الولي العابد: محمد بنبراهيم أنصاري (6): عـــــبادة الأربعـــين ســـنة. تأليف: إلياس بلكا.
الولي العابد: محمد بنبراهيم أنصاري (6): عـــــبادة الأربعـــين ســـنة . تأليف: إلياسبلكا.
هنا بالمغرب.. بـ"المغرب الأقصى، فيالأرض التي تُنبت الصالحين كما تنبت الكلأ.."،كما كتَب ابن قنفذ القسنطيني في كتابه "أنس الفقير وعزّ الحقير"،ص63.. ، وبفاس تحديدا، عاشأحد هؤلاء الصالحين الذين كانت حياتهم أمرا عَجبا، إذ فيها أشياء كنّا نقرؤها في كتب السلف، ولم نكن نظن أنها موجودة إلى اليوم، فإذا بها أقرب إلينا ممّا نتصوّر.إنه الرجل الربّاني محمد بن إبراهيم أنصاري، المتوفى برمضان الماضي، الموافق لشهر يونيو.. وليٌّ من أولياء الله الصادقين. ولاية الله : والمؤمنون أولياء الله سبحانه، بمعنى أنهم يعبدونه ويحبونه ويوالونه.. هذا المعنى العام. ثم فيهم طبقة أشد حبّا لله وأحرص على طاعته وطلب مرضاته، زهدوا في الدنيا وتعلـّقوا بربهم، هؤلاء هم: "الأولياء" بالمعنى الخاص، وإليهم وإلى طريقهم وصِفاتهم الإشارة في حديث البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: إن الله تعالى قال:من عادَىلِي وَليا، فقد آذَنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبُّ إلي ممَّا افترَضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش، ورجله التي يمشي بها، ولئِن سألني لأُعطِينّه، ولئن استعاذني لأُعِيذنّه.وهؤلاء الأولياء طبقات وأصناف ودرجات.. يشكِّلون عالَما قائما بذاته، هو عالم بشري وملكوتي في آن، يتداخل مع عالمنا المادي الضيق من حيث لا نحسّ ولا نرى.. لكنه عالم حقيقي، يمكن القراءة عنه في كتاب الرسالة للقشيري قديما، والمدخل إلى التصوف الإسلامي لأبي الوفا التفتازاني حديثا.. أو بشكل أكثر تخصصا يمكن الاطلاع على كتاب "ختم الأولياء" للحكيم الترمذي، أو"مملكة الولاية عند ابن عربي "لعبد الباقي مفتاح. قيام الأربعين سنة : وقد رأينا كيف مرّ الأستاذ رضي الله عنه بجَذبة إلهية، وكيف أخذ بيده شيخُه علي العلمي في عروجه الروحي إلى الله. ثم بعدها بسنين قليلة، حين انتصف عِقد السبعينيات، حدث تَحولٌ كبير في حياة الأستاذ محمد، إذ بدأ يحيي الليل بالقيام والقراءة والذكر، وكلما تقدّم في العمر أكثر زادت عبادته أكثر، حتى كان يقوم أكثر الليل. واستمر على هذا الحال حتى آخر عمره، لمدة أربعين سنة، كانت البداية في العشر الأوائل، فكان يقوم كثيرا من الليل، وفي الثلاثين سنة الأخيرة انتظم له القيام والصيام، وأصبح يقوم أكثر الليل. كان ينام بعد صلاة العشاء، ثم يستيقظ حوالي الساعة الواحدة أو الواحدة والنصف، فيقضي الليل كله في التعبُّـد والصلاة والذكر والدعاء حتى يصلي الفجر، فإذا صلّى الفجر جلس يقرأ القرآن والأوْراد حتى الساعة السابعة، ثم يَخرج لزيارة والديه والإفطار معهم، وكان بارّا بِهما جدا، ومن هناك يذهب لعمَله الوظيفي، فيقضي هناك عامة النهار، ثم يعود لبيته مساءً وقد نال منه التعب كلَّ منال.. ولميكن ينام بالنهار إلاّ أحيانا، وإذا نام كان نومُه قليلا جدا، فإن كان صائما فلا ينام أصلا.هكذا كلّ يوم لمدة أربعين سنة، بلا استثناء في الصيف أو الشتاء، في أيام العمل أو العطل.. الخ.ورغم تكتّمه رحمه الله على أحواله، إلاّ أنه أخبرني بموضوع قيامه هذا ومدّته، كأنه أراد إبلاغي بأمرٍ يعرف أنه لا أحد يمكن أن يعرفه على حقيقته إلاّ هو.. إذ كيف يعرف النائم ماذا يفعل الصّاحي؟ لذلك فقيامه الليل بداية من الواحدة صباحا بدون انقطاع هو أمر استمر عليه أربعين سنة، كان في العشر الأوائل يخف أحيانا، لكنه في الثلاثين سنة الأخيرة اشتدّ وثبت. وهذا أمر كما قال لي بنفسه خارج مقدور البشر، ليس فقط لأنه كان يقوم أكثر الليل، بما في ذلك ليالي الشتاء الباردة والطويلة، بل أيضا لأنه بعد صلاة الفجر يجلس للذكر والتلاوة، ثم إلى العمل -الذي رأينا صعوبته- إلى السادسة مساء.فلا شك أنه لصِدقه ومجاهدته أمدّه الله بقوّة من عنده.
نسكه وتعبّده: وكان رحمه الله أيضا صوّاما، بل عزم مرّة على أن يصوم صيام داود، أي يصوم يوما ويفطر يوما، ولم أسأله هل كانت نيته التمهيدَ لصيام الدهر.. لكنه نُهِي عن ذلك، فـ"اقتصر" على صيام الاثنين والخميس دائما، صيفا وشتاء، في أيام العمل والعطل، لا فرق، مع سائر السنن والنوافل المعروفة في الصيام.. ومجموع ذلك يكون أكثر قليلا من ثلث العام، والثلث كثير كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.وكان من أخلاقه رضي الله عنه: الكرم وإطعام الطعام، فيرسله إلى الطلاب كل أسبوع، لا يترك عادته هذه سنين طويلة، إضافة طبعا لمنيستقبلهم بمنزله، وكانوا كُثراً كالنهر الجاري لا ينقطع. وهو كثير الصدقة، بلجعل لبعض المحتاجين مُرتّبا شهريا لسنوات طويلة جدا. وكان بثيابه جيب خاصّ لمال الصدقة لا يخلطه بغيره أبدا. وكذلك حجّ واعتمر.. وبالجملة، فقد كان لا يعلم بابا من الخير والطاعة إلاّ ودخله وشارك فيه. أما الدعاء، فهو صاحبُه، لا يتركه ليلا ونهارا، سرّا وعلانية، فغلبتْ عليهالعبوديةُ واضطرارُها وذلُّها لله.ولم يكن صاحب دعوى، لا في قليل ولا في كثير، بل كان مفوِّضا أمرَه لربه، راضيا بقضائه وقدره، لا تحدّثه نفسه أن ينازع فيه ولو بطريق مشروع.كما كان رضي الله عنه دائم الذكر، مُتّصل الفكرة، باللسان والجَنان.. وربما حسِب من لا يعرفه أنه شارد الذهن أحيانا، أو يتفرّج حين يجلس في حديقة أمامه، بينما الحقيقة أنه يذكر بقلبه.. بل هو ممّن سجد قلبُه لله أبدا، وقد أمضى سهل التستري سنين يسأل عن سجود القلب الذي شاهده من نفسه فحيّره أمره، حتى لقِي شيخا من عبادان، فسأله: أيسجد القلب؟ فقال الشيخ: نعم، وإلى الأبد.وكان حريصا على وقته، فلا تراه إلاّ في عبادة أو ذكر أو مذاكرة، أو في عمله المهني، إذ كان يعيش بكدّ يده وعرق جبينه. ولم يدّع يوما مشيخة، ولم يحرص على تقريب أحد أو جمع جماعة.. لكنه لم يكن يردّ أحدا طلبه في شيء، لأنه كان يشهد أن الله سبحانه هو الذي هدى هذا الطالب إليه وأرسله له. وكان وقّافا عند حدود الشريعة مراعيا لأحكامها، لا يترخّص إلاّ قليلا. ولم يكن عابدا فقط، بل كان أيضا من كبار العارفين، والفرق بينهما معروف لدى أهل هذا الشأن.. فالعارف له زيادة معرفة بالله وصفاته وأفعاله، بخلاف العابد الصّرف. لكنهلم يكن يتكلم في هذا الباب إلاّ نادرا خاصة مع أمثالي ممّن لا يفهمون عالم العرفان ولم يحيطوا به خبرا.. وقد جرّب ذلك معي فتبيّن له أنني أجهل كليّة ما يشير إليه، فتركه. فتصوّفه سني سلوكي تربوي عملي صحيح.
رحمه الله وجزاه عنّا كل خير، وألحقنا به في جوار الله الحليم الكريم.
Published on March 12, 2017 16:49
No comments have been added yet.
إلياس بلكا's Blog
- إلياس بلكا's profile
- 50 followers
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

