه سوى إملاء الصفحات. وبوسع الكاتب اللجوء إلى المونولوج (الحوار الذاتي) الذي أراه عنصراً مهماً خاصة عندما تكون الشخصية شاعرة بالخوف من البوح بمكنونات دواخلها أو لا ترى فائدة من الخوض في حديث مع شخصيات لا تتفق مع آرائها، أو حتى للاختصار لاعطاء السرد مساحة أكبر.
هذه مجرد ملاحظات وكما أوضحت في بداية مقالي، قد يتفق ويختلف معي كثيرون، ولكل واحد منا وجه نظر احترمها كثيراً.
مقال رأي- عمار الثويني
أشرت في عرضي لرواية اعدام رسام للكاتب سلام إبراهيم والمنشورة قبل عدة أشهر بأن لغة السرد الروائي- العربية طبعاً- كانت الحلقة الأضعف في خضم التطورات الكبيرة التي شهدها الفن الروائي في العقود الأخيرة. وهذا الضعف أسهم في ولادة نصوص من الصعب وصفها بالأدبية حتى لو حملت بعض سمات الأدب بين ثنايا الرواية، فهي تجمع ما بين اللغة التقريرية والصحافية وما بات يعرف بلغة المدونات لتشابهها الكبير باللغة المستخدمة في وسائل التواصل الاجتماعي: مباشرة وبجمل قصيرة وذوات أفكار سطحية.
وفي هذا المقال أود أن أسلط الضوء على وجهة نظري الداعية إلى عدم استخدام اللهجات العامية في الرواية أو تقنينها بدرجة كبيرة، خاصة بعد ظهور بعض الأعمال المكتوبة بالكامل بها. وهي وجهة نظر شخصية بحتة يختلف معي كثيرون وهذا أمر طبيعي واعتيادي. وهذا الأمر لا يعني عدم استخدام أية كلمة عامية، بل بعض الكلمات والعبارات تضفي جمالية خاصة على النص، لكن استخدام جمل كاملة باللهجة العامية يوهن السرد.
ورأيي هذا يقوم على عدة نقاط من أهمها:
أولاً: إن اللغة العربية، وأقصد بها اللغة الفصحى، منقرضة على صعيد التداول اليومي شفاهياً، ولا يتحدث بها أبناؤها إلا في الأفلام/المسلسلات التاريخية وفي مراكز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، إضافة إلى نشرات الأخبار. أما اللغة المكتوبة، فهي مستخدمة على نطاق واسع وتمثل اللغة الرسمية للمؤسسات الحكومية والخاصة وكذلك لشريحة واسعة من أفراد المجتمع. لقد أفضى شيوع اللهجة العامية إلى تحول بعض الفنون الأدبية مثل المسرحية إلى مجرد عروض للضحك والتهريج، بينما يعيش الشعر العربي العمودي والحر في حالة احتضار مقابل قصيدة التفعيلة التي يجب أن تكون مكملة للشعر، لا بديلاً عنه.
ثانياً: إن لغة السرد تحتل جزءاً مهماً من كامل العمل الروائي الطويل نسبياً، حيث تتوزع الرواية ما بين الوصف والسرد والحوار. إن ادراج الحوار باللهجة العامية يؤثر بشكل كبير في جمالية وانسيابية السرد، خاصة أن بعض الفقرات الحوارية تأتي مباشرة بعد صفحات من السرد الجميل والبليغ، مما يجعل منه نصاً مرقعاً.
ثالثاً: اللغة العربية تملك نحواً مميزاً يحمل الكثير من السمات الجمالية والابداعية والبلاغية التي تتيح للكاتب مجالاً رحباً لإظهار قدراته ومعرفته بخبايا وأسرار هذه اللغة العظيمة. اللهجة العامية لا تملك قواعد أو نحواً واضحاً، وبالتالي لا تملك سمات جمالية تجعل القارئ يتأمل بالجمل والعبارات المسرودة بها، فضلاً عن أنها لا تشكل منصة لتمييز قدرة كاتب عن آخر من المهارات اللغوية والسرد الأدبي عن غيره. وحتى على صعيد الكتابة والاملاء، ظهر في اللهجات العامية مثل العراقية عدد من الحروف غير العربية أصلاً، وغير معترف بها ضمن الأبجدية العربية. هذا الأمر يجعل النص المسرود بالعامية هجيناً وغريباً لدى كثير من القراء، خاصة بالنسبة لغير العراقيين.
رابعاً: إلى جانب النحو والقواعد، تملك اللغة الفصيحة بذخاً في المفردات والتراكيب التي تتيح للكاتب حرية الاختيار على عكس العامية، وبذلك يكون قادراً على تقديم نص "أدبي جميل". خذ مثلاً كلمة "شعرَ" البسيطة جداً. يمكنني ابدالها بكلمة أحسَّ، أدرك، أيقن، فَطِنَ وغيرها، إضافة إلى تنوع استخدام المصدر (الاسم) ذاته، فأقول مثلاً: يعتريني، يخالجني، يراودني، يتملكني، يهيم بي، يحيق بي (شعور). وعلى صعيد ترتيب الجملة، تتيح اللغة الفصيحة العديد من الخيارات البلاغية على عكس العامية. لنأخذ جملة بسيطة مثل: "لاذت الأم بالصمت على الرغم من الألم". بوسعنا القول: لاذت الأم، رغم الألم، بالصمت، ونكتب أيضاً: على الرغم من الألم، لاذت الأم بالصمت. وبمقدورنا القول أيضاً: لاذت الأم بالصمت والألم. مثل هذه المرونة غير متاحة في اللهجة العامية.
خامساً: مع أن حجة كثيرين باللجوء إلى العامية في الحوارات كونها الأقرب إلى الواقع دون تكلف وتسهم في إيصال الفكرة المطلوبة مباشرة، وهو أمر صحيح واتفق معه، لكن استخدام اللغة الفصحى لا أراه تضعيفاً للنص، بل تقوية له، فالقارئ، وهو يطالع رواية، يتوقع نصاً أدبياً "جيداً". أضف إلى ذلك، إن اللغة الفصحى المستخدمة خلال الحوار هي مألوفة جداً للقارئ خاصة مع كثرة الروايات والأعمال الأدبية المترجمة عن اللغات العالمية. هذه الترجمات لو اتخذت اللهجة العامية بدلاً من الفصحى ستكون محل استهجان لدى الجميع. وأخيراً وليس آخر فإن القارئ يركز على الفكرة بينما يبحث العديد من القراء عن اقتباسات جميلة، ولو كانت بالعامية لما كانت محل ترحيب بالنسبة لهم.
سادساً: يرى البعض أن استخدام اللهجة العامية يسهم في نشر هذه اللهجة بين بقية الدول العربية على عكس الفصحى. وهذا أمر مردود، لأن تأثير الرواية في العالم العربي محدود مقارنة مع الأفلام والمسلسلات التي تشاهدها شرائح واسعة من المجتمع. اللهجة المصرية انتشرت بفضل السينما والدراما المصرية، وكذلك اللبنانية، ولم يكن للرواية تلك المساهمة الكبيرة. أضف إلى ذلك أن القارئ العربي يميل إلى أدب/كتّاب بلاده أكثر من بقية الدول العربية في الأعم الأغلب كون المواضيع الأقرب إلى وجدانه. لذلك ليس مستغرباً أن نرى كاتباً مشهوراً في بلده، وغير معروف في بقية الدول العربية لأسباب تتعلق بضعف التوزيع وقلة الأعداد المطبوعة(تطبع عادة ألف نسخة من كل رواية، وهو عدد محدود مقارنة مع عدد سكان الدول العربية- أكثر من 450 مليون نسمة).
سابعاً: اللهجات العامية عديدة ومتنوعة والكثير منها صعبة. حتى في البلد الواحد وربما في المكان الواحد، ثمة أكثر من لهجة يتحدث بها أبناء تلك المنطقة. وجدت الكثير من النصوص المكتوبة باللهجة العامية لا تفسر للقارئ المعنى ولا تشرح له المبغى من هذه الجملة أو تلك (أحياناً يدرج الروائي الشروحات في نهاية العمل). ومثل هذا الأمر يؤثر في سلاسة القراءة. خذ مثلاً كلمة "العِيش" (بكسر العين) فهي تعني في مصر الخبز، وفي دول الخليج يقصد بها الرز ولا أدري معناها في بقية الدول. لو استخدمنا مثلاً الرز/الأرز الفصيحة والمعروفة لدى الجميع، لما التبس المعنى على القارئ.
ثامناً: قد يرى البعض أن اللهجة حالة تطور للغة، وأن اللغة العربية لغة "قديمة" لا تصلح للواقع الحالي، وأقصد به في الحوار بشكل خاص. اللهجة لن تكون بديلاً أبداً عن اللغة، واللغة تتطور طبيعياً لا أن يكون هذا التطور حالة "اجبارية مرغمة عليها". في اللغة الإنجليزية ثمة العشرات من الكلمات الجديدة التي تدخل كل عام وتضاف إلى خزين المفردات. والأمر ينطبق على اللغة العربية التي شهدت دخول مفردات جديدة وأجدها شخصية جميلة وممتعة. لا أرى بأساً في استخدام كلمات مثل "قنفة"، "بيتونة"، "كاروك"، "قفّاص"، "علاّس"، وغيرها من الكثير من المفردات شائعة التداول. وفي المقابل، فإن بعض الكلمات العربية الفصيحة مثل "مندوحة"، "مناص"، "تثريب" لم تعد مستخدمة حتى في النصوص الأدبية المعاصرة.
تاسعاً: القول إن اللغة الفصيحة لا تليق ببعض الشخصيات المدرجة في العمل الروائي، خاصة غير المتعلمين، هو أمر يحمل الكثير من الدقة. الحل يكمن في براعة الروائي، أن يحيك لشخصياته الحوار الذي يليق بخلفية كل واحد وقدراته بطريقة حذقة. الفخ الذي يسقط فيه البعض في منح بعض الشخصيات منزلة أكبر من قدراتها الثقافية، أو يساوي ما بين الشخصيات خلال حديثهم كأنه قد اقتطع جزءاً من حوار كامل ووزعه بينهم غير آبه بالأدوار والخلفيات.
عاشراً: يرى البعض أن استخدام اللغة الفصيحة يحجم من الحوار، وأنا شخصياً أحبذ تقليل الحوار قدر الإمكان وجعله مقتصراً تماماً على ما له علاقة بالأحداث. بعض الحوارات تأخذ صفحات كاملة خلال السرد لكأنها محاضرة من أستاذ لا يريد أحد مقاطعته، وبعض الحوارات مجرد حشو لا فائدة منه سوى إملاء الصفحات. وبوسع الكاتب اللجوء إلى المونولوج (الحوار الذاتي) الذي أراه عنصراً مهماً خاصة عندما تكون الشخصية شاعرة بالخوف من البوح بمكنونات دواخلها أو لا ترى فائدة من الخوض في حديث مع شخصيات لا تتفق مع آرائها، أو حتى للاختصار لاعطاء السرد مساحة أكبر.
هذه مجرد ملاحظات وكما أوضحت في بداية مقالي، قد يتفق ويختلف معي كثيرون، ولكل واحد منا وجه نظر احترمها كثيراً.
Published on March 18, 2019 09:09
•
Tags:
رواية-فصحى-عامية-سرد-لغة-حوار
March 14, 2019
على الجيل الروائي الجديد أن يقرأ كثيرا
أحرص قدر ما يسعني الوقت على مطالعة النتاجات الروائية، خاصة الأعمال العراقية، لاهتمامي بالرواية ومتابعة ما يصدر في هذه المضمار، وأحيانا بطلب من بعض الأصدقاء/الصديقات الأعزاء للاطلاع على هذه الأعمال التي كتبوها وإبداء رأيي المتواضع جداً (أكتبها بكل صدق وأمانة على الخاص). وصراحة، كل ما أخشاه أن الجيل الجديد من الروائيين/الروائيات العراقيات، جله وليس كله، لا يملك ما يؤهله لمواصلة النجاحات والإنجازات المهمة التي حققتها الرواية العراقية منذ نشأتها، حيث شقت طريقها وحضورها بقوة وانجبت نصوصاً ونتاجات مميزة رغم كل ما تعانيه الرواية العراقية من ظلم وتهميش اعلامي وغبن في مجال الترويج والترجمة إلى اللغات الأُخر.
ولعل بعض الملاحظات التي رصدتها في هذا الجانب:
• الجيل الجديد بحاجة إلى قراءات واسعة في التاريخ والفكر والأدب والرواية بشكل خاص. ليس المطلوب قراءة جميع ما صدر، ولكن ليس من المقبول عدم مطالعة أي مما يصدر. هذه القراءة يجب أن تكون نقدية، يتثوب فيها المطالع جلباب الكاتب والشخصيات السائرة في حياة السرد، أن يلقط نقاط الضعف والقوة وأن يدرج ملاحظاته عن مجمل العمل لأنها ستكون له عوناً في عمله/أعماله اللاحقة.
• ثمة استعجال وقلة صبر لصدور العمل ولحظوة الشهرة. ليس المهم أن يقال عنك روائياً، بل الأهم ما الذي أضفته للمشهد الروائي والابداع الأدبي والتميز السردي. أنصح بعرض العمل قبل تقديمه لدار النشر على ناقد وكاتب وقارئ فطن، لا على واحد منهم. فكل شخص ينظر من زاوية مختلفة وبعض الملاحظات تكون مهمة لإثراء النص وتقويته.
• ليس المطلوب "الكتابة" كفعل، فالكل قادر على تأدية هذا العمل، بل الأهم ماذا تكتب، ولمن تكتب وكيف تكتب وما الجديد الذي تطمح وراء هذه الكتابة الروائية.
• بعض الأعمال لا تحمل صفة الرواية لغة وسرداً وبناءً فنياً، فهي مجرد خواطر/حكايات يومية لا رابط لها يلمع فيه الكتاب صورته الشخصية، أو قصة "ممطوطة" من مشهد واحد/موضوع بسيط مكرر، أو كوكتيل من النصوص المرقعة.
• يجب أن يتقبل الكاتب رأي/آراء الجمهور من القراء والنقاد برحابة بصدر. البشر بطبيعتهم يعشقون المديح ويكرهون النقد، فنحن لسنا أنبياء، ولكن ليس المطلوب أن نطرب للإطراء ونسقط من ينتقدنا ونخوض حرباً معه بالأصالة أو الوكالة. شخصياً، أطالع بعض النقاشات ولا تعجبني طريقة الطرح النقدية لأنها تهريجية أكثر من كونها علمية رصينة. ومن جانب آخر، فإن الآراء المطروحة بأسلوب رصين تجب مناقشتها بالأسلوب ذاته واحترام آراء القراء.
• يجب ألا تكون الجوائز منية الكاتب وهدفه الأسمى. الجوائز الروائية العربية، وواحدة منها هي الأهم، ذات معايير ترجح كفة الأعمال التجارية القابلة للانتشار أكثر من الأعمال الرصينة المبدعة ذات السرد المكثف والطرح الجريء، إضافة إلى تفضيلها النصوص المكتوبة بحيث تفهم بطريقة واحدة بعيداً عن التأويل والتفسير. ثمة كثير من الروائيين مثل تولستوي وكازنتزاكس لم يفوزوا بنوبل ولكن أعمالهم خلدها التاريخ، فظفروا بعقل ومحبة وقراءة جمهور عالمي واسع. نعم الجوائز مهمة، ولكن ثمة ما هو أهم، والمتمثل بالجانب الإبداعي
• لا أفهم كيف يقدر المرء على كتابة رواية ولم يقرأ لعمالقة الأدب العالمي والعربي والعراقي، وربما قراءته لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة من الروايات. نحن لا نعيش عصر المعجزات ونزول الوحي "الروائي" على هذا الكاتب/الكاتبة بحيث أن نتاجه هو أفضل من مرتفعات وذرينج أو البحث عن الزمن المفقود أو مائة عام من العزلة. ما تراه معجزة روائية وفتح سردي يراه غيرك كتابات لا ترقى إلا إلى بوح شخصي عقيم و"حدوتة" يعيشها الجميع.
• على الراغب بدخول مجتمع الروائيين معرفة أن الرواية أكبر منه، أن تكون علاقته تكافلية لا أنانية. ليس المهم أن تحمل صفة الروائي، بل الأهم أن تحمل شعلة الابداع والتجديد. كن ناقداً على نفسك أولاً، وشديد النقد عليها، وضع أجوبة مقدماً للأسئلة التي تتوقع من القراء/النقاد طرحها.
كل التوفيق للجميع، وجمعة مباركة
عمار الثويني
ولعل بعض الملاحظات التي رصدتها في هذا الجانب:
• الجيل الجديد بحاجة إلى قراءات واسعة في التاريخ والفكر والأدب والرواية بشكل خاص. ليس المطلوب قراءة جميع ما صدر، ولكن ليس من المقبول عدم مطالعة أي مما يصدر. هذه القراءة يجب أن تكون نقدية، يتثوب فيها المطالع جلباب الكاتب والشخصيات السائرة في حياة السرد، أن يلقط نقاط الضعف والقوة وأن يدرج ملاحظاته عن مجمل العمل لأنها ستكون له عوناً في عمله/أعماله اللاحقة.
• ثمة استعجال وقلة صبر لصدور العمل ولحظوة الشهرة. ليس المهم أن يقال عنك روائياً، بل الأهم ما الذي أضفته للمشهد الروائي والابداع الأدبي والتميز السردي. أنصح بعرض العمل قبل تقديمه لدار النشر على ناقد وكاتب وقارئ فطن، لا على واحد منهم. فكل شخص ينظر من زاوية مختلفة وبعض الملاحظات تكون مهمة لإثراء النص وتقويته.
• ليس المطلوب "الكتابة" كفعل، فالكل قادر على تأدية هذا العمل، بل الأهم ماذا تكتب، ولمن تكتب وكيف تكتب وما الجديد الذي تطمح وراء هذه الكتابة الروائية.
• بعض الأعمال لا تحمل صفة الرواية لغة وسرداً وبناءً فنياً، فهي مجرد خواطر/حكايات يومية لا رابط لها يلمع فيه الكتاب صورته الشخصية، أو قصة "ممطوطة" من مشهد واحد/موضوع بسيط مكرر، أو كوكتيل من النصوص المرقعة.
• يجب أن يتقبل الكاتب رأي/آراء الجمهور من القراء والنقاد برحابة بصدر. البشر بطبيعتهم يعشقون المديح ويكرهون النقد، فنحن لسنا أنبياء، ولكن ليس المطلوب أن نطرب للإطراء ونسقط من ينتقدنا ونخوض حرباً معه بالأصالة أو الوكالة. شخصياً، أطالع بعض النقاشات ولا تعجبني طريقة الطرح النقدية لأنها تهريجية أكثر من كونها علمية رصينة. ومن جانب آخر، فإن الآراء المطروحة بأسلوب رصين تجب مناقشتها بالأسلوب ذاته واحترام آراء القراء.
• يجب ألا تكون الجوائز منية الكاتب وهدفه الأسمى. الجوائز الروائية العربية، وواحدة منها هي الأهم، ذات معايير ترجح كفة الأعمال التجارية القابلة للانتشار أكثر من الأعمال الرصينة المبدعة ذات السرد المكثف والطرح الجريء، إضافة إلى تفضيلها النصوص المكتوبة بحيث تفهم بطريقة واحدة بعيداً عن التأويل والتفسير. ثمة كثير من الروائيين مثل تولستوي وكازنتزاكس لم يفوزوا بنوبل ولكن أعمالهم خلدها التاريخ، فظفروا بعقل ومحبة وقراءة جمهور عالمي واسع. نعم الجوائز مهمة، ولكن ثمة ما هو أهم، والمتمثل بالجانب الإبداعي
• لا أفهم كيف يقدر المرء على كتابة رواية ولم يقرأ لعمالقة الأدب العالمي والعربي والعراقي، وربما قراءته لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة من الروايات. نحن لا نعيش عصر المعجزات ونزول الوحي "الروائي" على هذا الكاتب/الكاتبة بحيث أن نتاجه هو أفضل من مرتفعات وذرينج أو البحث عن الزمن المفقود أو مائة عام من العزلة. ما تراه معجزة روائية وفتح سردي يراه غيرك كتابات لا ترقى إلا إلى بوح شخصي عقيم و"حدوتة" يعيشها الجميع.
• على الراغب بدخول مجتمع الروائيين معرفة أن الرواية أكبر منه، أن تكون علاقته تكافلية لا أنانية. ليس المهم أن تحمل صفة الروائي، بل الأهم أن تحمل شعلة الابداع والتجديد. كن ناقداً على نفسك أولاً، وشديد النقد عليها، وضع أجوبة مقدماً للأسئلة التي تتوقع من القراء/النقاد طرحها.
كل التوفيق للجميع، وجمعة مباركة
عمار الثويني
Published on March 14, 2019 09:43
•
Tags:
قراءة-رواية-جيل-حداثة-عربي-جديد
February 23, 2019
نظام النشر الإقطاعي يحبط الكاتب ويخنق إبداعه
خاص: إعداد – سماح عادل
استكمالا لما بدأناه من محاولة رصد واقع النشر في المنطقة، وكيفية تعامل دور النشر الخاصة مع الكتاب ونصوصهم، والتأكيد على حقوق الكاتب المادية والمعنوية والتأكيد على أنه صاحب النص وله كل الحقوق في استغلاله، على خلاف ما يحدث في الواقع من دور نشر كثيرة، شارك معنا في هذا الملف الكاتب العراقي والروائي “عمار الثويني” بمقال رأي، يتناول فيه واقع النشر من خلال تجربته الخاصة في النشر الورقي.
خنق أصحاب الثقافة..
المقال بعنوان: (بعض من واقع النشر العربي.. خدمة الثقافة وخنق أصحاب الثقافة) يقول فيه “عمار الثويني”: “خلال تجربتي المتواضعة في عالم النشر العربي، أتيحت لي الفرصة للقاء بالعديد من أصحابها، التواصل معهم والاستفسار عن آلية النشر، وهي تجربة مهمة أثرتها أيضاً لقاءاتي بالعديد الكبير من أصدقائي الكتاب الذين خاضوا المعترك ذاته وشاطروني ثمار تجاربهم، بحلوها ومرها.
والسؤال الذي يرد لي في كل مرة، من أصدقاء وصديقات ممن أتموا كتابة عملهم الأول ويتطلعون إلى الولوج لعالم النشر، عن الأرباح التي يتحصلون عليها، فتكون إجابتي على الدوام صادمة لهم عند التأكيد أن السواد الأعظم من الناشرين العرب يحترمون “جيب” الكاتب أكثر من أصالة عمله، لأن ملاءمته المادية لا الفكرية هي من يحدد قرار الموافقة على النشر. وإذا ما استثنيا بعض دور النشر التي تحترم جهد الكاتب وقيمة الثقافة وتدفع له نسبة تتراوح ما بين 10-15% من سعر الغلاف مع تحمل كافة التكاليف بما فيها الطباعة والتدقيق والترويج والتوزيع، فإن العدد الأكبر لا يحترم أي جهد بحجة ارتفاع الأسعار والتكاليف وضعف الإقبال على الكتاب في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وقرصنه الكتب. لذلك يريدون من الكاتب وحده الذي يسهر على عمله ليل نهار ويعيد قراءته عشرات المرات وربما يعرضه على مختصين أن يدفع مبلغ أكبر حتى من التكاليف الفعلية، ويخرج من تلك التجربة بخفي حنين سوى من الألم وهي يرى إبداعاته “نهباً” لغيره”.
نظام النشر الٌإقطاعي..
ويواصل: “المثقف والمبدع والكاتب العربي مهضوم الحقوق شأنه شأن الإنسان العربي، الأول على يد أرباب الثقافة والثاني على يد أرباب السلطة. لذلك، نرى في عالمنا العربي مئات المطابع، وآلاف المكتبات والناشرين التي تعتاش على أقلام وإبداعات الكتّاب والمترجمين لأجيال وعقود، لكننا لا نرى كاتباً أو مترجماً واحداً في عالمنا العربي يعتاش من قلمه. لم تتغير معادلة “نظام النشر الإقطاعي” منذ عقود وليس ثمة بوادر للتغيير، ودور النشر التي تطبع على حسابها وتمنح الكاتب ربحاً بسيطاً هي قليلة ولا تتحمل طباعة العدد الكبير من المخطوطات التي تصل إليها فضلاً عن أولويتها الممنوحة لمجموعة من الكتاب المعروفين.
وقد أفضت ظاهرة غبن حقوق الكاتب وكذلك المترجم الذي لا ينال إلا فتات من جهوده إلى العديد من السلبيات أولها بحث القارئ على النصوص المقرصنة بحجة ارتفاع الأسعار، ودون مبالاة لاحترام حقوق الناشر لأن الأخير- وفقاً لما يقول كثيرون- لا يحترم حق الكاتب، وهي ظاهرة كتبت عنها شخصياً وتعاطفت بشدة مع الأصدقاء الناشرين. أما النتيجة الأخرى فهي نشوء علاقة “مضطربة” بين الكاتب والناشر لأن الأول- وإن لاذ بالصمت والصبر- يرى نفسه الخاسر الأكبر في معادلة بيع الكتب مقابل فوز الثاني بحصة الأسد. ولعل النتيجة السلبية الثالثة- الأخطر- هي اندثار مشاريع المؤلفين في عالم النشر، فالإنسان المتحمس لنشر عمله الأول ربما يتحمل التكاليف، لكن مثل هذا الأمر سيغدو مبهضاً نفسياً وأخلاقياً له فضلا عن أنه يصيبه بالإحباط ليهجر عالم الكتابة عاجلاً أو قريباً آجلاً. أعرف العديد من المؤلفين الجدد الذين كانت لديهم مخطوطات وواجهوا عالم النشر على حقيقته بالطلب منهم تحمل كافة التكاليف، فقرروا وأد إبداعاتهم في مقبرة الطباعة والنشر”.
شعارات رنانة..
ويستطرد : “إن ما يثيرني تلك الشعارات الرنانة التي يتشدق بها البعض من الناشرين بدورهم العظيم في خدمة الثقافة العربية لعقود، وهو الأمر الذي نادراً ما ألاحظه من جانب دور النشر الأجنبية التي تحترم حقوق الكاتب وترى فيه صاحب الفضل في نجاحاتها وتخصص صفحات تعريفية ولقاءات له مع جمهور القراء وفي مواقعها الالكترونية المميزة. الأمر عندي يماثل ادعاء الغرب بالإنسانية في وقت هو يخنق الإنسان بعدما حوله إلى ماكينة تعمل ليل نهار. ما جدوى خدمة الثقافة من جانب الناشر العربي في وقت هو يخنق قلم الثقافة وصاحب الفضل الأكبر فيها، فلولا الكاتب والمترجم لم تبصر النور تلك الكتب والمؤلفات التي يعتاشون عليها!”.
ويطالب الكاتب : “إن الجميع مطالبون بوقف هذه الحالة الاستغلالية البشعة من جانب أصحاب النشر خاصة مع التطور التكنولوجي. وخلال الأعوام القليلة المقبلة، أرى أن المعادلة ستنقلب رأساً على عقب وستقفل العديد من دور النشر أبوابها في ظل ثورة النشر الالكتروني، مثل موقع أمازون “كيندل” الذي لا يحتاج سوى إلى نص مكتوب بشكل معين لينطلق الكاتب، الشهير والجديد، إلى عالم النشر الواسع دون أن يتحمل أية تكاليف، بل ليجني ثمار تعبه وجهده وإبداعه من جانب مؤسسة تحترم حقوق الكاتب ولا تبخسه أي شيء”.
استكمالا لما بدأناه من محاولة رصد واقع النشر في المنطقة، وكيفية تعامل دور النشر الخاصة مع الكتاب ونصوصهم، والتأكيد على حقوق الكاتب المادية والمعنوية والتأكيد على أنه صاحب النص وله كل الحقوق في استغلاله، على خلاف ما يحدث في الواقع من دور نشر كثيرة، شارك معنا في هذا الملف الكاتب العراقي والروائي “عمار الثويني” بمقال رأي، يتناول فيه واقع النشر من خلال تجربته الخاصة في النشر الورقي.
خنق أصحاب الثقافة..
المقال بعنوان: (بعض من واقع النشر العربي.. خدمة الثقافة وخنق أصحاب الثقافة) يقول فيه “عمار الثويني”: “خلال تجربتي المتواضعة في عالم النشر العربي، أتيحت لي الفرصة للقاء بالعديد من أصحابها، التواصل معهم والاستفسار عن آلية النشر، وهي تجربة مهمة أثرتها أيضاً لقاءاتي بالعديد الكبير من أصدقائي الكتاب الذين خاضوا المعترك ذاته وشاطروني ثمار تجاربهم، بحلوها ومرها.
والسؤال الذي يرد لي في كل مرة، من أصدقاء وصديقات ممن أتموا كتابة عملهم الأول ويتطلعون إلى الولوج لعالم النشر، عن الأرباح التي يتحصلون عليها، فتكون إجابتي على الدوام صادمة لهم عند التأكيد أن السواد الأعظم من الناشرين العرب يحترمون “جيب” الكاتب أكثر من أصالة عمله، لأن ملاءمته المادية لا الفكرية هي من يحدد قرار الموافقة على النشر. وإذا ما استثنيا بعض دور النشر التي تحترم جهد الكاتب وقيمة الثقافة وتدفع له نسبة تتراوح ما بين 10-15% من سعر الغلاف مع تحمل كافة التكاليف بما فيها الطباعة والتدقيق والترويج والتوزيع، فإن العدد الأكبر لا يحترم أي جهد بحجة ارتفاع الأسعار والتكاليف وضعف الإقبال على الكتاب في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وقرصنه الكتب. لذلك يريدون من الكاتب وحده الذي يسهر على عمله ليل نهار ويعيد قراءته عشرات المرات وربما يعرضه على مختصين أن يدفع مبلغ أكبر حتى من التكاليف الفعلية، ويخرج من تلك التجربة بخفي حنين سوى من الألم وهي يرى إبداعاته “نهباً” لغيره”.
نظام النشر الٌإقطاعي..
ويواصل: “المثقف والمبدع والكاتب العربي مهضوم الحقوق شأنه شأن الإنسان العربي، الأول على يد أرباب الثقافة والثاني على يد أرباب السلطة. لذلك، نرى في عالمنا العربي مئات المطابع، وآلاف المكتبات والناشرين التي تعتاش على أقلام وإبداعات الكتّاب والمترجمين لأجيال وعقود، لكننا لا نرى كاتباً أو مترجماً واحداً في عالمنا العربي يعتاش من قلمه. لم تتغير معادلة “نظام النشر الإقطاعي” منذ عقود وليس ثمة بوادر للتغيير، ودور النشر التي تطبع على حسابها وتمنح الكاتب ربحاً بسيطاً هي قليلة ولا تتحمل طباعة العدد الكبير من المخطوطات التي تصل إليها فضلاً عن أولويتها الممنوحة لمجموعة من الكتاب المعروفين.
وقد أفضت ظاهرة غبن حقوق الكاتب وكذلك المترجم الذي لا ينال إلا فتات من جهوده إلى العديد من السلبيات أولها بحث القارئ على النصوص المقرصنة بحجة ارتفاع الأسعار، ودون مبالاة لاحترام حقوق الناشر لأن الأخير- وفقاً لما يقول كثيرون- لا يحترم حق الكاتب، وهي ظاهرة كتبت عنها شخصياً وتعاطفت بشدة مع الأصدقاء الناشرين. أما النتيجة الأخرى فهي نشوء علاقة “مضطربة” بين الكاتب والناشر لأن الأول- وإن لاذ بالصمت والصبر- يرى نفسه الخاسر الأكبر في معادلة بيع الكتب مقابل فوز الثاني بحصة الأسد. ولعل النتيجة السلبية الثالثة- الأخطر- هي اندثار مشاريع المؤلفين في عالم النشر، فالإنسان المتحمس لنشر عمله الأول ربما يتحمل التكاليف، لكن مثل هذا الأمر سيغدو مبهضاً نفسياً وأخلاقياً له فضلا عن أنه يصيبه بالإحباط ليهجر عالم الكتابة عاجلاً أو قريباً آجلاً. أعرف العديد من المؤلفين الجدد الذين كانت لديهم مخطوطات وواجهوا عالم النشر على حقيقته بالطلب منهم تحمل كافة التكاليف، فقرروا وأد إبداعاتهم في مقبرة الطباعة والنشر”.
شعارات رنانة..
ويستطرد : “إن ما يثيرني تلك الشعارات الرنانة التي يتشدق بها البعض من الناشرين بدورهم العظيم في خدمة الثقافة العربية لعقود، وهو الأمر الذي نادراً ما ألاحظه من جانب دور النشر الأجنبية التي تحترم حقوق الكاتب وترى فيه صاحب الفضل في نجاحاتها وتخصص صفحات تعريفية ولقاءات له مع جمهور القراء وفي مواقعها الالكترونية المميزة. الأمر عندي يماثل ادعاء الغرب بالإنسانية في وقت هو يخنق الإنسان بعدما حوله إلى ماكينة تعمل ليل نهار. ما جدوى خدمة الثقافة من جانب الناشر العربي في وقت هو يخنق قلم الثقافة وصاحب الفضل الأكبر فيها، فلولا الكاتب والمترجم لم تبصر النور تلك الكتب والمؤلفات التي يعتاشون عليها!”.
ويطالب الكاتب : “إن الجميع مطالبون بوقف هذه الحالة الاستغلالية البشعة من جانب أصحاب النشر خاصة مع التطور التكنولوجي. وخلال الأعوام القليلة المقبلة، أرى أن المعادلة ستنقلب رأساً على عقب وستقفل العديد من دور النشر أبوابها في ظل ثورة النشر الالكتروني، مثل موقع أمازون “كيندل” الذي لا يحتاج سوى إلى نص مكتوب بشكل معين لينطلق الكاتب، الشهير والجديد، إلى عالم النشر الواسع دون أن يتحمل أية تكاليف، بل ليجني ثمار تعبه وجهده وإبداعه من جانب مؤسسة تحترم حقوق الكاتب ولا تبخسه أي شيء”.
Published on February 23, 2019 22:45
•
Tags:
نشر-حقوق-كاتب-استغلال-عربي-رواية
February 14, 2019
روايات الصوفية لا المتصوفة
ثمة توجه غير معهود نحو كتابة الروايات التي تتمحور حول شخصيات تاريخية اتخذت من التصوف والعرفان منهجاً حياتياً تعبدياً في فهمها للتوحيد. ولعل هذا الأمر يرجع إلى العديد من البواعث أهمها الاهتمام العالمي وكذلك العربي المتعاظم بالصوفية والمتصوفة، وهو الاهتمام الذي لا يعود بجذوره إلى فترات متأخرة ولا إلى عهود النهضة الغربية وتعاظم ترجمة التراث والمؤلفات العربية والإسلامية، بل إلى القرون الإسلامية الأولى التي جايلت ظهور المتصوفة الأوائل أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار وإبراهيم الأدهم ورابعة العدوية وأبو هاشم الصوفي الكوفي ومعروف الكرخي (القرن الثاني الهجري). ويتعلق العامل الاخر بنجاح الأعمال العديدة التي تمحورت حول المتصوفة مثل قواعد العشق الأربعون (أليف شافاك) التي ترجمت إلى عدة لغات وبيعت منها مئات الآلاف من النسخ ورواية موت صغير (محمد حسن علوان الفائزة بالبوكر هذا العام) وبنت مولانا (مورل مفروي) والرومي نار العشق (نهال تجدد) وأعمال عديدة غيرها. وثالثاً رغبة بعض الكتاب بطرق باب الصوفية لإقبال القراء بشكل ملفت عليها، وليحفر هذا الكاتب اسمه في سماء الرواية باعتباره ولج مسلكاً صعباً غير تقليدي على خلاف السواد الأعظم من الروايات العربية الحالية التي تعالج الواقع تماماً أو تتطرق لحوادث تاريخية معروفة. والعامل الأخير يتعلق بنهم دور النشر لطباعة ونشر هذه الأعمال وتسويقها للقارئ. في معارض الكتب التي حضرتها مثل معرض أبوظبي والشارقة، لاحظت اقبال شريحة واسعة من القراء والمرتادين إلى مؤلفات وروايات الصوفية ظناً منهم إن قراءة عمل أو عملين يميط اللثام عنه وينقلهم للعيش في أجواء "خاصة" في عالم جديد بالكامل بعيد عن الماديات. لذا نرى تسابق دور النشر إلى طباعة كل ما يمت بالصوفية حتى بات الرومي والتبريزي ومحيي الدين ابن عربي نجوم معارض الكتب والمكتبات ونشرت مؤلفات عنهم بنحو فاق عدد الكتب التي تناولت الصحابة الأجلاء. وأتوقع خلال الفترات المقبلة صدور العديد من الروايات التي تتناول شخصيات صوفية مهمة مثل عبد القادر الجيلاني، وفريد الدين العطار وابن الفارض والخلاج وصدر الدين الشيرازي والغزالي وغيرهم كثيرون.
ومع ذلك ثمة الكثير من الملاحظات عن هذه الروايات:
أولاً: الروايات الأربع المشار إليها في أعلاه متكاملة فنياً وبنائياً وسردياً وبذل مؤلفوها جهوداً بائنة في اخراج نصوص جميلة عالجت حيوات شخصيات مهمة ممن عرف عنها بالتصوف مثل محيي الدين ابن عربي وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي. نجحت هذه الأعمال في نقل القارئ إلى قلب الحدث: الوصف المكاني والزماني والحدثي المتعدد على لسان الشخصيات الرئيسة أو على لسان الشخص الثالث وتسليط الضوء على الارهاصات السياسية والاجتماعية والفكرية التي عاشتها المدن التي كانت مسرحاً للأحداث التاريخية مثل قونية، دمشق، المغرب العربي، وبغداد.
ثانياً: هي روايات متصوفة أكثر مما هي صوفية فهي تتطرق بشكل كبير إلى حياة المتصوفة الاعتيادية لا تلك العرفانية والمكاشفات الروحية والتوحيد الخاص بهم الذي يختلف عن سائر البشر، التوحيد الذي يكون وجوده الحقيقي منحصر بالله وحده وما عداه مظهره لا وجوده. فهذا المتصوف العارف لا يرى في توحيده شيئاً إلا الله وسفره الروحي يتمثل في طي الطريق والوصول إلى مرحلة لا يرى فيها إلا الله. مثل هذه الأعمال يجب أن تكون حافلة بالمونولوجات (الحوارات الذاتية) والحضور الروحي لا البدني للشخصية الرئيسة في أكثر من موضع ومكان. عندما نكتب عن حياة شاعر لا بد أن تستحضر ملكته الشعرية وحواراته الأدبية ولحظات التأمل في الذات التي يعيشها ليستلهم منها الصورة الشعرية الجميلة. الأمر ينطبق على حياة العلماء والفنانين والمبدعين، وإلا لن تختلف رواية تعالج حياة متصوف عن عالم كيمياء أو شاعر جاهلي أو وزير ملك عباسي، إلا في الفترات التاريخية التي جايلها تلك الشخصية. مع إنها أعمال روائية مهمة جذبت شريحة واسعة من القراء نحو التعرف عن كثب على التصوف ومفهومه، أراها- شخصياً- تفتقر إلى الأصالة، بمعنى أنها لم تخرج من الإطار الشخصي والتاريخي المرتبط بأحداث معروفة تداولتها كتب التاريخ العديدة وأثرت في حياة الصوفيين. لم تضف هذه الأعمال للقارئ أية معرفة عميقة وأصيلة عن الصوفية لأن هؤلاء الروائيين طرقوا الطريق الأسهل، حياة المتصوفة، الذي يوفر أرضية متكاملة للبناء الروائي والسردي.
ثالثاً: خرجت الكثير من الشخصيات الروائية مثل جلال الدين وابن عربي بصورة ضعيفة بقصد أو دون قصد، وربما لغياب الفهم الحقيقي لطريقة تفكير الشخصية "صوفياً" أو لحرص الكاتب بألا يحسب مائلاً لمثل هذا التوجه (الصوفية في نظر البعض لون من الكفر). ففي رواية مهمة جداً مثل موت صغير التي تناولت حياة المتصوف الأشهر ابن عربي الذي يلقبه اتباعه بـ "الامام الأكبر"، لم أجد أي لمسات صوفية فيها سوى بعض الأقوال التي أدرجها الكاتب في بداية كل فصل، فشعرت إنني قرأت عن "محيي الدين" وليس "ابن عربي". وهذا الحوار (الذي عرضته في مقالتي قبل عدة أشهر عن فوز موت صغير بالبوكر) تظهر تفكيراً ساذجاً وفهماً جد سطحي لآيات القرآن.
التفت الحريري ناحيتي [أي ناحية ابن عربي باعتباره السارد الأول] وقال:
- أتصح صلاتنا ونحن سكارى؟
- أتعلم ما تقول؟
- نعم
- إذن تصح صلاتك، فالآية تقول "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون".
في هذا المشهد يصف ابن عربي حالهم بعد شرب الخمرة، والكاتب غير ملتفت إن سكارى لا تعني المخمور، بل سكر الذهن والبال، ولكن تداخل عليها مفهوم الكلمة حاضراً لا ماضياً، فالمعنى الحقيقي "الظاهري" لكلمة سكران هو مشوش الذهن، وإن الله تعالى يريد من الإنسان أن يقبل على الصلاة وهو صافي الذهن، بفكر خالص. وقد وردت الكلمة في موضع آخر في القرآن الكريم بهذا المعنى لوصف حال يوم القيامة "وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد" (الحج 2) ولكن ابن عربي، الإمام الأكبر، على ما يبدو لا يفقه حتى المعنى الظاهري للآية الشريفة.
رابعاً: هل عجز الخيال الروائي العربي من تقديم شخصيات جديدة غير تلك المعروفة ذات توجه صوفي/عرفاني خالص تفيض الحكمة والمعرفة على أفواههم ويعيشون حياتهم الصوفية الخاصة؟ لماذا هذا الالتصاق بالشخصيات التاريخية وبسرد حياتها عند كتابة رواية صوفية؟ حقيقة أجد رواية مثل "ترنيمة سلام" للكاتب الشاب أحمد عبد المجيد انها تحمل لمسات صوفية جميلة أكثر أصالة من عديد من الأعمال، حتى المشار إليها في أعلاه، فهو لم يلجأ لكتب التاريخ لتوفر له جل العمل، بل اعتمد في خياله المحض لتقديم شخصية شاب ذي نفحات تأملية.
أخيرا وليس آخر: هل يجب على كاتب الروايات الصوفية أن يكون متصوفاً أو صاحب طريقة أو من مؤيدي الصوفية؟ والجواب بكل تأكيد "لا" ولكن كما يقول المثل "ما لا يدرك كله، لا يترك جله". على الكاتب عندما يطرق باباً مهماً للكتابة عنه أن يهبه حقه المستحق وقدره من القراءة والمطالعة والبحث والتمحيص، لا أن يتعامل معه سطحياً أو حتى تجارياً من أجل اصدار رواية في هذا الحقل أو الجانب. الصوفية والعرفان يحتاجان إلى سنوات من البحث والقراءة المستفيضة من أجل أن يكون الروائي قادراً حتى لو بالدرجة الدنيا في استشراف بعض من طريقة فكر وتفكير المتصوفة لكي لا يكون العمل سيرة حياة المتصوف اليومية برتوش أدبية. فالأجدر بهذه الأعمال أن تصبح نصوصاً تاريخية لا روائية بالمعنى الخيالي للرواية وتضاف إلى مؤلفات جرجي زيدان وكتاب "حياة الامام علي" للشيخ عبد الفتاح عبد المقصود (تسعة أجزاء).
ومع ذلك ثمة الكثير من الملاحظات عن هذه الروايات:
أولاً: الروايات الأربع المشار إليها في أعلاه متكاملة فنياً وبنائياً وسردياً وبذل مؤلفوها جهوداً بائنة في اخراج نصوص جميلة عالجت حيوات شخصيات مهمة ممن عرف عنها بالتصوف مثل محيي الدين ابن عربي وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي. نجحت هذه الأعمال في نقل القارئ إلى قلب الحدث: الوصف المكاني والزماني والحدثي المتعدد على لسان الشخصيات الرئيسة أو على لسان الشخص الثالث وتسليط الضوء على الارهاصات السياسية والاجتماعية والفكرية التي عاشتها المدن التي كانت مسرحاً للأحداث التاريخية مثل قونية، دمشق، المغرب العربي، وبغداد.
ثانياً: هي روايات متصوفة أكثر مما هي صوفية فهي تتطرق بشكل كبير إلى حياة المتصوفة الاعتيادية لا تلك العرفانية والمكاشفات الروحية والتوحيد الخاص بهم الذي يختلف عن سائر البشر، التوحيد الذي يكون وجوده الحقيقي منحصر بالله وحده وما عداه مظهره لا وجوده. فهذا المتصوف العارف لا يرى في توحيده شيئاً إلا الله وسفره الروحي يتمثل في طي الطريق والوصول إلى مرحلة لا يرى فيها إلا الله. مثل هذه الأعمال يجب أن تكون حافلة بالمونولوجات (الحوارات الذاتية) والحضور الروحي لا البدني للشخصية الرئيسة في أكثر من موضع ومكان. عندما نكتب عن حياة شاعر لا بد أن تستحضر ملكته الشعرية وحواراته الأدبية ولحظات التأمل في الذات التي يعيشها ليستلهم منها الصورة الشعرية الجميلة. الأمر ينطبق على حياة العلماء والفنانين والمبدعين، وإلا لن تختلف رواية تعالج حياة متصوف عن عالم كيمياء أو شاعر جاهلي أو وزير ملك عباسي، إلا في الفترات التاريخية التي جايلها تلك الشخصية. مع إنها أعمال روائية مهمة جذبت شريحة واسعة من القراء نحو التعرف عن كثب على التصوف ومفهومه، أراها- شخصياً- تفتقر إلى الأصالة، بمعنى أنها لم تخرج من الإطار الشخصي والتاريخي المرتبط بأحداث معروفة تداولتها كتب التاريخ العديدة وأثرت في حياة الصوفيين. لم تضف هذه الأعمال للقارئ أية معرفة عميقة وأصيلة عن الصوفية لأن هؤلاء الروائيين طرقوا الطريق الأسهل، حياة المتصوفة، الذي يوفر أرضية متكاملة للبناء الروائي والسردي.
ثالثاً: خرجت الكثير من الشخصيات الروائية مثل جلال الدين وابن عربي بصورة ضعيفة بقصد أو دون قصد، وربما لغياب الفهم الحقيقي لطريقة تفكير الشخصية "صوفياً" أو لحرص الكاتب بألا يحسب مائلاً لمثل هذا التوجه (الصوفية في نظر البعض لون من الكفر). ففي رواية مهمة جداً مثل موت صغير التي تناولت حياة المتصوف الأشهر ابن عربي الذي يلقبه اتباعه بـ "الامام الأكبر"، لم أجد أي لمسات صوفية فيها سوى بعض الأقوال التي أدرجها الكاتب في بداية كل فصل، فشعرت إنني قرأت عن "محيي الدين" وليس "ابن عربي". وهذا الحوار (الذي عرضته في مقالتي قبل عدة أشهر عن فوز موت صغير بالبوكر) تظهر تفكيراً ساذجاً وفهماً جد سطحي لآيات القرآن.
التفت الحريري ناحيتي [أي ناحية ابن عربي باعتباره السارد الأول] وقال:
- أتصح صلاتنا ونحن سكارى؟
- أتعلم ما تقول؟
- نعم
- إذن تصح صلاتك، فالآية تقول "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون".
في هذا المشهد يصف ابن عربي حالهم بعد شرب الخمرة، والكاتب غير ملتفت إن سكارى لا تعني المخمور، بل سكر الذهن والبال، ولكن تداخل عليها مفهوم الكلمة حاضراً لا ماضياً، فالمعنى الحقيقي "الظاهري" لكلمة سكران هو مشوش الذهن، وإن الله تعالى يريد من الإنسان أن يقبل على الصلاة وهو صافي الذهن، بفكر خالص. وقد وردت الكلمة في موضع آخر في القرآن الكريم بهذا المعنى لوصف حال يوم القيامة "وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد" (الحج 2) ولكن ابن عربي، الإمام الأكبر، على ما يبدو لا يفقه حتى المعنى الظاهري للآية الشريفة.
رابعاً: هل عجز الخيال الروائي العربي من تقديم شخصيات جديدة غير تلك المعروفة ذات توجه صوفي/عرفاني خالص تفيض الحكمة والمعرفة على أفواههم ويعيشون حياتهم الصوفية الخاصة؟ لماذا هذا الالتصاق بالشخصيات التاريخية وبسرد حياتها عند كتابة رواية صوفية؟ حقيقة أجد رواية مثل "ترنيمة سلام" للكاتب الشاب أحمد عبد المجيد انها تحمل لمسات صوفية جميلة أكثر أصالة من عديد من الأعمال، حتى المشار إليها في أعلاه، فهو لم يلجأ لكتب التاريخ لتوفر له جل العمل، بل اعتمد في خياله المحض لتقديم شخصية شاب ذي نفحات تأملية.
أخيرا وليس آخر: هل يجب على كاتب الروايات الصوفية أن يكون متصوفاً أو صاحب طريقة أو من مؤيدي الصوفية؟ والجواب بكل تأكيد "لا" ولكن كما يقول المثل "ما لا يدرك كله، لا يترك جله". على الكاتب عندما يطرق باباً مهماً للكتابة عنه أن يهبه حقه المستحق وقدره من القراءة والمطالعة والبحث والتمحيص، لا أن يتعامل معه سطحياً أو حتى تجارياً من أجل اصدار رواية في هذا الحقل أو الجانب. الصوفية والعرفان يحتاجان إلى سنوات من البحث والقراءة المستفيضة من أجل أن يكون الروائي قادراً حتى لو بالدرجة الدنيا في استشراف بعض من طريقة فكر وتفكير المتصوفة لكي لا يكون العمل سيرة حياة المتصوف اليومية برتوش أدبية. فالأجدر بهذه الأعمال أن تصبح نصوصاً تاريخية لا روائية بالمعنى الخيالي للرواية وتضاف إلى مؤلفات جرجي زيدان وكتاب "حياة الامام علي" للشيخ عبد الفتاح عبد المقصود (تسعة أجزاء).
Published on February 14, 2019 08:15
•
Tags:
صوفية-تصوف-روايات-ادب-خيال-قصص
February 12, 2019
على الجيل الجديد أن يقراً كثيرا
أحرص قدر ما يسعني الوقت على مطالعة النتاجات الروائية، خاصة الأعمال العراقية، لاهتمامي بالرواية ومتابعة ما يصدر في هذه المضمار، وأحيانا بطلب من بعض الأصدقاء/الصديقات الأعزاء للاطلاع على هذه الأعمال التي كتبوها وإبداء رأيي المتواضع جداً (أكتبها بكل صدق وأمانة على الخاص). وصراحة، كل ما أخشاه أن الجيل الجديد من الروائيين/الروائيات العراقيات، جله وليس كله، لا يملك ما يؤهله لمواصلة النجاحات والإنجازات المهمة التي حققتها الرواية العراقية منذ نشأتها، حيث شقت طريقها وحضورها بقوة وانجبت نصوصاً ونتاجات مميزة رغم كل ما تعانيه الرواية العراقية من ظلم وتهميش اعلامي وغبن في مجال الترويج والترجمة إلى اللغات الأُخر.
ولعل بعض الملاحظات التي رصدتها في هذا الجانب:
الجيل الجديد بحاجة إلى قراءات واسعة في التاريخ والفكر والأدب والرواية بشكل خاص. ليس المطلوب قراءة جميع ما صدر، ولكن ليس من المقبول عدم مطالعة أي مما يصدر. هذه القراءة يجب أن تكون نقدية، يتثوب فيها المطالع جلباب الكاتب والشخصيات السائرة في حياة السرد، أن يلقط نقاط الضعف والقوة وأن يدرج ملاحظاته عن مجمل العمل لأنها ستكون له عوناً في عمله/أعماله اللاحقة.
ثمة استعجال وقلة صبر لصدور العمل ولحظوة الشهرة. ليس المهم أن يقال عنك روائياً، بل الأهم ما الذي أضفته للمشهد الروائي والابداع الأدبي والتميز السردي. أنصح بعرض العمل قبل تقديمه لدار النشر على ناقد وكاتب وقارئ فطن، لا على واحد منهم. فكل شخص ينظر من زاوية مختلفة وبعض الملاحظات تكون مهمة لإثراء النص وتقويته.
• ليس المطلوب "الكتابة" كفعل، فالكل قادر على تأدية هذا العمل، بل الأهم ماذا تكتب، ولمن تكتب وكيف تكتب وما الجديد الذي تطمح وراء هذه الكتابة الروائية.
بعض الأعمال لا تحمل صفة الرواية لغة وسرداً وبناءً فنياً، فهي مجرد خواطر/حكايات يومية لا رابط لها يلمع فيه الكتاب صورته الشخصية، أو قصة "ممطوطة" من مشهد واحد/موضوع بسيط مكرر، أو كوكتيل من النصوص المرقعة.
يجب أن يتقبل الكاتب رأي/آراء الجمهور من القراء والنقاد برحابة بصدر. البشر بطبيعتهم يعشقون المديح ويكرهون النقد، فنحن لسنا أنبياء، ولكن ليس المطلوب أن نطرب للإطراء ونسقط من ينتقدنا ونخوض حرباً معه بالأصالة أو الوكالة. شخصياً، أطالع بعض النقاشات ولا تعجبني طريقة الطرح النقدية لأنها تهريجية أكثر من كونها علمية رصينة. ومن جانب آخر، فإن الآراء المطروحة بأسلوب رصين تجب مناقشتها بالأسلوب ذاته واحترام آراء القراء.
يجب ألا تكون الجوائز منية الكاتب وهدفه الأسمى. الجوائز الروائية العربية، وواحدة منها هي الأهم، ذات معايير ترجح كفة الأعمال التجارية القابلة للانتشار أكثر من الأعمال الرصينة المبدعة ذات السرد المكثف والطرح الجريء، إضافة إلى تفضيلها النصوص المكتوبة بحيث تفهم بطريقة واحدة بعيداً عن التأويل والتفسير. ثمة كثير من الروائيين مثل تولستوي وكازنتزاكس لم يفوزوا بنوبل ولكن أعمالهم خلدها التاريخ، فظفروا بعقل ومحبة وقراءة جمهور عالمي واسع. نعم الجوائز مهمة، ولكن ثمة ما هو أهم، والمتمثل بالجانب الإبداعي
لا أفهم كيف يقدر المرء على كتابة رواية ولم يقرأ لعمالقة الأدب العالمي والعربي والعراقي، وربما قراءته لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة من الروايات. نحن لا نعيش عصر المعجزات ونزول الوحي "الروائي" على هذا الكاتب/الكاتبة بحيث أن نتاجه هو أفضل من مرتفعات وذرينج أو البحث عن الزمن المفقود أو مائة عام من العزلة. ما تراه معجزة روائية وفتح سردي يراه غيرك كتابات لا ترقى إلا إلى بوح شخصي عقيم و"حدوتة" يعيشها الجميع.
على الراغب بدخول مجتمع الروائيين معرفة أن الرواية أكبر منه، أن تكون علاقته تكافلية لا أنانية. ليس المهم أن تحمل صفة الروائي، بل الأهم أن تحمل شعلة الابداع والتجديد. كن ناقداً على نفسك أولاً، وشديد النقد عليها، وضع أجوبة مقدماً للأسئلة التي تتوقع من القراء/النقاد طرحها.
كل التوفيق للجميع، وجمعة مباركة
عمار الثويني
#رواية
#قراءة
#أدب
ولعل بعض الملاحظات التي رصدتها في هذا الجانب:
الجيل الجديد بحاجة إلى قراءات واسعة في التاريخ والفكر والأدب والرواية بشكل خاص. ليس المطلوب قراءة جميع ما صدر، ولكن ليس من المقبول عدم مطالعة أي مما يصدر. هذه القراءة يجب أن تكون نقدية، يتثوب فيها المطالع جلباب الكاتب والشخصيات السائرة في حياة السرد، أن يلقط نقاط الضعف والقوة وأن يدرج ملاحظاته عن مجمل العمل لأنها ستكون له عوناً في عمله/أعماله اللاحقة.
ثمة استعجال وقلة صبر لصدور العمل ولحظوة الشهرة. ليس المهم أن يقال عنك روائياً، بل الأهم ما الذي أضفته للمشهد الروائي والابداع الأدبي والتميز السردي. أنصح بعرض العمل قبل تقديمه لدار النشر على ناقد وكاتب وقارئ فطن، لا على واحد منهم. فكل شخص ينظر من زاوية مختلفة وبعض الملاحظات تكون مهمة لإثراء النص وتقويته.
• ليس المطلوب "الكتابة" كفعل، فالكل قادر على تأدية هذا العمل، بل الأهم ماذا تكتب، ولمن تكتب وكيف تكتب وما الجديد الذي تطمح وراء هذه الكتابة الروائية.
بعض الأعمال لا تحمل صفة الرواية لغة وسرداً وبناءً فنياً، فهي مجرد خواطر/حكايات يومية لا رابط لها يلمع فيه الكتاب صورته الشخصية، أو قصة "ممطوطة" من مشهد واحد/موضوع بسيط مكرر، أو كوكتيل من النصوص المرقعة.
يجب أن يتقبل الكاتب رأي/آراء الجمهور من القراء والنقاد برحابة بصدر. البشر بطبيعتهم يعشقون المديح ويكرهون النقد، فنحن لسنا أنبياء، ولكن ليس المطلوب أن نطرب للإطراء ونسقط من ينتقدنا ونخوض حرباً معه بالأصالة أو الوكالة. شخصياً، أطالع بعض النقاشات ولا تعجبني طريقة الطرح النقدية لأنها تهريجية أكثر من كونها علمية رصينة. ومن جانب آخر، فإن الآراء المطروحة بأسلوب رصين تجب مناقشتها بالأسلوب ذاته واحترام آراء القراء.
يجب ألا تكون الجوائز منية الكاتب وهدفه الأسمى. الجوائز الروائية العربية، وواحدة منها هي الأهم، ذات معايير ترجح كفة الأعمال التجارية القابلة للانتشار أكثر من الأعمال الرصينة المبدعة ذات السرد المكثف والطرح الجريء، إضافة إلى تفضيلها النصوص المكتوبة بحيث تفهم بطريقة واحدة بعيداً عن التأويل والتفسير. ثمة كثير من الروائيين مثل تولستوي وكازنتزاكس لم يفوزوا بنوبل ولكن أعمالهم خلدها التاريخ، فظفروا بعقل ومحبة وقراءة جمهور عالمي واسع. نعم الجوائز مهمة، ولكن ثمة ما هو أهم، والمتمثل بالجانب الإبداعي
لا أفهم كيف يقدر المرء على كتابة رواية ولم يقرأ لعمالقة الأدب العالمي والعربي والعراقي، وربما قراءته لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة من الروايات. نحن لا نعيش عصر المعجزات ونزول الوحي "الروائي" على هذا الكاتب/الكاتبة بحيث أن نتاجه هو أفضل من مرتفعات وذرينج أو البحث عن الزمن المفقود أو مائة عام من العزلة. ما تراه معجزة روائية وفتح سردي يراه غيرك كتابات لا ترقى إلا إلى بوح شخصي عقيم و"حدوتة" يعيشها الجميع.
على الراغب بدخول مجتمع الروائيين معرفة أن الرواية أكبر منه، أن تكون علاقته تكافلية لا أنانية. ليس المهم أن تحمل صفة الروائي، بل الأهم أن تحمل شعلة الابداع والتجديد. كن ناقداً على نفسك أولاً، وشديد النقد عليها، وضع أجوبة مقدماً للأسئلة التي تتوقع من القراء/النقاد طرحها.
كل التوفيق للجميع، وجمعة مباركة
عمار الثويني
#رواية
#قراءة
#أدب
Published on February 12, 2019 07:44
January 31, 2019
الجوائز الروائية العربية
الجوائز الروائية العربية: نحو عمل أكثر تأصيلاً لخدمة الأدب العربي
صاحبت موجة الإنتاج الروائي العربي الغزير في السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في عدد الجوائز الممنوحة لهذا الفن الأدبي بشكل خاص، محلياً، أي تلك المخصصة لأدباء من دولة محددة، وعربياً، وفئوياً، أي تلك التي تشترط عمر المتقدم، ونتاجياً (الجوائز المخصصة للروايات المنشورة وغير المنشورة).
ومع أن هذه الجوائز تحمل أهدافاً نبيلة من بينها تسليط الضوء على الابداعات الروائية وأصحابها، وتكريمهم مادياً ومعنوياً، والتشجيع على القراءة والمساهمة بشكل كبير في نقل الأدب العربي إلى فضاء عالمي أرحب، فإن النيات وحدها لن تسهم في ترجمة هذه الغايات مادامت هذه الجوائز وطريقة عمل لجانها تفتقر إلى الآليات وتعوزها الممكنات، وربما تنقضها حتى الخبرات الإدارية المطلوبة.
بعض هذه الجوائز صار عمرها سنين عديدة، وهي الفترة الكافية لمنح القائمين عليها خبرة واسعة تستفيد منها دورة إثر أختها، لا أن تظل تدور في الحلقة ذاتها من الآلية الفقيرة وطريقة العمل المجهولة والمكررة وغياب التجديد. مثل هذا الأمر لن يتحقق إلا بالوقوف على مكامن الضعف والقوة لكل دورة لاستنباط العبر واستشراف آراء الشرائح المعنية عبر اجراء استبيان واسع النطاق لجمهور كبير من القراء والنقاد والروائيين والناشرين. فالكثير من هذه الشرائح بدأت تفقد ثقتها في الأعمال الفائزة أو المرشحة للقوائم المتنافسة، وباتت متيقنة أن ثمة عوامل تلعب دوراً في اختيار الأعمال بعيداً عن الابداع والجمال الأدبي، ناهيك عن ثقتهم شبه المطلقة بوجود بون شاسع ما بين الجوائز الأدبية العربية ونظيرتها الأجنبية، مع أن الأخيرة لا تسلم من تأثيرات اللوبيات الأدبية.
ومن بين الملاحظات أود الإشارة إليها في هذا المقال، أملاً في أن تسهم في تطوير عمل الجوائز الروائية:
أولاً: الجائزة، باعتبارها مشروعاً مثل أي مبادرة أخرى، بحاجة إلى فريق عمل متكامل لا مجرد لجنة مؤلفة من عدة أشخاص تعمل معظم الوقت بطريقة مفردة ولا تجتمع إلا مرات قلائل خلال الدورة الواحدة. وأحد مهام هذه الفرق هي الترويج للجائزة بشكل منظم ومنسق واستخدام منصات التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب/فيسبوك لتوضيح المعايير وكيفية التقديم وكذلك كيفية اختيار أفضل الأعمال. مشكلتنا الكبرى في العالم العربي هي عدم التوثيق فلا أحد يعرف مثلاً بما يجري في اجتماعات اللجان، والنتائج التي تخلص إليها، والتوصيات وأوراق العمل المقدمة، وهل ثمة تغير في معايير التقييم، بل كل شيء يجري ارتجالاً على ما يبدو. شخصياً، وجدت في لجنة جائزة الابداع العراقي تنظيماً ومتابعة أفضل بنحو كبير من أبرز الجوائز العربية الممنوحة للرواية، حيث بذل الفريق جهوداً واضحة للترويج للزيارة واجراء اللقاء والمؤتمرات الصحافية في عدة مدن عراقية لشرح أهمية الجائزة وكيفية الترشح لها وحيث مجموعة أكبر من ذوي الابداعات للترشح لها.
ثانياً: ليس المهم من هذه الجوائز القيمة المالية الممنوحة للمؤلف، بل الأهم أن تخدم هدفين رئيسين: زيادة اقبال الجمهور العربي على القراءة، ونقل الرواية العربية إلى فضاء عالمي. ومثل هذا الأمر يتحقق عندما يثق القارئ العربي بنزاهة ودقة وصوابية اختيار الأعمال المتوجة، وكذلك الناشر الأجنبي الذي سيتلقف الأعمال الفائزة ويقوم بترجمتها على حسابه لأنها مكتوبة بمعايير إبداعية تروق لجمهور عالمي. ولكن ما حصل للأسف أن الجوائز خدمت دور النشر العربية أكثر من القارئ بينما لم تلق العديد من الأعمال المتوجة اقبالاً ملحوظاً لدى الناشر الأجنبي. مثلاً، رواية "الطلياني" المتوجة بجائزة البوكر عام 2015 والتي تكفلت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة بترجمتها للانجليزية لم يتم حتى الان التعاقد مع أي ناشر حتى مع سعي الوكيل الأدبي لإقناع عدد كبير من الناشرين البريطانيين.
ثالثاً: تفوق عمل على آخر، وفقاً لتصريحات اللجان، يقوم على أساس أفضلية العمل. تعريف "الأفضلية" بحاجة إلى دقة واعتبارات وإعادة تقييم مضنية لا ارتجالية، وأن يملك المقيمون الشجاعة الكبيرة والحيادية التامة في التعامل مع كل الروايات الواردة إليهم، حتى لو اختلفوا مع طروحاتها فكرياً وسياسياً ونفسياً واجتماعياً. عدد ليس بالقليل من الأعمال التي طالعتها، والتي وصلت للقوائم والقصيرة أو تلك التي فازت بالجوائز، لا تملك أي لون من الابداع واللغة والثيمة الرصينة وحتى المعرفة بفن الرواية، وهو الرأي شاطرني فيه كثير من الأدباء والنقاد لضحالة وسطحية السرد، فكيف لمثل هذا العمل أن يتفوق على غيره، بل يتوج على جميع الأعمال المنافسة. يجب وضع معايير علمية لا ارتجالية أو ذائقية لتقييم الأعمال فهذه المعايير دخلت في كافة المجالات تقريباً، حتى في اختيار ملكات الجمال. فعلى سبيل المثال يمكن وضع 20 معياراً تتعلق مثلاً باللغة والخيال وعمق الطرح والشخصيات والثيمة والابداع والتجديد وتماسك النص ولكل معيار خمس درجات، ليصار تقييم وحساب كل عمل والاعلان عنها بشفافية تامة. طوال دورات الجوائز العربية، لم أصادف رأياً تفصيلياً من عدة صفحات يبرر الباعث وراء تتويج عمل ما بالجائزة الممنوحة، بل وجدت كلمات لا تتعدى السطر الواحد وعلى استحياء لاختيار العمل وتتعلق هذه الكلمات الفقيرة بثيمة العمل لا الجانب الإبداعي، مما يرسخ الاعتقاد بارتجالية ومزاجية الاختيار.
رابعاً: الرواية كعمل ابداعي خيالي يقوم على عدة شخصيات وأحداث وثيمات من الصعب قولبتها أو تأطيرها وهي تختلف من كاتب لآخر ومن بلد لآخر وأحياناً حتى بين الأعمال المتعددة للكاتب نفسه. وفي الشكل العام، تختلف الرواية العراقية عن المصرية وعن الفلسطينية وعن السودانية وكذلك عن روايات بقية الدول العربية. وفي الغالب أيضاً، يميل القراء والنقاد في بلد عربي ما إلى مطالعة الإصدارات الجديدة لمؤلفي بلدانهم بحكم توفرها ومعالجتها لقضايا أقرب وجدانياً للجمهور المحلي فضلاً عن توزيعها مجاناً على النقاد من أجل تشجيعهم عن الكتابة عنها. هذا الأمر برأيي قاد النقاد/المحكمون وجدانياً إلى تفضيل الأعمال الصادرة من مؤلفي بلدانهم بنحو أكثر من غيرها، لذلك نرى حضور دول معينة في منصات التويج بشكل دائم، مقابل غياب دول مثل الجزائر وحتى مصر التي تشارك بحصة الأسد في الدورتين الماضيتين من البوكر، حيث لم تصل سوى رواية إلى القائمة القصيرة في تلكم السنتين مقابل حضور بارز للرواية الفلسطينية.
خامساً: الجوائز العربية لا تفرق بين الروايات الخيالية وغير الخيالية fiction and non-fiction مع ميل واضح لتفضيل الأعمال المكتوبة بصيغة الشخص الأول لا الراوي العليم باعتبارها روايات ما بعد الحداثة. وفي المقابل فإن الروايات المسرودة بتقنية الراوي العليم تتطلب جهداً أكبر وخيالاً أوسع وثيمة أكثر تماسكاً بحكم تعدد الشخصيات. لقد وجدت أن أغلب الأعمال المتوجة والمتنافسة هي مكتوبة بصيغة الراوي غير العليم حتى تلك التي كانت تتثيم حول شخصية تاريخية مثل ابن عربي في رواية موت صغير التي توجهت بالبوكر عام 2017. مثل هذه الأعمال تجعل الحكام/المقيمين يميلون وجدانياً إليها أكثر من الأعمال المكتوبة بتقنية الراوي العليم (القائمة القصيرة للبوكر هذا العام جميعها مكتوبة بهذا الأسلوب). لقد فهمت دور النشر العربية البارزة هذه اللعبة وأخذت تفضل هذا اللون من الكتابات "الخفيفة" و"السريعة" بالمقارنة مع الروايات العميقة والطويلة، فباتت تتربع على منصات التتويج بشكل شبه دائم. وبالمحصلة، استفادت دور النشر والمؤلفين من الجوائز، بينما خسر القارئ وحده الذي يتلهف طوال العام لاقتناء الرواية الفائزة ولما يكتشف أنها لا تلبي طموحاته وتطلعاته وثقافته الأدبية، ليميل بالتالي إلى قراءة الأعمال العالمية.
عمار الثويني
صاحبت موجة الإنتاج الروائي العربي الغزير في السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في عدد الجوائز الممنوحة لهذا الفن الأدبي بشكل خاص، محلياً، أي تلك المخصصة لأدباء من دولة محددة، وعربياً، وفئوياً، أي تلك التي تشترط عمر المتقدم، ونتاجياً (الجوائز المخصصة للروايات المنشورة وغير المنشورة).
ومع أن هذه الجوائز تحمل أهدافاً نبيلة من بينها تسليط الضوء على الابداعات الروائية وأصحابها، وتكريمهم مادياً ومعنوياً، والتشجيع على القراءة والمساهمة بشكل كبير في نقل الأدب العربي إلى فضاء عالمي أرحب، فإن النيات وحدها لن تسهم في ترجمة هذه الغايات مادامت هذه الجوائز وطريقة عمل لجانها تفتقر إلى الآليات وتعوزها الممكنات، وربما تنقضها حتى الخبرات الإدارية المطلوبة.
بعض هذه الجوائز صار عمرها سنين عديدة، وهي الفترة الكافية لمنح القائمين عليها خبرة واسعة تستفيد منها دورة إثر أختها، لا أن تظل تدور في الحلقة ذاتها من الآلية الفقيرة وطريقة العمل المجهولة والمكررة وغياب التجديد. مثل هذا الأمر لن يتحقق إلا بالوقوف على مكامن الضعف والقوة لكل دورة لاستنباط العبر واستشراف آراء الشرائح المعنية عبر اجراء استبيان واسع النطاق لجمهور كبير من القراء والنقاد والروائيين والناشرين. فالكثير من هذه الشرائح بدأت تفقد ثقتها في الأعمال الفائزة أو المرشحة للقوائم المتنافسة، وباتت متيقنة أن ثمة عوامل تلعب دوراً في اختيار الأعمال بعيداً عن الابداع والجمال الأدبي، ناهيك عن ثقتهم شبه المطلقة بوجود بون شاسع ما بين الجوائز الأدبية العربية ونظيرتها الأجنبية، مع أن الأخيرة لا تسلم من تأثيرات اللوبيات الأدبية.
ومن بين الملاحظات أود الإشارة إليها في هذا المقال، أملاً في أن تسهم في تطوير عمل الجوائز الروائية:
أولاً: الجائزة، باعتبارها مشروعاً مثل أي مبادرة أخرى، بحاجة إلى فريق عمل متكامل لا مجرد لجنة مؤلفة من عدة أشخاص تعمل معظم الوقت بطريقة مفردة ولا تجتمع إلا مرات قلائل خلال الدورة الواحدة. وأحد مهام هذه الفرق هي الترويج للجائزة بشكل منظم ومنسق واستخدام منصات التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب/فيسبوك لتوضيح المعايير وكيفية التقديم وكذلك كيفية اختيار أفضل الأعمال. مشكلتنا الكبرى في العالم العربي هي عدم التوثيق فلا أحد يعرف مثلاً بما يجري في اجتماعات اللجان، والنتائج التي تخلص إليها، والتوصيات وأوراق العمل المقدمة، وهل ثمة تغير في معايير التقييم، بل كل شيء يجري ارتجالاً على ما يبدو. شخصياً، وجدت في لجنة جائزة الابداع العراقي تنظيماً ومتابعة أفضل بنحو كبير من أبرز الجوائز العربية الممنوحة للرواية، حيث بذل الفريق جهوداً واضحة للترويج للزيارة واجراء اللقاء والمؤتمرات الصحافية في عدة مدن عراقية لشرح أهمية الجائزة وكيفية الترشح لها وحيث مجموعة أكبر من ذوي الابداعات للترشح لها.
ثانياً: ليس المهم من هذه الجوائز القيمة المالية الممنوحة للمؤلف، بل الأهم أن تخدم هدفين رئيسين: زيادة اقبال الجمهور العربي على القراءة، ونقل الرواية العربية إلى فضاء عالمي. ومثل هذا الأمر يتحقق عندما يثق القارئ العربي بنزاهة ودقة وصوابية اختيار الأعمال المتوجة، وكذلك الناشر الأجنبي الذي سيتلقف الأعمال الفائزة ويقوم بترجمتها على حسابه لأنها مكتوبة بمعايير إبداعية تروق لجمهور عالمي. ولكن ما حصل للأسف أن الجوائز خدمت دور النشر العربية أكثر من القارئ بينما لم تلق العديد من الأعمال المتوجة اقبالاً ملحوظاً لدى الناشر الأجنبي. مثلاً، رواية "الطلياني" المتوجة بجائزة البوكر عام 2015 والتي تكفلت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة بترجمتها للانجليزية لم يتم حتى الان التعاقد مع أي ناشر حتى مع سعي الوكيل الأدبي لإقناع عدد كبير من الناشرين البريطانيين.
ثالثاً: تفوق عمل على آخر، وفقاً لتصريحات اللجان، يقوم على أساس أفضلية العمل. تعريف "الأفضلية" بحاجة إلى دقة واعتبارات وإعادة تقييم مضنية لا ارتجالية، وأن يملك المقيمون الشجاعة الكبيرة والحيادية التامة في التعامل مع كل الروايات الواردة إليهم، حتى لو اختلفوا مع طروحاتها فكرياً وسياسياً ونفسياً واجتماعياً. عدد ليس بالقليل من الأعمال التي طالعتها، والتي وصلت للقوائم والقصيرة أو تلك التي فازت بالجوائز، لا تملك أي لون من الابداع واللغة والثيمة الرصينة وحتى المعرفة بفن الرواية، وهو الرأي شاطرني فيه كثير من الأدباء والنقاد لضحالة وسطحية السرد، فكيف لمثل هذا العمل أن يتفوق على غيره، بل يتوج على جميع الأعمال المنافسة. يجب وضع معايير علمية لا ارتجالية أو ذائقية لتقييم الأعمال فهذه المعايير دخلت في كافة المجالات تقريباً، حتى في اختيار ملكات الجمال. فعلى سبيل المثال يمكن وضع 20 معياراً تتعلق مثلاً باللغة والخيال وعمق الطرح والشخصيات والثيمة والابداع والتجديد وتماسك النص ولكل معيار خمس درجات، ليصار تقييم وحساب كل عمل والاعلان عنها بشفافية تامة. طوال دورات الجوائز العربية، لم أصادف رأياً تفصيلياً من عدة صفحات يبرر الباعث وراء تتويج عمل ما بالجائزة الممنوحة، بل وجدت كلمات لا تتعدى السطر الواحد وعلى استحياء لاختيار العمل وتتعلق هذه الكلمات الفقيرة بثيمة العمل لا الجانب الإبداعي، مما يرسخ الاعتقاد بارتجالية ومزاجية الاختيار.
رابعاً: الرواية كعمل ابداعي خيالي يقوم على عدة شخصيات وأحداث وثيمات من الصعب قولبتها أو تأطيرها وهي تختلف من كاتب لآخر ومن بلد لآخر وأحياناً حتى بين الأعمال المتعددة للكاتب نفسه. وفي الشكل العام، تختلف الرواية العراقية عن المصرية وعن الفلسطينية وعن السودانية وكذلك عن روايات بقية الدول العربية. وفي الغالب أيضاً، يميل القراء والنقاد في بلد عربي ما إلى مطالعة الإصدارات الجديدة لمؤلفي بلدانهم بحكم توفرها ومعالجتها لقضايا أقرب وجدانياً للجمهور المحلي فضلاً عن توزيعها مجاناً على النقاد من أجل تشجيعهم عن الكتابة عنها. هذا الأمر برأيي قاد النقاد/المحكمون وجدانياً إلى تفضيل الأعمال الصادرة من مؤلفي بلدانهم بنحو أكثر من غيرها، لذلك نرى حضور دول معينة في منصات التويج بشكل دائم، مقابل غياب دول مثل الجزائر وحتى مصر التي تشارك بحصة الأسد في الدورتين الماضيتين من البوكر، حيث لم تصل سوى رواية إلى القائمة القصيرة في تلكم السنتين مقابل حضور بارز للرواية الفلسطينية.
خامساً: الجوائز العربية لا تفرق بين الروايات الخيالية وغير الخيالية fiction and non-fiction مع ميل واضح لتفضيل الأعمال المكتوبة بصيغة الشخص الأول لا الراوي العليم باعتبارها روايات ما بعد الحداثة. وفي المقابل فإن الروايات المسرودة بتقنية الراوي العليم تتطلب جهداً أكبر وخيالاً أوسع وثيمة أكثر تماسكاً بحكم تعدد الشخصيات. لقد وجدت أن أغلب الأعمال المتوجة والمتنافسة هي مكتوبة بصيغة الراوي غير العليم حتى تلك التي كانت تتثيم حول شخصية تاريخية مثل ابن عربي في رواية موت صغير التي توجهت بالبوكر عام 2017. مثل هذه الأعمال تجعل الحكام/المقيمين يميلون وجدانياً إليها أكثر من الأعمال المكتوبة بتقنية الراوي العليم (القائمة القصيرة للبوكر هذا العام جميعها مكتوبة بهذا الأسلوب). لقد فهمت دور النشر العربية البارزة هذه اللعبة وأخذت تفضل هذا اللون من الكتابات "الخفيفة" و"السريعة" بالمقارنة مع الروايات العميقة والطويلة، فباتت تتربع على منصات التتويج بشكل شبه دائم. وبالمحصلة، استفادت دور النشر والمؤلفين من الجوائز، بينما خسر القارئ وحده الذي يتلهف طوال العام لاقتناء الرواية الفائزة ولما يكتشف أنها لا تلبي طموحاته وتطلعاته وثقافته الأدبية، ليميل بالتالي إلى قراءة الأعمال العالمية.
عمار الثويني
Published on January 31, 2019 11:06
•
Tags:
جوائز-روائية-عربية-البوكر