الولي العابد: محمد بنبراهيم أنصاري (5): شيـــــــــــخه: مولاي علي العلمي.

الولي العابد:       محمد بنبراهيم أنصاري (5) : شيـــــــــــخه:  مولاي علي العلمي . تأليف: إلياس بلكا.
(الصورة الوحيدة للشيخ، وتعود إلى  سنة 1936)
نواصل الحديث عن شخصية الأستاذ بنبراهيم وتصوّفه وأخلاقه، فنخصّص حلقة اليوم لشيخه الكبير المعروف في حياته وبين معارفه بــ: مولاي علي العلمي، أو مولاي علي الشريف. فقد كان رضي الله عنه هو الذي أخذ بيده وعلّمه الأوراد ولقـّنه الأذكار، وكان الشخصية الأكثر تأثيرا في حياة الأستاذ بنبراهيم، وكانت بينهما محبة عظيمة، فكان الأستاذ يتحدث عنه وعن مآثره وأخلاقه وتصوّفه إلى آخر أيامه، بل يأسف على ما فاته منه.  كان يخرج من عمله على الساعة السادسة مساء ويقود سيارته، أحيانا  بسرعة جنونية،  (وقد تحدثنا في المقال الأخير عن "الأزمة" التي تكون مقدمة لسلوك الطريق عند كثير من الصالحين)، لدرجة أنه كان لا يعرف من يَسوقها فعلا، وذلك  في منعرجات جبال مقدمة الريف، فيصل إلى شيخه بخلوته ويجلس معه قليلا، أو بحسب ما تيسّر، ثم يقفل عائدا إلى فاس حيث في الصباح على الساعة الثامنة يكون بمكتبه. وقد أثمرتْ هذه الصحبة، ففُتِح للأستاذ علىيدشيخه العلمي.. والفتح -إذا أردنا تلخيص أمره في جملة واحدة-  هو انفتاح البصيرة وقدرتها على الإبصار، وهذه البصيرة القلبِية أوسع وأعظم بما لا يُقاس من البصر الحسي لأنها من مُتعلقات الروح، أو قُل من "حواسّها". مرة شرح لي الأستاذ بنبراهيم الفتح بلغة بسيطة وجميلة،فقال: هوكأنكدخلتَإلىميدانفسيحشبهمظلم، فأنت لا تكاد ترى شيئا، وفجأة اشتعلتْ أنوار كثيرة قوية فأضاءت المكان كله..  فتحدُث المفاجأة ويقع الدهش، ويرى المرء ما لم يكن يرى: (لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشَفنا عنك غطاءَك فبصرُك اليوم حديدٌ.) وإذا أراد القارئ التفاصيل، فإن من أحسن من شرح "الفتح" وفصّل مراحله وما يحدث فيه الشيوخُ: الدباغ في الإبريز، والتيجاني في روح المعاني، وابن عربي في كثير من كتبه، خاصة الفتوحات المكية.وقد ظلت هذه الصلة وطيدة وثيقة بين الشيخ والتلميذ حتى توفي السيد علي العلمي رحمه الله.  فكان بنبراهيم هو الوارث لشيخه، كما صرّح بذلك مولاي علي له ولغيره، لدرجة أنه كان يعتبره ابناً له، فهي البنوة الروحية المعروفة في التصوف.كان بنبراهيم يزوره بصفة دورية، وأحيانا يمكث عنده الأيام الطوال إلى الشهر، وكان لهما خلوة خاصة.. وأملى عليه كثيرا من الأذكار والأدعية التي في مجموع أوراده.وكان ممّا ورِثه الأستاذ عن هذا الشيخ:  قضاء الحاجات -ومنها التداوي-  بسورة الفاتحة، حتى كان –أي بنبراهيم في بدايته- يقرؤها آلاف المرات في اليوم.. وهذه الموهبة الإلهية تعود لعمّ الشيخ العلمي، فانتقلت إلى أخيه محمد والد الشيخ علي، ثم إلى الشيخ علي، ثم إلى بنبراهيم. إنها -بتعبير الفيلسوف الفرنسي المسلم "روني غينو" أو يحيى عبد الواحد-  البركة التي تنتقل من الشيخ للتلميذ في سلسلة متصلة، قد تستمر وقد تنقطع عند حلقة ما. أصل ذلك أن القرآن الكريم شفاء مادي ومعنوي، ثبت ذلك بالآيات كما قال تعالى: }وَنُنَزِّل مِنْ الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ{،وبالأحاديثكحديثأبيسعيدالخدريفيصحيحالبخاريعنالصحابةالذينمرّوابحَيّمنالعرب وقد لُدغ  كبيرهم بالسمّ،  فقرأ صحابي عليه سورةالفاتحة،فبرأالرجل. قالابنالقيمفيكتابهزادالمعاد: "اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻫﻮ اﻟﺸﻔﺎء اﻟﺘﺎﻡ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺩﻭاء اﻟﻘﻠﺒﻴﺔ ﻭاﻟﺒﺪﻧﻴﺔ، ﻭﺃﺩْﻭاء اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭاﻵﺧﺮﺓ، ﻭﻣﺎ ﻛُﻞ ﺃﺣﺪ ﻳﺆﻫَّﻞ ﻭﻻ ﻳُﻮﻓﻖ للاﺳﺘﺸﻔﺎء ﺑﻪ، ﻭﺇﺫا ﺃﺣﺴﻦ اﻟﻌَﻠﻴﻞُ اﻟﺘﺪاﻭﻱ ﺑﻪ، ﻭﻭَﺿﻌﻪ ﻋﻠﻰ ﺩاﺋﻪ ﺑﺼﺪﻕ ﻭﺇﻳﻤﺎﻥ، ﻭﻗﺒﻮﻝ ﺗﺎﻡ، ﻭاﻋﺘﻘﺎﺩ ﺟﺎﺯﻡ، ﻭاﺳﺘﻴﻔﺎءِ ﺷﺮﻭﻃﻪ، ﻟﻢ ﻳﻘﺎﻭﻣﻪ اﻟﺪاء ﺃﺑﺪا." ثم حكى بعض تجاربه الشخصية.فهذا علم مستقل  يعرفه أصحابه يسمى: خَواصّ القرآن الكريم.وقد نفع الله بالشيخ علي خَلقا كثيرين جدا، قصدوه للعلاج، حتى كان مشهورا في المنطقة بذلك. وكذلك طالما نفع الأستاذ بنبراهيم الناسَ المرضى والحيارى وأهل البلاء، بسورةالفاتحة وغيرها من السور والأذكار، يرقَي بها المحتاج أو يعطيه الذِّكْر المناسب. ولا يعلم غيرُ الله عددَ هؤلاء، فقد قدّرهم صديقه المُقرّب الأستاذ حسن ميكو بما لا يقلّ عن ثلاثة آلاف إنسان، بل جزم بأن العدد الحقيقي أكبر من هذا بكثير قد يصل لخمسة آلاف.والجميل في الشيخين: العلمي وبنبراهيم أنهما كان يفعلان ذلك لوجه الله الكريم، ولا يقبلان أيّ تعويض مادي على ذلك.. بل كان بنبراهيم –كما خبرتُ ذلك منه مرارا-  لا يقبل حتى الهدية: لا هدايا المُحبين ولا غيرهم، لا هدية سبب ولا هدية المحبة الخالصة بلا سبب. نرجع إلى الشيخ علي، فقد كان أبوه محمد من كبار الأولياء الصالحين، عاش بصيرا معظم حياته، وكان مُجاب الدعوة، وكانت له خلوة اعتكف فيها -متعبدا صوّاما قوّاما ذاكرا..- ما يزيد على الأربعين سنة في عزلة شبه تامة. وقد كان شأن الأب محمد أكبر وأجلّ من مقام ابنه كما أخبرني بذلك الأستاذ بنبراهيم.كذلك كانت زوجته – التي أنجبت له عليّا وابنا آخر-  من الصالحات التقيّات. وتوفي رضي الله عنه حوالي 1905 ودُفن بمسجد الخليعة، وقبره معروف عند السكان. وكان مُعمّرا، فيكون وُلد فيما لا يقل عن 1820.وقصة استيطان هذه الأسرة العَلمية لبني فراسن، أنهم جاؤوا أولا من جبل علَم إلى فاس، وكان أحد أعضاء الأسرة مؤذنا بها، فعُرفت ذريته بالعلمي المؤذن أو المودّن؛ ومن فاس هاجروا إلى ما يُعرف الآن بدوار زادرة بتاهلة بإقليم تازة، وبها موطن أحد أشهر الأجداد، وكان من الصالحين، وهو الشيخ أحمد المودن دفين دوار “أغبال“ بتاهلة، بمكان يُسمى: أربعاء باب الشجرة. ثم من أحفاد الشيخ أحمد المؤذن مَن انتقل إلى آيت تسول بجنوب مقدمة جبال الريف، وهي قبائل أمازيغية الأصل، وإلى بني فراسن بالضبط، بمكان يُسمى الخليعة. والشيخ علي العلمي من أحفاد هذا الجد أحمد المودن، عاش هو وأبوه الشيخ محمد بهذه المنطقة، ثم انتقل الشيخ علي إلى سيدي عبد الجليل في زمن متأخر.ولد مولاي علي حوالي 1900، وتركه أبوه يتيما ابن خمس سنين، وتعلّم بالمنطقة؛ وعند دخول الاستعمار الفرنسي، ومع الفوضى العامة، نُهِبتْ معظم أملاكه، فهرب بأسرته لغابة مجاورة، وكانت ظروفا شديدة .. لكنه عاد بعد حوالي سنة وعوّضه الله خيرا.ثم انخرط مع المقاومة الوطنية وكان عضوا فاعلا فيها ضد الفرنسيين، فألقوا عليه القبض وأودعوه بسجن إفران، ثم نُقل لسجن آزرو، فأمضى فيهما سنتين، من 1936 إلى 1938، تعرّض فيها لعنَت الفرنسيين واضطهادهم، ونال نصيبه من التعذيب.. رضي الله عنه.بعدها بزمان تولّى مشيخة المنطقة بضغط من القبائل والقائد.. وذلك لفترة محدودة، إذ وقف عليه أبوه في المنام ونصحه بالانسحاب، فترك السياسة وشؤونها، وتفرّغ لعباداته وفلاحته وتربيته لسكان المنطقة.ونُوجّه لفهم بعض وظائف أمثال الشيخ العلمي في بيئته القَبَلية بمراجعة ما كتبه  المؤرخ عبد الرحمن المودن في رسالته الجامعية: البوادي المغربية قبل الاستعمار (قبائل إيناون والمخزن ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر)، وهذه هي المنطقة التي عاش فيها الشيخ، وانظر خصوصا ما كتبه عن الدور السياسي والاجتماعي للأشراف الوزانيين، وتمثـّلهم لنوع من الوساطة بين المخزن والقبائل. وهو عموما دور إيجابي، خاصة في فترات الفوضى..  مع فارق أن الشيخ العلمي اعتزل السلطة وأمورها تماما.وقد أخذ الطريق عن أهم شيوخه: شيخ مغمور يسمى "أحمد الوزاني"، ذو كرامات وفتوحات، صحبه بالسجن وانتفع به كثيرا. لذلك فطريقته في ظننا وزانية، فإن صحّ هذا فهي شاذلية، يبقى هل هي جزولية، أم فاسية (من طريق الشيخ أبي المحاسن)؟ كما يحتمل أيضا أن تكون درقاوية.ثم أمضى في حالة الجذب أربع سنين، بعدها "استفاق" ورجع إلى حاله "الطبيعي". وللجذب معنيان: الأول في مقابلة السلوك، كما رأينا في المقال السابق، وهو المقصود من كلمته التي كانيرددها كثيرا: نظرةٌ منه (أي من الله) تجعل الكافر وليّا.. والثاني في مقابلة الصّحو، وذلك أنه يحدث لبعض المريدين أن يُكشف لهم عن جزء من عالم الغيب بطريقة تنجذب نحوه عقولُهم وأرواحهم، فيظهر للناس أنه بلا عقل، بينما الحقيقة أنه "يعيش" في عالم آخر.  والمقصود في حالة الشيخ علي هو الجذب الثاني. وقد عاش الشيخ في طريق الترقية والذكر والعبادة مدة لا تقلّ عن أربعين سنة؛ وكان رحمه الله لا تفارق يده السبحة، ولا يفتر عن الذكر، خاصة بالقلب، حتى كان لسبحته رائحة زكية مجهولة المصدر. ومرّة ذكَر في صبيحة واحدة آية الكرسي أربعة وعشرين ألف مرة، وهو ذِكر قلبي يُطوى فيه الزمان (لتقريب الموضوع اقرأ عن موضوع الزمان في الفيزياء النسبية، فهذا من باب "طيّ الزمان ونشْره" كما قال ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى). كما كان على تواصل بالحضرة النبوية. أما كراماته فكثيرة، منها شفاء الناس، حتى الحالات المستعصية، والإخبار ببعض المغيبات، والتصرّف المعروف.  وفي الدنيا لم يكن عالة على أحد، بل كان فلاحا، يعمل في أرضه بيده. وهي ضيعته بسيدي عبد الجليل، وهي الآن ممّا شمله السدّ. وفيها عاش كثير من أبنائه. وهم عديدون، أكثرهم لحق به الآن، وفيهم صالحون. من أبنائه: الكريم بن الكريم، الأستاذ المثقف: عبد الكريم، فقد أفادني بكثير من المعلومات هنا جزاه الله كل خير.أما قصة فقده لعينه اليمنى في الربع الأخير من عمره أنّه نظر لحاله وعمله فلم ير فيهما شيئا يستحق به جِوار الله، فدعا اللهَ تعالى أن يأخذ أيّ عينٍ يحب، ويترك له الأخرى يدبر بها أمور حياته.. وطلب بذلك أن يُرزق رؤية الله في الآخرة، فقدّم عينَه قُربانا لربّه. فبينما هو يصلح بعض أدوات الحرث فقأتْ حديدةٌ عينَه اليمنى، وذهبوا به للمستشفى لكن اتفق أن كانت أيام عيد الاستقلال، فغاب الأطباء، وحين عاودوا العمل كانت عينه قد تلفتْ. وقد توفي هذا الوليّ الصالح في 25 ديسمبر 1975، ودُفن بخلوة أبيه الشيخ محمد، بمكان يسمى:  منطقة الخليعة  (وبعضهم يسميها  بورقاد  بتيفازة)، وهوعندخروجكمنقريةحدّ ولاد زباير  -من قبيلة التسول بتازة، قريبا من مدينة واد أمليل-  كأنك تتوجّه إلى بلدة تيسة، فبعد حوالي ستة كيلومترات خروجا من ولاد زباير تنعطف يمينا لأربعة كيلومترات أخرى، وله ضريح هناك على يمينك في سفح الجبل.. رضي الله عنه وعن أبيه. أما الشخصية الثانية المؤثرة في صاحبنا فهو الفقيه العلامة:  محمد التاودي بن سودة، كان عالما في علوم الشريعة مع مشاركة في علوم التصوف، وكان آية في علم الأسماء. زار الأزهر في طريقه للحج، وحاضر فيه، فأبهر الحضور وأفادهم كثيرا.. لكن يبدو أنه لم يترك  كتبا. توفي رحمه الله بفاس ودُفن بمدافن آل سودة بالمدينة القديمة.يتبع..

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 03, 2017 12:35
No comments have been added yet.


إلياس بلكا's Blog

إلياس بلكا
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow إلياس بلكا's blog with rss.