شيء من الخوف - قصة قصيرة









"كبر وشب الولد.. ومعدش يغوى السواقي وبشبهك يا بلد بغريب بينده ما لاقي"
تعالى لمسمعه من سيارةٍ قريبةٍ تلك الكلمات من الأغنية التراثية العتيقة - التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي ولَحَنَها بليغ حمدي في فيلم قديم لا يذكر اسمه - وهو يسير حثيث الخطى في ذلك الطريق المقفر، يحملُ همَّين، هم تأخره على موعده وهم اتساخ حذائه. اقتربت السيارة ليتبين فيها رجل وزوجته وطفل أو طفلين.
"في الكفر طايح بسيفه زي الرياح في الرمال في الناس بيحكم بكيفه، ويشدها بالحبال"
أدهشه أن تختار أسرة صغيرة تلك الأغنية لترافقها في طريقٍ مظلمٍ كذلك الطريق. وتذكر انطباع زوجته عن تلك الأغنية حين وجدته يسمعها ذات مرة، فأخبرته بعد ذلك أنها تربط بين ما يسمع وبين حالته المزاجية، وتذكر أنها اخبرته أن اختياره يقع على تلك الأغنية كلما كان غاضبًا، المثير للدهشة أنه كان يفعل ذلك فعلًا بلا وعي، كانت تلك الكلمات تناسب حنقه بشدة.
ذّكَّره الرجل والمرأة في السيارة بما يحاول أن يُعَّلِمه لزوجته عن قيادة السيارات، حين كانوا على طريق سريع، وحاول سائق حافلة أجرة تجاوزه بشكلٍ فجٍ ومتهور، وأصرَّ هو على عدم حدوث ذلك وأطلق صافرة سيارته بشكل مستمر وهو يزيد من سرعته وهو ينظر للسائق في تحدٍ، ثم تذكر أنه يُعَلِم زوجته، فقال لها أن تترك السائقين يتجاوزوها، فذلك لن يضرها في شيء ولن يؤخرها، وأنه ليس من الحكمةِ أن تدخل في صدامٍ مع سائق ميكروباص، فنظرت لها لائمة وهي تخبره أن يقول ذلك لنفسه.
"نسي التراب في الموالد، نسي الحصان الحلاوة كأنه ديب جاي شارد من تحت حر البداوة"
تباطأت السيارة، التي كانت تسير ببطءٍ أصلًا على الطريق غير الممهد، فنظر أمامه ليرى رجلين وقفتهما لا تبشر بخير.
"شيء من الخوف" قفز لذهنه فجأة اسم الفيلم الذي كان يحاول تذكره، وأدهشه أنه فعل رغم ثقافته السينمائية المحدودة. توقفت السيارة بالفعل وصاحبها يحاول الدوران والعودة - كما بدا له - مفضلًا الانسحاب على المرور أمام الوغدين على الطريق.
شعر بالأدرينالين يتدفق في عروقه، وهو يتفكر في أمره، كان يخشى تأخره على موعده، وقرر أن يتقدم صوبهما آملًا أن يكونا مجرد وغدين يتسكعان لا أكثر، وليكن ما يكون.
أكمل سيره وهو يقترب منهما مُركزًا بصره على الطريق كأنهما غير موجودين، ليفاجئ بهما يقطعان طريقه، فاردين ذراعيهما، ليتبين أن كلا منهما يحمل مدية في يده، وأحدهما يقول "طلع اللي معاك يا شيخ".
إذن فهي حالة سرقة، أغضبه أن يُنادى بـ(شيخ)، لأنها تعبر عن فئةٍ عمريةٍ لم يصل لها بعد، وليس لها علاقة من قريب أو بعيد بلحيته أو مستوى تدينه، ربما أغضبه ذلك أكثر من أنهما يحاولان سرقته.
"فؤادة فين من فؤاده؟! وزي ما يكون يا بايا غريب وضاعت بلاده بيردها بالعصاية"
"بس أنا يا أبني مبتسرقش" قالها في تحدٍ أدهشه هو نفسه، لكنها كانت حقيقية رغم كل شيء، كان يعرف أنه سيرفض أن يُسرق بهذه البساطة، وأنه - حتى لو حاول - لن تطاوعه نفسه في الاستسلام.
"مبتتسرقش ليه؟! ابن مين انت" قالها أحدهم وهو يقترب أكثر والأخر ينظر للطريق وهو يقول "طلع اللي معاك أحسن"
تذكر أن ما معه ليس كثيرًا أصلًا، ولكن الأمر لم يكن متعلقًا بالكم قط، هو فقط يكره الظلم والاستغلال، ولن يدفع جنيهًا واحدًا بغير ارادته، وتذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الذي سأله "يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي"، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام "لا تعطه مالك" فقال الرجل "أرأيت إن قاتلني" فقال النبي "قاتله".... إلى آخر الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه.
تراجع خطوة للخلف ليفسح لنفسه مجالًا، وهو يحاول تذكر ما قرأه عن علم وظائف الأعضاء، وما تعلمه قديمًا مِن أسس الدفاع عن النفس.‎
"القاعدة الأولى: لن تجعل نظرك يغيب عن السلاح الحاد أبدًا" تابع اليد التي تحمل المدية بعينيه، وصاحبها يقترب مزمجرًا "ما تطلع اللي معاك بالذوق"، وهو يحاول تطويقه ووضع المدية على رقبته
"القاعدة الثانية: اضرب ضربات سريعة مُوجهة" رفع يده اليسرى لتحول بينه وبين اليد التي تحمل المدية، فتابعها الوغد ببصره، ليوجه قبضته اليمنى بقوة لمعدة الرجل، الذي انحنى ألمًا، ليسرع هو بالتقاط المدية من يده ليواجه بها الآخر الذي كان يتقدم مهاجمًا، ولكنه تراجع حين رأى المدية مشهرة في وجهه.
"القاعدة الثالثة: لا تمنح خصمك فرصة لالتقاط أنفاسه" كور قبضته ليهوي بها كمطرقة على مؤخرة رأس اللص الذي لم يزل ممسكًا بطنه من الألم، ليتكوم على الأرض، وتقدم خطوة أو خطوتين تجاه اللص الأخر، الذي آثر الانسحاب فأطلق ساقه للريح تاركًا زميله فاقد الوعي تقريبًا.
"القاعدة الرابعة: "ادرأ عن نفسك الأذى وانصرف، لا تحاول صنع بطولات زائفة" رمى المدية وأسرع الخطى، قبل أن يجلب اللص الذي هرب بعض الدعم، وهو يتمتم "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"
أسعده أن الأمر لم يتجاوز ثواني معدودة، أسعده كذلك أن نظريته بضرورة المواجهة أثبتت صحتها، أسعده أكثر أن صاحب السيارة تراجع عن فكرته بالعودة وأكمل طريقه، ولكنه ينهب الأرض نهبًا هذه المرة غير مبال بوعورة الطريق.
تجاوزته السيارة بسرعة وكلمات الأبنودي لم تزل تدوي: "هُوَّ الولد ولا ما هُوُ.. ولا احنا مش إحنا ولا عيونه في الضلمة تاهوا.. داس عاللي قبلوا ما خلى"
                                                                                                     تمت                                                                                                        أحمد عبد الرحمن                                                                                                        15 نوفمبر 2016
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 14, 2016 23:34
No comments have been added yet.