وداعا يا صاحب الوجه الباسم

ياله من عام استثنائي هذا الذي يوشك أن يودعنا سواء كنت تتبع التأريخ الهجري أو الميلادي..اختلفت الأرقام وظلت الأيام هي الأيام..فيها الكثير من كل شيء..ما بين فرح وحزن..وخيبة وانتصار..فجيعة وفرح. فلقد تغيرت فيه خرائط دول وسقط فيه طغاة وتغيرت حكومات بل أنظمة حكم بأكملها ولا زالت أيامه الأخيرة كما يعتقد الكثيرون حبلى بالمفاجأت..لكنه يأبى على ما يبدو إلا أن يأخذ منا قبل رحيلة بعض أحبتنا..ففقدنا في أيامه الأخيرة شهداء وأدباء ومفكرين وفنانين متميزين..لكن فجيعتنا الوطنية الأعظم كانت بلاشك هي فقداننا لأمير الخير..صاحب الوجه الباسم أبداً..ولي عهدنا الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود يرحمه الله.


أنتمي لجيل قبّل وجه الحياة والأمير سلطان يشغل مناصباً قيادية في الدولة فاعتدنا على سماع اسمه ومتابعة أخباره وكأنه فرد من أسرة كل واحد منا. ومن يتتبع أعماله الخيّرة في الداخل والخارج فسيعرف لم لُقب بسلطان الخير، فقد كان دائماً مقصداً لمن سُدت في وجههم أبواب الأمل، من مواطنين ومقيمين، فيعيد لهم -بعون الله- جذوته في قلوبهم. ولهذا لا يمكن إلا أن نشعر بالكثير من الحزن ولوعة الفراق ونحن نعرف بأنه لن يكون بيننا بعد اليوم، وأن تلك اليد الممدوة بالعطاء قد أسلمت روحها لبارئها.


هناك الكثير من جوانب حياة الأمير سلطان المميزة، والتي تستحق أن يُسلط عليها الضوء وتسود بها الصفحات، وإن كان لا بد من الاختيار لضيق المساحة فليكن التركيز على جهوده في أعمال البر والخير والإحسان لاسيما للمواطن السعودي، وكذلك على الجانب الجانب العسكري والقيادي في شخصيته. خاصة دوره في أكبر تحدٍ واجهته المملكة في الثلاثين سنة الأخيرة وهي جريمة احتلال الكويت وما تبعها من حرب الخليج الثانية. والتي كان على المسؤولين في المملكة والخليج اتخاذ قرارات صعبة جداً لإنقاذ دولهم وحماية شعوبهم في منطقة تغلي على فوهة بركان، والآراء الشعبية كما الحكومية العربية آنذاك منقسمة بشكل شبه كلي في الكيفية التي يجب التعامل فيها مع هذه المصيبة الطارئة. هنا برزت شجاعة القيادة السعودية، والأمير سلطان آنذاك وزير دفاعها ومسؤولها العسكري، في اتخاذ القرارات اللازمة من أجل تحرير الكويت وإنهاء التحكم الصدامي بالمنطقة. فصدر الأمر بتكوين التحالف الدولي وكانت المشاركة الفعالة للجيش العربي السعودي في معركة عاصفة الصحراء تحت إشراف الأمير وبقيادة ابنه البكر الأمير خالد بن سلطان. والأمير نفسه هو من وضع لبنة الجيش السعودي الحديث ومهندس المدن العسكرية بمرافقها الشاملة والمنثورة على رقعة بلادنا الشاسعة.


الذين يعرفون أبا خالد عن قرب يخبروننا اليوم بأن الابتسامة التي تكاد لا تفارق محيا الرجل كما السماحة البادية في قسمات وجهه كانتا إنعكاساً تلقائياً لشخصيته المتسامحة اللينة، وكيف أن هذه الشخصية مكنته بأن يكون دائماً محضر خير وحمامة سلام بين الكثير من المتخاصمين والمتنازعين، سواء كانوا قريبين أو بعيدين، أفراداً أو قبائل، وشخصياً لازالت ذاكرتي تخبرني بأن اسمه كثيراً ما تردد حين يأتي الأمر لدفع الديات وعتق الرقاب. بل إن خيره لم يكن مقتصراً على الإنسان فحسب وإنما امتد لحيوانات هذه الأرض الطيبة ونباتاتها من خلال دعمه الداعم للهيئة السعودية لحماية الحياة الفطرية.


وإذ اخترنا أن نركز على الجانب الإنساني هنا، باعتباره باقياً -إن شاء الله- حتى بعد رحيله، فسنتكلم عن مؤسسة "الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية"، والتي تقدم نموذجاً يُحتذى لما يجب أن يكون عليه العمل الخيري المنظم في مجتمعنا. فالمؤسسة التي يقترب عمرها من العقدين، هي صرح حضاري رائدٌ في تقديم الخدمات الإنسانية للمجتمع. وهي ترفع شعاراً ممتاز يقول: "مساعدة الناس ليساعدوا أنفسهم". فنشاطاتها تركز بشكل أساسي على تقديم الرعاية الصحية والاجتماعية والتأهيل الكامل لفئتين مهمتين في المجتمع: فئة المعاقين والمسنين، بما في ذلك توفير الأجهزة الضرورية لهم سواء في دور الرعاية والنقاهة أو في منازلهم للتكيف مع مرضهم أو عجزهم مع رفع الوعي الاجتماعي لهم ولمن حولهم وللمجتمع ككل بشأن حالتهم. كما أنها تلعب دوراً بحثياً هاماً بالتعاون مع المؤسسات المتخصصة ومراكز الأبحاث في الجامعات في مجالات الإعاقة والشيخوخة، وهي من ثم تقدم نتائج هذه الدراسات للمؤسسات الحكومية التي تعنى بهذه الخدمات.


ولا شك أن المؤسسة ستفتقد لمسة مؤسسها إلا أن الأسس التي أقامها عليها وإشراف أبناءه من بعده عليها ورعايتهم لها أمور كفيلة بتمكينها من مواصلة دورها الحضاري والإنسان بريادة وتميز.


كل البشر سيعودن يوماً إلى بارئهم حين يأتي وقت استرداد الأمانة، لكن الفرق يكمن في التأثير والسمعة اللتان يتركهما المرء بعد رحيله، فهناك من يفرح الناس لموته ويبتهجون فرحاً لزواله بل وترتفع أكفهم بالدعاء بأن يحاسبه ربه حساباً عسيرا على ما ارتكب في حقهم، وآخرون يبكي الناس بمرارة إذ يصلهم نعيه ويودعونه بحزن وأسى ويكون دعائهم الصادق بأن يرحمه الله ويغفر له ويبدله منزلاً خير من منزله وأهلاً خير من أهله وولي عهدنا الراحل واحدٌ من هؤلاء الذين شيعهم الوطن بأسى عظيم..رحم الله أمير الخير العطاء وأجزل له الأجر والثواب.


المقال في الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 26, 2011 03:00
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.