الولي العابد: محمد بنبراهيم أنصاري (4): بــــــــــدءُ أمــــــــــــرِه.
الولي العابد : محمد بنبراهيم أنصاري (4): بــــــــــدءُ أمــــــــــــرِه . تأليف: إلياس بلكا.
( من اليمين محمد بنبراهيم، بالوسط الحاج محمد بن عبد السلام المصباحي، وبيسار الصورة الأستاذ حسن ميكو).
تندرج هذه المقالات في إطارالأدب المناقبي الذيتميّزت به الحضارة الإسلامية ووضَعت فيه آلافالمؤلفات. فقد اعتاد علماؤنا منقديم على الكتابة عن العلماء والصالحين وحكاية أحوالهم، حتىقامت مكتبة كاملة من كتبالتراجم والمناقب.. فألّفوا في طبقات الفقهاء، وفيعلماء بلد معين، وفي صلحاء زمن محدد.. ونوّعوا وأكثروا.. وهكذا ممّا هومعروف لدى أهلالاختصاص. أدب المناقب في تراثنا : وفيالأولياء خاصة كتبأبو نعيم الأصفهاني كتابه العظيم "حليةالأولياء"، واختصره ابنالجوزي في "صفةالصفوة"، وكتب كلٌّمن ابن الملقن والمناوي "طبقات الصوفية"، وكتبالشعراني عن أولياء عصره، وكثير منهم كانلا يزال حيّاأثناء الكتابة عنه.. وكتبالبادسي عن صلحاء الريف، والتادلي عن صلحاء المغرب، والتميمي عن عُباد فاس.. ومنآخرهم الكتاني فيسلوة الأنفاس.. كماكتب بعضهم عنوليّ معيّن، كماكتبوا عن الشاذلي وعبد القادر الجيلاني والرفاعي، وكتب ابنعطاء الله عنالشاذلي والمرسي، وكتببعضهم عن أبييعزى، وكتب ابنقنفذ عن أبيمدين.. وهكذا.. إلىآخره ممّا لايُعد ولا يُحصى، ولو أنأحدا جرّد البحث عن عددكتب التراجم والمناقب لوجدها تتجاوز عشرات الآلاف بدون أيّمبالغة. فالكتابة عنالعلماء والأولياء سنّةإسلامية وتقليد حضاري عريق وأدبمن أدب علمائنا.. ولاخوف على أجورهؤلاء الصالحين لأنهم أفْضوا إلىربهم، وإنما يكونالخوف أحيانا منالكتابة عن الأحياء.أمالماذا نكتب فيهذه المقالات عنالمعاصرين دون القدامى، فلأن الأوائل مضوا، فمنكُتب عنه أخرجنا ذلك وحققناه، ومن لميُكتب عنه فلاسبيل اليوم للتعرّف عليه.. بخلاف المحدَثين لاتزال الفرصة قائمة لجمع أخبارهم. ولسبب آخر هوبيان أن فضلالله تعالى لاينقطع، فهو فيكل زمان، معأن أكثرالناس يظنون أنالولاية انتهت أوصارت في حكمالنادر، لذلك قالوا: المعاصرة حجاب، فأهلالعصر لا يعترفون بمعاصريهم إلاّقليلا. والناس فيزمننا إذا قرؤوا في كتبالسلوك قالوا: ومنيطيق هذا اليوم، وإنما كانهذا في عهدالسلف؟ فنوضّح لهمأن بيننا اليوم ناسا كراما على منهاج هؤلاء فيالتعبّد والعرفان، وأنالرقيّ الروحي ممكنلكل جيل. وهذا الأستاذ رحمهالله كان أعجوبة تذكرنا بأنهلا يزال فيالأمة رجالٌ كبارعلى خطى السلف من العُـباد والعارفين والزهاد الصادقين.وقديرى القارئ الكريم أنه منالأوْلى ألاّ نكتبعن الصالحين والعلماء، فنترك أحوالهم مستورة مجهولة. فليعلم أن هذهالكتابة مطلوبة، ولها مقاصد متعددة، هذهبعضها:1- اقتداءً بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، فهمايحتويان على قصصكثيرة للأنبياء والصالحين الذين عاشوا قبلنا، كأهلالكهف والخضر وذيالقرنين وذي الكفل..2- للتأسّي بهم،فهم قدوة لنا،وحياتهم الطيبة مثاليُحتذى. وكما يوجدأهل الشر ولبعضهم صيت وانتشار.. كذلكينبغي أن نشهّر أهل الخير حتى يحصلالإيناس بهم والاقتداء بهم. 3- لأن منحكمة الله سبحانه أن يُعرّف ببعض عباده الأخفياء. إذالصالحون -كما قالعلماؤنا- على أصناف: فمنهم من شهّره الله ابتداء وانتهاءً (كالجنيد والشاذلي)، ومنهم من أخفاه الله فيبدايته ثم شهّره في نهايته أو بعدموته (كعبد السلام بن مشيش)، ومنهم منشهّره في بدايته ثم أخفاه (ككثير من الأولياء الذي غابوا وانقطعت أخبارهم تماما حتىبحياتهم)، ومنهم منأخفاه في بدايته ونهايته فلاسبيل لمعرفته. وكلّهذا تدبير منالله، وما العباد إلاّ خدميسخرهم سبحانه لمايشاء.4- وقد يُحبالله عبدا فيريد أن يرفعشأنه بين الناس، رغم أنالعبد يكون فيغاية التواضع والخمول تعظيما للربّ، فيشهّره اللهكما قال عننبيه عليه السلام: (ورفعنا لك ذكرك). وأكبر ظني أنالأستاذ محمد المتوفى في الصيف الماضي منهؤلاء الذين أخفاهم الله فيحياتهم، ثم إنهسبحانه أراد لهالظهور الآن إكراما له، ونفعاً للناس. فكأننا مسخَّرون لهذهالغاية بكتابة هذهالمقالات عنه ونشرها. بدء أمره : ولدالأستاذ محمد بفاسسنة 1942، وبها درسحيث تخرّج منثانوية مولاي إدريس، ثم اشتغل بمُقتصِديّة الحيالجامعي بجامعة فاس،ظهر المهراز، بدءًمن سنة 1961، وتدرّج فيها حتىشغل منصب رئيسالشؤون الاقتصادية لمدةطويلة، قبل أنيتقاعد عن العمل سنة 2003. وفيسنة 1972 تزوج بالسيدة الفاضلة سعادالحبابي (نسبة لجبلالحبيب التابع حاليا لتطوان) متّعها الله بالصحة والعافية، وهيمن بيت علمورئاسة، وشرفٍ وديانة، وأخوالُها منشرفاء وزّان، منذرية الشيخ المربي مولاي التهامي بن محمد، فهي حفيدته، كما كانوالدها رحمه اللهخليفة ثم قائدا بفاس فيالأربعينيات. فكانت نِعمالمرأة، كثيرة الاعتمار، ورزقها اللهسبحانه صبرا على استقبال الضيوف والقيام بشؤونهم، إذكان بيت زوجها دوما عامرا بالضيوف منداخل المغرب وخارجه.وقدترك المرحوم منهاذُرية هم: يوسفوحليمة وغيثة، ذريةطيبة بعضها منبعض. كما كانللأستاذ أخوان أطالالله عمرهما وبارك فيهما: السيد عبد الحي، والسيدة الفاضلة آسية. كلهؤلاء أخيار كرام، والناس معادن، خيارُهم فيالجاهلية خيارهم فيالإسلام إذا فقُهوا، كما فيحديث الرسول صلىالله عليه وسلم. إذنكما رأينا فيالمقالات السابقة كانتبيئة المرحوم، سواءالأسرية أو المَدينِية، بيئة تديّن وصلاح من قديم. وقدعاش صاحبنا رضيالله عنه طيلةحياته بفاس. وهنانسجّل ملاحظة تاريخية واجتماعية، وهيأن الولاية ظاهرة مَدينِية أكثرمنها قروية، خلافما يرى بعضالمؤرخين العرب والأجانب. لذلك يقرر الشيخ الدباغ فيكتابه الإبريز أنموطن الأولياء الكبار بالأمصار والمدن الكبيرة، أيفي الغالب. ثمحدث للأستاذ فيأواخر العشرينيات منعمره: جَذبة، أيصحوة وانتباه منالغفلة، لأن الطريق إلى اللهتعالى يكون -عندعلمائنا في التربية والتصوف- بأحدأمرين: إما بسلوك، بمعنى أنالمرء يجتهد فيالعبادة والذِّكر فيترقّى شيئا فشيئا في مدارج الإيمان والكمال؛ وإما أنالله سبحانه يجذِبه إليه، بلااختيار من العبد، فينَبِّهه ويُرقيه.. وكلاهما جيد، ويوصل إلى غايةواحدة تسمى: الفَتح، أي معرفة الله معرفة قلبية وروحية، وليس مجردالمعرفة العقلية التييتحدث عنها علماؤنا في العقائد والكلام. لكنطريقة الجذب أفضللأنها من الربّ ومِن فِعله المباشر، فهيمن باب الفضل المحض، لهذاكانت سريعة توصلإلى الغاية دونكبير عناء، لذاقال الشيخ الفقيه الدردير فيمنظومته في الأسماء الحسنى: ومُـنَّ عـلينا ياودود بـجذبةٍ~ بهـانلحَق الأقـوام مَـنْ سارَ قَبلنا.وهذاالجذب يكون أحيانا مباغتا بلاسبب، وأحيانا يبتلي الله عبدَه بأمر مايكون دافعا لهللسلوك إليه، كضيقٍ في العيش أو مرضأو وفاة قريبأو مَنع ما.. ونحوذلك من فنونالابتلاءات.والذي يظهر منحديثي مع المرحوم أنه سلكبطريقة الجذب إثرَسبب، لذلك مرّفي هذه السنين الأخيرة فيالستينيات وببداية السبعينيات بتجربة روحية صعبة وعنيفة ومتقلّبة، وفيها وقعت لهحادثة سير ظليعاني من بعضآثارها طيلة حياته.لفهمهذه "الأزمة" الداخلية التي مرّبها يمكن للقارئ أن يقرأالسيرة الفكرية والروحية الرائعة لأبيحامد الغزالي التيبسطها في كتابه "المنقذ من الضلال"، خاصة فيأواخره، وفيها يشرحالغزالي كيف عافتنفسه الدنيا وعجزعن التدريس وانقطع عن الأكل..الخ.. حتىأشرف على الموت.. فكثير من الصالحين مرّوا بمرحلة مّـا منالقلق والاضطراب بحثاعن الحقيقة وشوقا لها.. ثميتداركهم الله برحمته. والذي لا يعرفه معظم الناس أنالجذب إرادة إلهية لا دخلللعبد فيه، أيلا يكون باختياره، فالجذب اصطفاء، لذا لايمكن لوْم أحدٍعلى ما لايَدَ له فيه. شخصيته : وكانت طبيعة الأستاذ مزيجا عجيبا من الليونة وخفض الجناح وبين القوة ومتانة الشخصية. ولهذا أسباب، الأول قد يكونهو الطبع، أيطبعه كان كذلك. والثاني هو العمل المهني، فقدكان مسؤولا بحكموظيفته عن 150 موظفا وعاملا بالحي الجامعي بفاس، فيدير شؤونالمأوى والمطعم لالآف الطلاب.. وهذاعمل يومي صعبلا يمكن إلاّأن يترك آثاره في شخصية صاحبه، فتكون فيها صلابة. والثالث هو أنمشربه الصوفي -كماسيأتي في مقاللاحق- جلالي، وليسجماليا.. وهذا مَشرب صعب، يجعلصاحبَه في عذابعَذْب دائم، لذلكعانى صاحبنا فيصمت وصبر، وهذالا يمكن للناس -حتىالأقربين- الشعور بهلأنّها حياة باطنية.. فانعكس كل ذلكعليه، فكانت لههيبة في النفوس ورفعة. أماالدنيا فقد أهانها صاحبنا إهانة بليغة، وعامَلها بما تستحق، فلم يكنيلقي لها بالاولا همّا، أوبتعبير بعض مؤرخي الأولياء فيحضارتنا: كان لايعرف تدبير الدنيا.لذلكمن الأشياء الجميلة في حياته أنه جمعته بصديقيْه بفاس: الأستاذ حسن ميكووالحاج محمد بنعبد السلام المصباحي(الأول في يسارالصورة والثاني بوسطها والأستاذ باليمين) صداقة عميقة ومستقرة لمدة عشرات السنين، وكانت أخوة فيالله ولوجهه الكريم، لا مصالح فيها ولامآرب، فتحابّوا فيالله وتعاونوا. وقدساعداه هذان الرجلان الطيبان الفاضلان على التفرغ لما هوفيه، فكفياه كثيرا من شؤونالحياة اليومية ومشاغلها.. جعل الله ذلكفي ميزان حسناتهما ولطف بهماوبأُسَرهما دنيا وأخرى.يتبع..
Published on February 25, 2017 13:41
No comments have been added yet.
إلياس بلكا's Blog
- إلياس بلكا's profile
- 50 followers
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

