مشاهدات حاجة
من الصدفة أن أكتب هذا المقال، الذي خططت له منذ ذهابي للحج، في اليوم ذاته الذي زارتنا فيه أسرة مسلمة من أوربا قضت للتو ركنها الخامس. كانت فرصة مناسبة لي لأسجل انطباعات الآخرين عن حج هذا العام، لاسيما وأن الغربيين عموماً لا يعرفون المجاملة كما نعرفها نحن. وقبل حتى أن أسأل كانت هذه السيدة الانجليزية، التي اعتنقت الدين قبل أكثر من ثلاثين سنة، تثني على موسم حج هذا العام، وتثمن كثيراً جهود الحكومة السعودية في التنظيم والتحديثات التي تجريها في المشاعر. قالت لي:" أستاء كثيراً حينما أسمع أحداً يقلل من جهود المملكة العربية السعودية في ما يتعلق بالحج والعمرة، بإمكانك أن تختار التركيز على خلل بسيط هنا أو نقص هناك حيث تكون..لكنك حين تمد بصرك إلى الأفق البعيد وترى هذه الحشود المليونية في هذه البقعة الضيقة في زمن واحد، وتبصر هذه الجهود المبذولة من أجل حفظ أمنهم وسلامتهم والعمل على راحتهم ستشاهد الصورة الكبرى الصادقة وهي أن الإيجابيات تفوق السلبيات بمراحل وبعض هذه السلبيات من الحجاج أنفسهم".
ما قالته ضيفتي أسعدني ولم يفاجئني، لأنني أعرف إنصافها ولأنني أقدر جهود بلادنا أيضاً. وبما أنه أتيح لي الحج بحمد الله هذا العام، فقد خبرت ذلك بنفسي ورأيت كل هذه المشاريع التطويرية في منى، التي بدت مختلفة بشكل كبير عن تلك التي عرفتها قبل خمسة عشرة عاماً حين أديت حجة فريضتي. ويكفي جسر الجمرات الذي جعل أداء هذا النسك العظيم أمراً سهلاً وميسراً مقارنة بالسنوات السابقة، حين كان الخوف من التدافع والدهس يجبر الكثير من النساء خصوصاً على توكيل من يرمي عنهن وبالتالي يُحرمن من أجر الدعاء بين الجمرتين.
ومع كل هذه الإيجابيات التي ذكرتها، فلا شك أن هناك بعض الأمور التي نذكرها هنا بهدف تلافيها في السنوات المقبلة وليس تقليلاً من مجهودات كل من خطط وأشرف وشارك وعمل في موسم الحج لهذا العام.
فابتداء دعونا نتحدث عن حملات الحج الداخلية، التي لازالت ترد بشأنها شكاوى عديدة، فهناك الأسعار الفلكية التي قفزت بشكل غير مبرر لتصل تكلفة الحاج الواحد أحياناً إلى أكثر من ستة عشر ألف ريال في غرفة مشتركة مع الآخرين، أو إلى خمسين ألف ريال للشخص الواحد في الغرف العائلية الخاصة. وصحيح أن هذه الحملات تصنف نفسها على أنها حملات النخبة أو الخمس نجوم، لكن هل هناك من يتأكد من أنها تقدم خدمات موازية لما تعلن عنه وللتكلفة التي تتقاضها؟ هل هناك تصنيف رسمي للحملات كما هي الحال في الفنادق مثلاً؟ وفي حال لم تلتزم الحملة بما وعدت به الحاج، مثل استخدام قطار المشاعر بحجة أن خطة التفويج المقدمة لهم غير مناسبة، هل يحق له المطالبة باسترداد بعض التكلفة؟ وما هي الجهة التي يتظلم عندها؟
قابلت فئات مختلفة من حجاج الداخل ودول الخليج، وسمعت عبارات الاستياء من البعض لهذا السبب أو ذاك، فتلك حاجة استغرق منها الوصول من مخيمها في منى إلى محطة القطار ومن ثم إلى محطة عرفة وبعدها إلى المخيم هناك أكثر من ست ساعات مع الحملة! وتخلل ذلك الكثير من المشي فوصلت مع رفيقاتها مرهقة بشكل كبير. وآخرون لم يقم باص حملتهم بالتوقف في مزدلفة بتاتاً، أو توقف لساعة ولكنه غادر قبل منتصف الليل، وهذه الأمور مزعجة جداً لمن يحج حجة الفريضة خاصة بالإضافة إلى كونها مخالفة لما تم الإتفاق عليه سلفاً.
ومن حملات الحج سننتقل إلى الحجاج وإلى كارثة الافتراش، والتي رغم كل القيود والعراقيل التي تضعها السلطات في وجه هولاء من أجل أن يؤذوا ضيوف الرحمن بافتراشهم، فإن أعدادهم لا تبدو وكأنها تقل أبداً، فهم حولك في كل مكان، بل باتوا أكثر تطوراً إذ يستخدمون الآن الخيام الصغيرة الخاصة بالتخييم. ويترتب على هذه الأعداد الهائلة من المفترشين كمية غير طبيعية من القاذورات والمهملات وبقايا الطعام التي تعكر الصورة الناصعة البياض للحجيج في المشاعر المقدسة، وما قد تجلبه معها من أوبئة وأمراض.
حين طرحت قضية الافتراش في الشبكات الاجتماعية، اتفق الكثيرون على كونها مشكلة مزمنة، أرجعها البعض للجهل وللمفاهيم الخاطئة عن المشقة والأجر، في حين أرجعها آخرون إلى إرتفاع أسعار حملات حجاج الداخل، بحيث لم يعد المفترشون فقط من فئة الفقراء والمساكين بل بات من بينهم بعض أبناء الطبقة المتوسطة وذوي الدخل المحدود من المواطنين. وصحيح أن الحج لمن استطاع إليه سبيلاً، ولكنه في الوقت نفسه لا ينبغي أن يتحول إلى متعة للأغنياء وحدهم. وأعتقد أن تقليل عدد المفترشين يجب أن يوضع ضمن أولويات أي حج مقبل، بل ويصبح أحد معايير نجاح الحج مثله مثل الأمن من الكوارث والسلامة من الشغب والخلو من الأمراض الوبائية والمعدية. وهذا بدوره سيجعل الحج أكثر نظافة وأقل صعوبة ومشقة على الناس، إذ أنه من أصعب الأمور في الحج أن تمشي وسط هذا الركام البشري دون أن تدوس على النائمين، أو أن تخوض بملابس الإحرام الطاهرة وسط مخلفاتهم.
أيضاً نشكر جهود الكشافة ورجال الأمن في الحج، ولا ينكر أحد فضلهم ومساعدتهم للناس، إلا أن الكثير منهم على ما يبدو من خارج المنطقة مما يجعلهم غير ملمين بها بشكل جيد. تسألهم أن يدلوك على مكان إقامتك أو إلى كيفية الوصول من هذا المشعر لذلك فيأتيك الجواب: "لا أعرف"! أو يعطيك إجابة ستتسبب في أن تقضي ليلة كاملة وأنت تدور في حلقة مفزغة.
الحج شعيرة عظيمة، وفي أدائها -رغم التعب- متعة كبيرة، وقد أكرمنا الله تعالى دوناً عن العالمين بشرف إدارتها والإشراف عليها، ولذلك كنا وسنظل راغبين بأن يتحسن أداؤنا فيها عاماً بعد آخر..فالحج أقدس وأجمل وأطيب مهرجان سنوي في هذه الدنيا، ويجب أن يخرج في أكمل صوره.
* ملاحظة: يمكنكم الضغط على الصور لتكبيرها
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

