فادي أبو ديب's Blog, page 16
August 25, 2019
ترحيب بزوّار الصفحة
أهلاً وسهلاً بجميع زوّار صفحة الكاتب فادي أبو ديب.
الصفحة ترحّب بأي تعليق أو استفسار بخصوص الكتب.
الصفحة ترحّب بأي تعليق أو استفسار بخصوص الكتب.
Published on August 25, 2019 07:50
January 7, 2017
النفس الليلية
بقلم فادي أبو ديب
[image error]
الإنسان الليليّ هو الأقرب للصدق واللاوعي الأكثر تمثيلاً للأنا من مظهريّات النّهار. الجنس البشري ليس مؤهّلاً بعد لسيادة النجم الشمسيّ على الكوكب لمدّة طويلة، ولهذا ينزلق في مستنقع النشاط الكاذب والغضبيّ. الشمس لا تعني النور لجنس غير متصالحٍ مع لا وعيه، بل تعني الحرب والخراب والاقتتال.
الليل ليس للنوم فقط؛ الليل لدراسة أطوارٍ عديدة للكينونة البشريّ: النوم، نصف النوم، الشّرود، الأحلام العميقة، الأحلام الصافية، والومضات الرؤيوية. والشمس تشرق لا لكي نقفز لاستقبالها بل لمنح تأمّلنا ضوءاً جديداً. الليل استدارةٌ قسريّة نحو المجرّة التي تختفي عنّا في النهار بفعل وهم الحاجز الشمسيّ.
لا حاجز ملموس يفصل بيننا وبين أبعد نجمٍ نراه: بعض الهواء وفيض من الخلاء. لا حاجز ملموس بيننا وبين الكواكب. الكوكب قريبٌ منّا كما الشّجرة المجاورة أو منزل الجيران، كلّ يبتعد عنّا بتناسب طرديّ مع حجمه وما يحتاجه تأثيره اللطيف علينا من توارٍ.
النّهار وهم لأنّه يشكّل أمامنا حاجزاً أزرق غير موجود حقيقةً- الشمس هي الاستثناء الموضوع لأجل غاية صغيرة من ضمن الغايات الكبرى التي يجب أن نسعى نحوها. العمل عبادة للشمس والتفكير تسليمٌ لروحانية الليل.
وإذا وصل الإنسان إلى سُكنى اللّيل فسيجد طريقه مفتوحاً إلى صور الكواكب، فالمواجهة مع ضخامة الكون وعناصره تصبح أمراً لا مفرّ منه؛ هنا ثنائيّة الرّهبة والدّفء: الرّهبة من هذا الانفجار الذي أتى على جدران الفقاعة النّهارية الواعية للمحدود/ غير الواعية لكلّ هذه المتواريات، ودفء الانطواء في ليلٍ لا ينتهي لا يدخل بوّابته إلّا مَن غزتهم الصّور بلا إرادة مبادِرة من طرفهم. وليس عند الصّور محاباة واختيارات خاطئة! الرّهبة يفرضها السّواد الحالك الذي يفرض نفسه على وعيٍ اعتاد شمس النهار، والدفء كامنٌ في حجرة مغلقة يلفّها السواد تشتعل بداخلها نار الخيميائيّ الذي يقف مذهولاً أمام مختبره الجديد الذي لم يبنِه هو. هناك لا يسكن الصّوت كما نعرفه، وأمّا الضوء فليس غائياً كلّ الغياب ولكنه ينساب برفقٍ إلى الأمكنة التي يجب أن يضيئها في الحجرة.
هكذا تصير الجغرافية الكواكبية فضاءً، لا هو مألوف ولا هو غريب؛ إنّها مكان للاستكشاف الخياليّ من دون أدنى توقّع بما سيحصل خلال مسيرة الاستكشاف. إنّه استكشاف بلا معارف قَبليّة لأنّه في الأساس مفروض علىى الذّهن. لماذا يبدأ القمر بالكشف عن وجهه العجائبيّ وأشعته غير المرئية؟ لماذا تصير الكواكب والنجوم ومجموعاتها مثار فضول غامر لا فكاك منه؟ لا يمكن للإنسان الليليّ أن يأتي للآخرين بإجابة علمية شافية، ولكن شيئاً ما يخبره أنّ الأمر يهيّئه لطبقة من الوعي المختلف. الكواكب تسكن السّماء الليلية، وهي تبدو أكبر وأكثر طنيناً. لماذا؟
النفس الليلية مصيرها أن تجد لنفسها فضاءً لا يعترف بالزمن وحيث الزّمن أيضاً، ممثَّلاً بروح الحقبة المعاشة، سيبدأ بمحاربتها. النّفس الليلية في تكوينها، ومهما كان نوع النشاط الشاقّ الذي تقوم به، تبقى مناهضة للحركة الاندفاعية وميّالة من دون شكّ إلى نمط الحركة الموجية المتهادية. إنّها مستقبلة تأمّلية وكلّ نشاط حَرَكيّ عندها مطابقةً مع الحبّ/ المنطلَق الحدسي التلقائي.
كل ما لا يُكتَب يبقى ليلياً، وما يبقى ليلياً يخرج من الزمن لأنّ الزّمن هو التاريخ، اختراع الذين يريدون أن يفرضوا أنفسهم على الطبيعة. ومهما كُتِب فإنّه يبقى مجرّد صورة عن عالم أغنى بكثير من المكتوب، ولذلك فعالم النفس الليلية لا يمكن تأريخه بأيّ شكل وبالتالي يبقى محميّاً في حجراتٍ خفيّة تجد أمكنة لها في طبقات نفسانيّة عميقة ومحروسة جيداً.
الليليّ يحوم بين الكواكب، والسّماء الزرقاء غير موجودة عنده إلّا كمنظر في ليلة صافية. وإذا كان يحوم بين الكواكب ويتساءل عن علاقته بمجموعات النجوم فهو قد تخلّى عن ارتباطه الأوحد بالشمس وما تفرضه من مواقيت وأعداد وإطارات زمنية اجتماعية. ومن هنا يكون من الطبيعيّ أن يجد الليليّ نفسه في مرّات تقلّ أو تكثر على تضادّ واضح مع العالم المحكوم بالشمس.
[image error]
الإنسان الليليّ هو الأقرب للصدق واللاوعي الأكثر تمثيلاً للأنا من مظهريّات النّهار. الجنس البشري ليس مؤهّلاً بعد لسيادة النجم الشمسيّ على الكوكب لمدّة طويلة، ولهذا ينزلق في مستنقع النشاط الكاذب والغضبيّ. الشمس لا تعني النور لجنس غير متصالحٍ مع لا وعيه، بل تعني الحرب والخراب والاقتتال.
الليل ليس للنوم فقط؛ الليل لدراسة أطوارٍ عديدة للكينونة البشريّ: النوم، نصف النوم، الشّرود، الأحلام العميقة، الأحلام الصافية، والومضات الرؤيوية. والشمس تشرق لا لكي نقفز لاستقبالها بل لمنح تأمّلنا ضوءاً جديداً. الليل استدارةٌ قسريّة نحو المجرّة التي تختفي عنّا في النهار بفعل وهم الحاجز الشمسيّ.
لا حاجز ملموس يفصل بيننا وبين أبعد نجمٍ نراه: بعض الهواء وفيض من الخلاء. لا حاجز ملموس بيننا وبين الكواكب. الكوكب قريبٌ منّا كما الشّجرة المجاورة أو منزل الجيران، كلّ يبتعد عنّا بتناسب طرديّ مع حجمه وما يحتاجه تأثيره اللطيف علينا من توارٍ.
النّهار وهم لأنّه يشكّل أمامنا حاجزاً أزرق غير موجود حقيقةً- الشمس هي الاستثناء الموضوع لأجل غاية صغيرة من ضمن الغايات الكبرى التي يجب أن نسعى نحوها. العمل عبادة للشمس والتفكير تسليمٌ لروحانية الليل.
وإذا وصل الإنسان إلى سُكنى اللّيل فسيجد طريقه مفتوحاً إلى صور الكواكب، فالمواجهة مع ضخامة الكون وعناصره تصبح أمراً لا مفرّ منه؛ هنا ثنائيّة الرّهبة والدّفء: الرّهبة من هذا الانفجار الذي أتى على جدران الفقاعة النّهارية الواعية للمحدود/ غير الواعية لكلّ هذه المتواريات، ودفء الانطواء في ليلٍ لا ينتهي لا يدخل بوّابته إلّا مَن غزتهم الصّور بلا إرادة مبادِرة من طرفهم. وليس عند الصّور محاباة واختيارات خاطئة! الرّهبة يفرضها السّواد الحالك الذي يفرض نفسه على وعيٍ اعتاد شمس النهار، والدفء كامنٌ في حجرة مغلقة يلفّها السواد تشتعل بداخلها نار الخيميائيّ الذي يقف مذهولاً أمام مختبره الجديد الذي لم يبنِه هو. هناك لا يسكن الصّوت كما نعرفه، وأمّا الضوء فليس غائياً كلّ الغياب ولكنه ينساب برفقٍ إلى الأمكنة التي يجب أن يضيئها في الحجرة.
هكذا تصير الجغرافية الكواكبية فضاءً، لا هو مألوف ولا هو غريب؛ إنّها مكان للاستكشاف الخياليّ من دون أدنى توقّع بما سيحصل خلال مسيرة الاستكشاف. إنّه استكشاف بلا معارف قَبليّة لأنّه في الأساس مفروض علىى الذّهن. لماذا يبدأ القمر بالكشف عن وجهه العجائبيّ وأشعته غير المرئية؟ لماذا تصير الكواكب والنجوم ومجموعاتها مثار فضول غامر لا فكاك منه؟ لا يمكن للإنسان الليليّ أن يأتي للآخرين بإجابة علمية شافية، ولكن شيئاً ما يخبره أنّ الأمر يهيّئه لطبقة من الوعي المختلف. الكواكب تسكن السّماء الليلية، وهي تبدو أكبر وأكثر طنيناً. لماذا؟
النفس الليلية مصيرها أن تجد لنفسها فضاءً لا يعترف بالزمن وحيث الزّمن أيضاً، ممثَّلاً بروح الحقبة المعاشة، سيبدأ بمحاربتها. النّفس الليلية في تكوينها، ومهما كان نوع النشاط الشاقّ الذي تقوم به، تبقى مناهضة للحركة الاندفاعية وميّالة من دون شكّ إلى نمط الحركة الموجية المتهادية. إنّها مستقبلة تأمّلية وكلّ نشاط حَرَكيّ عندها مطابقةً مع الحبّ/ المنطلَق الحدسي التلقائي.
كل ما لا يُكتَب يبقى ليلياً، وما يبقى ليلياً يخرج من الزمن لأنّ الزّمن هو التاريخ، اختراع الذين يريدون أن يفرضوا أنفسهم على الطبيعة. ومهما كُتِب فإنّه يبقى مجرّد صورة عن عالم أغنى بكثير من المكتوب، ولذلك فعالم النفس الليلية لا يمكن تأريخه بأيّ شكل وبالتالي يبقى محميّاً في حجراتٍ خفيّة تجد أمكنة لها في طبقات نفسانيّة عميقة ومحروسة جيداً.
الليليّ يحوم بين الكواكب، والسّماء الزرقاء غير موجودة عنده إلّا كمنظر في ليلة صافية. وإذا كان يحوم بين الكواكب ويتساءل عن علاقته بمجموعات النجوم فهو قد تخلّى عن ارتباطه الأوحد بالشمس وما تفرضه من مواقيت وأعداد وإطارات زمنية اجتماعية. ومن هنا يكون من الطبيعيّ أن يجد الليليّ نفسه في مرّات تقلّ أو تكثر على تضادّ واضح مع العالم المحكوم بالشمس.
Published on January 07, 2017 04:16
August 8, 2014
المتجسِّدان (قصّة قصيرة)
بقلم فادي أبو ديب
صوت جرس الكنيسة وقرع الطبول المترافقان كانا موسيقاها المفضَّلة، فهذا موعد عودته مع الموكب الملكيّ بحلّته العسكرية. كان هذا يتكرَّر كلّ عدّة أسابيع وأحياناً تمرّ أشهر قبل أن تراه. إنّه إذاً موعد عُرسِها الجوّانيّ؛ تدعو أختها الصُّغرى لتسرِّح لها شعرها،وترتدي فستانها الخشن الذي كان أبيضاً فيما مضى- أفضل ما عندها- ثمّ تجري إلى الخارج، كما اعتادت منذ الطفولة حين كانت ترافق والديها والجموع لمشاهدة الموكب الانتصاري الملكي بعد كلّ معركة كانت تحصل في مناطق في هذا العالم الذي لا تعرف عنه شيئاً.
سَئِم والدُها من هذه الاستعراضات التي يتبختر فيها الملك أمام الفقراء والبسطاء. كان يقول دائماً أنّه يكره أن يرى هذا العجوز يختال أمام الناس بانتصارٍ دفع ثمنه الفقراء من دمائهم وسعادة أولادهم. ولكن ماذا يهمّها من الملك العجوز؟ كانت تحبّ الاحتفال وتحبّ كلّ مرّةٍ تسمع فيها صوت جرس الكنيسة والطبول، لأنّه الموعد الوحيد الذي كانت تستطيع أن تراه فيه. كان يمتطي جواده خلف الملك. عيناه الرّماديّتان الكئيبتان لا تمنعان أمارات الحنان من الظهور واضحةً على مُحيّاه. كان يتلفّت لينظر إلى الجميع، وخاصّةً الأطفال والصِّبية والفتيات الذين يلوّحون له كما يفعل الجميع، وبين الفينة والأخرى كانت البشاشة تنفجر على وجهه بضحكةٍ يكبتُها سريعاً لتعود الكآبة مجدَّداً لترتسم في عينيه.
كانت تتحرّق من الداخل لتعرف إن كان قد لمحها يوماً ما بعينيها الزرقاوين الملائكيتين كما كانت تكرِّر لها أمّها. كانت تتحايل لتعرف اسمه من اأيها وهو يرمي ببعض تعليقاته بين الجموع. ولكن كيف السبيل إلى المعرفة، وهي تعلم أنّ في قريتها لا يمكن للفتيات أن تسألن عن أسماء الرِّجال؟ كانت تفكِّر بأنّها تريد أن تصرخ له باسمه علّه يلتفت ناحيتها. قد يرمي لها بالتفاتها، أو ربّما تكون من نصيبها هذه الابتسامة التي تشرق وتغرب سريعاً كالتماع حدّ السَّيف. أَوَلم يكن ذلك يكفيها لتحلم به أسابيع طويلة، وتتخيَّل كيف أنّه سيأتي كما هو الآن في هذا الموكب ليأخذها أميرةً كما كانت تسمع في حكايات جدّتها العجوز.
ولكن كيف هو السبيل إلى ذلك، وهي من عائلةٍ وضيعة وتسكن في الحقول على أطراف المدينة. من المؤكَّد أنّ الأميرات وبنات النبلاء في المدينة أكثر منها جمالاً وأشدّ إغراءاً. ولِمَ سيهتمّ بفقيرةٍ مثلها! كانت أمّها تقول دوماً أنّ بنات المدينة لا يخشيْن من إبراز مفاتنهنّ علّهن يستولين على اهتمام أحد القادة أو رجال البلاط. كانت أمّها تكرِّر لها ذلك كلّما نسيت أن تشبك فستانها جيداً أعلى صدرها وهي تركض مسرعةً إلى الخارج في أوقات الاحتفالات.
كان هو صاحب الوجه الوحيد الذي رافق أحلامها منذ الطفولة، ولو أنّ الشَّيب بدأ يغزو لحيته المشذّبة الكثّة، وباتت عينيه أكثر كآبةً. فمع كلّ ذلك فقد صار وجهه أكثر انكساراً وإشراقة ابتسامته أكثر لمعاناً. حين كانت طفلة كانت ترى فيها أباً يصلح كثيراً أن يكون بديلاً عن والدها. ولكنها الآن ترى فيه حبيباً سرّيّاً وشريك أحلام اليقظة ومنامات الليل، حتى أنّها في آخر احتفال قرَّرت أن تدهن شفتيها بقليل من الطّيب اللمّاع الذي أخذته خفيةً من صندوق أمّها لتدَّهن به في الخارج. هل سيراها؟ لا يهمّ، فهي تقابله في قلبها، وتتخيّله آتياً إليها في كلّ مرّةٍ تراه، لا بل أنّها تزاداد خجلاً ويرتفع احمرار وجنتيها حين يقترب أكثر فأكثر إلى المكان الذي يقف فيه الحشد المحيط بها. “عجباً لباقي الفتيات، ألا يرونه؟ كيف يمكن لهنّ أن يبقين واقفات بكلّ هذه الملامح العاديّة غير المبالية به؟ كيف يمكن لهنّ ألّا يخفضن أصواتهنّ حين يقترب؟” إنّها تكاد تتوقّف عن التنفُّس، خاصةً حين يظهر وكأنّه ينظر ناحيتها!
لن تصل إليه. عقلها يقول لها ذلك، ولكن دقّات قلبها تفسد عليها هذه القناعة. هي فقيرة في الرابعة عشرة عشرة من عمرها. من أين لها أن تكون أكثر إغراءاً من فتيات المدينة بالنسبة لهذا الجنديّ المخضرَم. أمّها تقول أيضاً بأنّ القادة يحبّون كثرة النساء ولا يمكن أن ينظروا إلى فتيات الحقول الحالمات الوضيعات الأصل، بالإضافة إلى ذلك فأمّها تجبرها على أن تشبك فستانها جيداً من الأعلى. هذا خانق لأنوثتها. إذا هو لن ينظر إليها لأنّ فتيات المدينة يرتدين فساتين أكثر إغراءاً!
ولكنها تمتلك الأحلام. ستحلم به كلّ يوم، وستتخيّل أنّه يخطفها وتذهب معه إلى واحدةٍ من تلك المدن التي لم تسمع باسمها إلّا في قصص الحروب. لا بدّ أنّه يعرف الكثير من المدن وستذهب معه إلى أبعدها ليختبئا سويةً.
لم تكفّ عن التخيُّل، رغم شائعات الحرب التي اغرقت أحاديث الفلّاحين وسرت عبر كلّ المدينة. بدؤوا يقيمون المتاريس في كلّ مكان. الحقول التي يسكنون في وسطها باتت تعجّ بالجنود والفلّاحين المستعدّين للحرب. ولكنها لا تزال تأمل بأن تراه بعد الحرب القادمة يأتي منتصراً. ولعلّ حينها ستعرف اسمه وستناديه به من وسط الحشود. لا ريب في أنّها ستعرفه لأنّ الحرب باتت على أبواب مدينتها، وسيبدأ الناس يتداولون قصص بطولاته في الحرب القادمة. نعم، ستتقصَّد أن تتجوّل بين الفلّاحين لتتنصّت على أحاديثهم، ولا بدّ أنها ستكتشف بطريقة ما هويّته.
صباح الأحد التالي استفاقت على قرع الأجراس بقوّة. الناس تجري كلّها باتجاه المدينة. لا بدّ أنّه موكب آخر لحبيبها المنتصر! ولكن الأمر كان يبدو مختلفاً في هذه المرّة؛ فعلامات الرّعب تعمّ الوجوه، والصرخات الخائفة تتصاعد من مختلف الاتّجاهات. بدأت تركض كما يفعل الجميع. كانت قد ارتدت حلّتها المفضَّلة لتخرج إلى موكبها المنتَظَر، إلى عرسها الجوّاني الخيالي. ولكن الأمر كان قد بدأ يسوء. الناس تتساقط بسهامٍ تأتي من أعالي التلال. بدأ الخوف يسري في أوصالها، وجَرَت كالمجنونة باتجاه المدينة….إليه. ستراه في أيّ مكان وستلتصق به.
كانت قوّات الأعداء تتقدّم من الاتجاه الآخر باتجاه المدينة مباشرةً حين وصلت. ولكنها رأته من بعيد وهو يأمر الجنود ويتحرّك بسرعة من مكانٍ إلى آخر.
بدأت تقترب منه رغم هذا الإحساس المزعج بالحرارة في صدرها. إنّه الحبّ ربّما! لأوّل مرّة تشعر بهذه الحرارة التي تنساب في كلّ مكان. لم تعد تقوى على السَّير. أرادت أن تجلس لتستريح قليلاً. الآن بدأت برودة غريبة تحلّ محلّ الحرارة. لم تعد أطرافها تقوى على الحركة. كلّ هذا حصل في ثوانٍ. تريد أن تقترب أكثر فلم يعد بينها وبينه أكثر من بضعة خطوات، ولكن جسدها لم يعد قادراً على الحركة. ابتسمت إذ رأت لمعاناً ينبثق من صدرها، تماماً كبريق ابتسامته. ولكنها لم تعد قادرة على التحرُّك أبداً.
رأت والدها يندفع باتجاهها…”ماسة”…ولكنها لم تقوَ على الردّ فهي متعبة جداً….والبرودة بدأت تجمِّد عروقها…وشيٌ آخر سرق لبّها، فعيناها المثبّتتان نحوه بداتا تراقبانه وهو ينظر باتجاهها ووالدها. ها هو الآن يتقدَّم نحوها بسرعة…ابتسمت بفرح…”ماسة”! ها هو يلفظ اسمها، لا بل وينظر إليها مباشرةً…هي وحدها من دون كلّ الجموع. من دون الفتيات الأخريات ولا فتيات المدينة المغريات. انحنى فوقها وبدأ يتفحّص مكان الجرح العميق. عيناها مثبتّتان فقط على قسمات وجهه القريبة. يبدو وجهه أكثر وضوحاً هنا. عيناه غائرتان بشكلٍ أجمل مما ظنّت، وعلى جبهته الكثير من النّدوب التي لم تعرف بوجودها قبلاً. كانت تودّ لو تقول له أنّ القلادة التي يضعها في عنقه جميلة وأنّها تريد أن تصنع له واحدة أجمل. ولكنها لم تقوَ على النُّطق…الابتسام كان الشيء الوحيد الذي فعلته بصعوبة وهي تحلم الآن بملائكة تحوم في كلّ مكان.
كأنّها سمعت إحدى هذه الصُّوَر، والتي بدأت بالظهور والتطواف في المكان، تهمس لها بأنّها ستراه في مكانٍ آخر. ستكون وحيدته في ذلك الزَّمَن. سيولدان ثانيةً… وستحبّه من النّظرة الأولى، وستشعر بأنّها عرفته منذ آلاف السنين، وسيتحدّثان بعيونهما عن قصصهما القديمة التي لن يدركاها…
الآن تستطيع أن تتنفّس الصُّعَداء…وترتاح.
صوت جرس الكنيسة وقرع الطبول المترافقان كانا موسيقاها المفضَّلة، فهذا موعد عودته مع الموكب الملكيّ بحلّته العسكرية. كان هذا يتكرَّر كلّ عدّة أسابيع وأحياناً تمرّ أشهر قبل أن تراه. إنّه إذاً موعد عُرسِها الجوّانيّ؛ تدعو أختها الصُّغرى لتسرِّح لها شعرها،وترتدي فستانها الخشن الذي كان أبيضاً فيما مضى- أفضل ما عندها- ثمّ تجري إلى الخارج، كما اعتادت منذ الطفولة حين كانت ترافق والديها والجموع لمشاهدة الموكب الانتصاري الملكي بعد كلّ معركة كانت تحصل في مناطق في هذا العالم الذي لا تعرف عنه شيئاً.
سَئِم والدُها من هذه الاستعراضات التي يتبختر فيها الملك أمام الفقراء والبسطاء. كان يقول دائماً أنّه يكره أن يرى هذا العجوز يختال أمام الناس بانتصارٍ دفع ثمنه الفقراء من دمائهم وسعادة أولادهم. ولكن ماذا يهمّها من الملك العجوز؟ كانت تحبّ الاحتفال وتحبّ كلّ مرّةٍ تسمع فيها صوت جرس الكنيسة والطبول، لأنّه الموعد الوحيد الذي كانت تستطيع أن تراه فيه. كان يمتطي جواده خلف الملك. عيناه الرّماديّتان الكئيبتان لا تمنعان أمارات الحنان من الظهور واضحةً على مُحيّاه. كان يتلفّت لينظر إلى الجميع، وخاصّةً الأطفال والصِّبية والفتيات الذين يلوّحون له كما يفعل الجميع، وبين الفينة والأخرى كانت البشاشة تنفجر على وجهه بضحكةٍ يكبتُها سريعاً لتعود الكآبة مجدَّداً لترتسم في عينيه.
كانت تتحرّق من الداخل لتعرف إن كان قد لمحها يوماً ما بعينيها الزرقاوين الملائكيتين كما كانت تكرِّر لها أمّها. كانت تتحايل لتعرف اسمه من اأيها وهو يرمي ببعض تعليقاته بين الجموع. ولكن كيف السبيل إلى المعرفة، وهي تعلم أنّ في قريتها لا يمكن للفتيات أن تسألن عن أسماء الرِّجال؟ كانت تفكِّر بأنّها تريد أن تصرخ له باسمه علّه يلتفت ناحيتها. قد يرمي لها بالتفاتها، أو ربّما تكون من نصيبها هذه الابتسامة التي تشرق وتغرب سريعاً كالتماع حدّ السَّيف. أَوَلم يكن ذلك يكفيها لتحلم به أسابيع طويلة، وتتخيَّل كيف أنّه سيأتي كما هو الآن في هذا الموكب ليأخذها أميرةً كما كانت تسمع في حكايات جدّتها العجوز.
ولكن كيف هو السبيل إلى ذلك، وهي من عائلةٍ وضيعة وتسكن في الحقول على أطراف المدينة. من المؤكَّد أنّ الأميرات وبنات النبلاء في المدينة أكثر منها جمالاً وأشدّ إغراءاً. ولِمَ سيهتمّ بفقيرةٍ مثلها! كانت أمّها تقول دوماً أنّ بنات المدينة لا يخشيْن من إبراز مفاتنهنّ علّهن يستولين على اهتمام أحد القادة أو رجال البلاط. كانت أمّها تكرِّر لها ذلك كلّما نسيت أن تشبك فستانها جيداً أعلى صدرها وهي تركض مسرعةً إلى الخارج في أوقات الاحتفالات.
كان هو صاحب الوجه الوحيد الذي رافق أحلامها منذ الطفولة، ولو أنّ الشَّيب بدأ يغزو لحيته المشذّبة الكثّة، وباتت عينيه أكثر كآبةً. فمع كلّ ذلك فقد صار وجهه أكثر انكساراً وإشراقة ابتسامته أكثر لمعاناً. حين كانت طفلة كانت ترى فيها أباً يصلح كثيراً أن يكون بديلاً عن والدها. ولكنها الآن ترى فيه حبيباً سرّيّاً وشريك أحلام اليقظة ومنامات الليل، حتى أنّها في آخر احتفال قرَّرت أن تدهن شفتيها بقليل من الطّيب اللمّاع الذي أخذته خفيةً من صندوق أمّها لتدَّهن به في الخارج. هل سيراها؟ لا يهمّ، فهي تقابله في قلبها، وتتخيّله آتياً إليها في كلّ مرّةٍ تراه، لا بل أنّها تزاداد خجلاً ويرتفع احمرار وجنتيها حين يقترب أكثر فأكثر إلى المكان الذي يقف فيه الحشد المحيط بها. “عجباً لباقي الفتيات، ألا يرونه؟ كيف يمكن لهنّ أن يبقين واقفات بكلّ هذه الملامح العاديّة غير المبالية به؟ كيف يمكن لهنّ ألّا يخفضن أصواتهنّ حين يقترب؟” إنّها تكاد تتوقّف عن التنفُّس، خاصةً حين يظهر وكأنّه ينظر ناحيتها!
لن تصل إليه. عقلها يقول لها ذلك، ولكن دقّات قلبها تفسد عليها هذه القناعة. هي فقيرة في الرابعة عشرة عشرة من عمرها. من أين لها أن تكون أكثر إغراءاً من فتيات المدينة بالنسبة لهذا الجنديّ المخضرَم. أمّها تقول أيضاً بأنّ القادة يحبّون كثرة النساء ولا يمكن أن ينظروا إلى فتيات الحقول الحالمات الوضيعات الأصل، بالإضافة إلى ذلك فأمّها تجبرها على أن تشبك فستانها جيداً من الأعلى. هذا خانق لأنوثتها. إذا هو لن ينظر إليها لأنّ فتيات المدينة يرتدين فساتين أكثر إغراءاً!
ولكنها تمتلك الأحلام. ستحلم به كلّ يوم، وستتخيّل أنّه يخطفها وتذهب معه إلى واحدةٍ من تلك المدن التي لم تسمع باسمها إلّا في قصص الحروب. لا بدّ أنّه يعرف الكثير من المدن وستذهب معه إلى أبعدها ليختبئا سويةً.
لم تكفّ عن التخيُّل، رغم شائعات الحرب التي اغرقت أحاديث الفلّاحين وسرت عبر كلّ المدينة. بدؤوا يقيمون المتاريس في كلّ مكان. الحقول التي يسكنون في وسطها باتت تعجّ بالجنود والفلّاحين المستعدّين للحرب. ولكنها لا تزال تأمل بأن تراه بعد الحرب القادمة يأتي منتصراً. ولعلّ حينها ستعرف اسمه وستناديه به من وسط الحشود. لا ريب في أنّها ستعرفه لأنّ الحرب باتت على أبواب مدينتها، وسيبدأ الناس يتداولون قصص بطولاته في الحرب القادمة. نعم، ستتقصَّد أن تتجوّل بين الفلّاحين لتتنصّت على أحاديثهم، ولا بدّ أنها ستكتشف بطريقة ما هويّته.
صباح الأحد التالي استفاقت على قرع الأجراس بقوّة. الناس تجري كلّها باتجاه المدينة. لا بدّ أنّه موكب آخر لحبيبها المنتصر! ولكن الأمر كان يبدو مختلفاً في هذه المرّة؛ فعلامات الرّعب تعمّ الوجوه، والصرخات الخائفة تتصاعد من مختلف الاتّجاهات. بدأت تركض كما يفعل الجميع. كانت قد ارتدت حلّتها المفضَّلة لتخرج إلى موكبها المنتَظَر، إلى عرسها الجوّاني الخيالي. ولكن الأمر كان قد بدأ يسوء. الناس تتساقط بسهامٍ تأتي من أعالي التلال. بدأ الخوف يسري في أوصالها، وجَرَت كالمجنونة باتجاه المدينة….إليه. ستراه في أيّ مكان وستلتصق به.
كانت قوّات الأعداء تتقدّم من الاتجاه الآخر باتجاه المدينة مباشرةً حين وصلت. ولكنها رأته من بعيد وهو يأمر الجنود ويتحرّك بسرعة من مكانٍ إلى آخر.
بدأت تقترب منه رغم هذا الإحساس المزعج بالحرارة في صدرها. إنّه الحبّ ربّما! لأوّل مرّة تشعر بهذه الحرارة التي تنساب في كلّ مكان. لم تعد تقوى على السَّير. أرادت أن تجلس لتستريح قليلاً. الآن بدأت برودة غريبة تحلّ محلّ الحرارة. لم تعد أطرافها تقوى على الحركة. كلّ هذا حصل في ثوانٍ. تريد أن تقترب أكثر فلم يعد بينها وبينه أكثر من بضعة خطوات، ولكن جسدها لم يعد قادراً على الحركة. ابتسمت إذ رأت لمعاناً ينبثق من صدرها، تماماً كبريق ابتسامته. ولكنها لم تعد قادرة على التحرُّك أبداً.
رأت والدها يندفع باتجاهها…”ماسة”…ولكنها لم تقوَ على الردّ فهي متعبة جداً….والبرودة بدأت تجمِّد عروقها…وشيٌ آخر سرق لبّها، فعيناها المثبّتتان نحوه بداتا تراقبانه وهو ينظر باتجاهها ووالدها. ها هو الآن يتقدَّم نحوها بسرعة…ابتسمت بفرح…”ماسة”! ها هو يلفظ اسمها، لا بل وينظر إليها مباشرةً…هي وحدها من دون كلّ الجموع. من دون الفتيات الأخريات ولا فتيات المدينة المغريات. انحنى فوقها وبدأ يتفحّص مكان الجرح العميق. عيناها مثبتّتان فقط على قسمات وجهه القريبة. يبدو وجهه أكثر وضوحاً هنا. عيناه غائرتان بشكلٍ أجمل مما ظنّت، وعلى جبهته الكثير من النّدوب التي لم تعرف بوجودها قبلاً. كانت تودّ لو تقول له أنّ القلادة التي يضعها في عنقه جميلة وأنّها تريد أن تصنع له واحدة أجمل. ولكنها لم تقوَ على النُّطق…الابتسام كان الشيء الوحيد الذي فعلته بصعوبة وهي تحلم الآن بملائكة تحوم في كلّ مكان.
كأنّها سمعت إحدى هذه الصُّوَر، والتي بدأت بالظهور والتطواف في المكان، تهمس لها بأنّها ستراه في مكانٍ آخر. ستكون وحيدته في ذلك الزَّمَن. سيولدان ثانيةً… وستحبّه من النّظرة الأولى، وستشعر بأنّها عرفته منذ آلاف السنين، وسيتحدّثان بعيونهما عن قصصهما القديمة التي لن يدركاها…
الآن تستطيع أن تتنفّس الصُّعَداء…وترتاح.
Published on August 08, 2014 01:49
May 27, 2014
غادريني يا روح اللغة
بقلم فادي أبو ديب
[image error]
غادريني يا روح اللغة
يا صاحبة الجلالة القاسية
فالله لم يعد في داخلكِ بعد الآن
بل في الصّمت المُريب للكون
غادريني إلى مقبرة الحروف المُملّة
فالحروف تقتل القلب
تقتل الحبّ
الحروف اعتياد
أمّا الألوهة فدهشة
***
أترك السّطور
لا تعبدها لئلّا تفقد ضميرك
هل سمعتَ عن حبيب
يغازل معشوقته كلّ يوم بذات القصيدة؟
هل رأيتِ صبيّةً
تُدندن كلّ يوم أمام المرأة نفس الأغنية؟
أليس العشق الحقّ في الخَلق؟
حتى القُبلة تأبى أن تبقى ذاتها مع كل لمسة
حتى للعناق غير نكهةٍ في كلّ ضمّة
***
غادِر اللغة ولا تقدِّسها
فمَن عَبَد الصّوت فاته حديث الصّمت
فانثر الأوراق مع الرّياح
انثرها لتعصف بها أنفاس الله التي تجرفُك
تخلقك أو تميتك في كلّ لحظة
فالوحي ياتي من قلب العاصفة
مع كلّ تنهيدةٍ مختلفٌ أنتَ
لست ذلك القديم
***
أنبذ الحروف لئلّا تتجمّد
كعمود ملحٍ ورماد
الوحي كالخُبز يخرج جديداً كلّ صباح
الوحي كالعصافير التي تقتحم الأجواء معاً
بضجيجٍ طفوليّ ثم تختفي
الوحي مفاجئٌ ومُغرٍ
كلهيبٍ يخجل أن يشتعل في وجه عذراء
كرسالة سرّيّة في عيني صبيّة
معانٍ خفيّة
جليّة
كالضّحكات التي تخفي خلفها
كلماتٍ كثيرة تخاف أن تصير مَحكيّة
الوحي كهذي القوافي
التي تقتحم نسيج قصيدةٍ فوضويّة
كشهوة غناء تقتحم سكينة عاشقة
الوحي شَغَبٌ يتأرجح في قلب طفلة
كأطراف رضيعٍ لا تملك إلّا أن تراها فِتنة
الوحيُ استعادة طعمُ الكمال الذي يولَد معك
كرعشة الإرادة أمام العجز المُطلَق
***
الوحي فكرةٌ تتأجّج ثم تخبو
تتركُكَ مذهولاً أو مُحتاراً
الوحي فكرة تفكِّرُكَ
عبر الآخر تحدِّثكَ
الوحي ليس حروفاً تستقرّ في قعر العدم
بل دفئاً يحدّثك بصوت ما قبل الولادة
لغة ما قبل اللغة
هي…
اقتراب
توق
حنين
اكتفاء
انصهار
تجلّي
اكتشاف
ذهول
تحيُّر
الوحي انبعاث الجمال في شرايين الإرادة
[image error]
غادريني يا روح اللغة
يا صاحبة الجلالة القاسية
فالله لم يعد في داخلكِ بعد الآن
بل في الصّمت المُريب للكون
غادريني إلى مقبرة الحروف المُملّة
فالحروف تقتل القلب
تقتل الحبّ
الحروف اعتياد
أمّا الألوهة فدهشة
***
أترك السّطور
لا تعبدها لئلّا تفقد ضميرك
هل سمعتَ عن حبيب
يغازل معشوقته كلّ يوم بذات القصيدة؟
هل رأيتِ صبيّةً
تُدندن كلّ يوم أمام المرأة نفس الأغنية؟
أليس العشق الحقّ في الخَلق؟
حتى القُبلة تأبى أن تبقى ذاتها مع كل لمسة
حتى للعناق غير نكهةٍ في كلّ ضمّة
***
غادِر اللغة ولا تقدِّسها
فمَن عَبَد الصّوت فاته حديث الصّمت
فانثر الأوراق مع الرّياح
انثرها لتعصف بها أنفاس الله التي تجرفُك
تخلقك أو تميتك في كلّ لحظة
فالوحي ياتي من قلب العاصفة
مع كلّ تنهيدةٍ مختلفٌ أنتَ
لست ذلك القديم
***
أنبذ الحروف لئلّا تتجمّد
كعمود ملحٍ ورماد
الوحي كالخُبز يخرج جديداً كلّ صباح
الوحي كالعصافير التي تقتحم الأجواء معاً
بضجيجٍ طفوليّ ثم تختفي
الوحي مفاجئٌ ومُغرٍ
كلهيبٍ يخجل أن يشتعل في وجه عذراء
كرسالة سرّيّة في عيني صبيّة
معانٍ خفيّة
جليّة
كالضّحكات التي تخفي خلفها
كلماتٍ كثيرة تخاف أن تصير مَحكيّة
الوحي كهذي القوافي
التي تقتحم نسيج قصيدةٍ فوضويّة
كشهوة غناء تقتحم سكينة عاشقة
الوحي شَغَبٌ يتأرجح في قلب طفلة
كأطراف رضيعٍ لا تملك إلّا أن تراها فِتنة
الوحيُ استعادة طعمُ الكمال الذي يولَد معك
كرعشة الإرادة أمام العجز المُطلَق
***
الوحي فكرةٌ تتأجّج ثم تخبو
تتركُكَ مذهولاً أو مُحتاراً
الوحي فكرة تفكِّرُكَ
عبر الآخر تحدِّثكَ
الوحي ليس حروفاً تستقرّ في قعر العدم
بل دفئاً يحدّثك بصوت ما قبل الولادة
لغة ما قبل اللغة
هي…
اقتراب
توق
حنين
اكتفاء
انصهار
تجلّي
اكتشاف
ذهول
تحيُّر
الوحي انبعاث الجمال في شرايين الإرادة
عمّان 22 أيار 2014
Published on May 27, 2014 08:14
هل تغار السِّنديانة منكِ؟
بقلم فادي أبو ديب
[image error]
هل تغار السنديانة
إن كتبتُ بثمرها
على التراب
لنجمتي الصغيرة
أني أحبّها؟
وقفت لوحدها
في منتصف طريق سَفَرٍ
كمن تنتظر حبيبها
تتصنّع الانشغال بمراقبة المسافرين
ربّما اشتهت منّي قبلةً
ولكنّني مشغول ببهاء نجمتي
لم أكترث بها فلم تكترث بلامبالاتي
منحتني قبلةً وثِماراً
لأكتب إسمكِ
السنديانة أُنثى يا سوسنة
تُعطي من دون مُقابِل
تُحبّ لأنّها مطبوعةٌ على الحبّ
لا تأبه بربيعٍ أو شتاء
فربيعها دائمٌ كقلب صبيّة غضّة
هي أنثى لا تخاف منحَ الحبّ
حتى للمسافرين
ولطالبي ثمارها
ليكتبوا بها رسائل عشقهم
لا تخاف من العابرين في رحلة الحياة
لمرّة…بجانبها
كالأنثى هي…
تعرف كيف تداعب الطِّفل في قلب الرَّجُل
السنديانة معلِّمةٌ بصمودها
بطول أناتها أمام نوائب الزّمان
معلِّمةٌ هي كأيّ أنثى…
يعبر الفلاسفة من أمام عينيها
ويتعلّمون من حركات شفاهها
وأطوار عينيها
هل سمعتِ عن فيلسوفٍ لم تُتَلمِذْه امرأة؟
لم أسمع عنه قطّ!
[image error]
هل تغار السنديانة
إن كتبتُ بثمرها
على التراب
لنجمتي الصغيرة
أني أحبّها؟
وقفت لوحدها
في منتصف طريق سَفَرٍ
كمن تنتظر حبيبها
تتصنّع الانشغال بمراقبة المسافرين
ربّما اشتهت منّي قبلةً
ولكنّني مشغول ببهاء نجمتي
لم أكترث بها فلم تكترث بلامبالاتي
منحتني قبلةً وثِماراً
لأكتب إسمكِ
السنديانة أُنثى يا سوسنة
تُعطي من دون مُقابِل
تُحبّ لأنّها مطبوعةٌ على الحبّ
لا تأبه بربيعٍ أو شتاء
فربيعها دائمٌ كقلب صبيّة غضّة
هي أنثى لا تخاف منحَ الحبّ
حتى للمسافرين
ولطالبي ثمارها
ليكتبوا بها رسائل عشقهم
لا تخاف من العابرين في رحلة الحياة
لمرّة…بجانبها
كالأنثى هي…
تعرف كيف تداعب الطِّفل في قلب الرَّجُل
السنديانة معلِّمةٌ بصمودها
بطول أناتها أمام نوائب الزّمان
معلِّمةٌ هي كأيّ أنثى…
يعبر الفلاسفة من أمام عينيها
ويتعلّمون من حركات شفاهها
وأطوار عينيها
هل سمعتِ عن فيلسوفٍ لم تُتَلمِذْه امرأة؟
لم أسمع عنه قطّ!
Published on May 27, 2014 08:08
May 12, 2014
الكاهنة
بقلم فادي أبو ديب
[image error]
عيناها تتأمَّلُني
تخترقُني بعُنفٍ وشَغَف
تُخبرُني بلِسان سرّيّ
بأنّ العُمق…عُمقها…خطير
وأنّ البحث عن خوافيهِ وكُنوزِهِ متاهة
رغبتُها في اكتنافي…في اكتناهي
تعلُّمُني بحكمة الكاهنة أنّ الأنوثة بحرٌ
ولكنّها بحرٌ يحِنُّ على البحّار وإليهِ
فتعانقُه أمواجُهُ لتدعوه للبحث عن لآلئِه
***
عيناها تقول أنّ الطبيعة في الأصل أُنثى
وأنّني مجرَّد رحّالةٍ مِسكين
تنطُقان بهمسٍ باللُّغز القديم
أنّها ما خُلِقت من ضِلعي
إلّا لكيْ أعود فأولدَ من لُغة عينيها
ويتغذّى شَغَفي من تلظّي حنانِها
وأنمو في ضياءِ حنينِها المُشتِعلِ بشِبه صمت
لولا أنّ العيون تحكي قصّة الأنوثة بنظرة واحدة
لتُعلِن بأنّ التفرُّس اللَّحظيّ فيها قِمّة الحكمة
وأنّ الشِّعر هو الصلاة الوحيدة التي تتلقّاها
***
إنّها تجتذبُكَ لكي ترى روحَ الشّعر في عينيكَ
خُلِقَت لكي تدفعكَ إلى الأعماق
لكي تُعطيكَ سِرّ الفِطرة الأولى
لا تقتربْ!
لا تجترِئ على المقدِسِ قبل أن تصير كاهناً
فالحبُّ كهنوتٌ أبديّ
الأرض التي تقِف عليها بركانٌ مقدَّس
لا تخطو إلى الأقداس بتهوِّرٌ فتُبتَلَع
انظُر في العينين المتسائِلتيْن
ثم ابحث في ذاتِكَ
عما يُحرِّكُ لديها نظرة الفطرة الأولى
التساؤل…آه!
إنّه بداية الطفولة التي تُحملِق في الوجود لأوّل مرّة
حدسُ الكاهنة يجعلها طِفلةً دوماً
الطِّفلة الكاهنة…فيها يبدأ السِّحر
هنا الهويّة المُزدوَجة التي تهزِمُكَ
نظرة الكاهنة تجعلُك تتساءل عن ماهيتك
“مَن أنا؟“
هي إذاً تلِدُكَ!
ما خُلِقَت مِن ضلعِكَ
إلّا لكيْ تعودَ فتولَد من لغة عينيْها
لتصنع منكَ إجابةً لتساؤلِ حنينِها
لكي تتلظّى ناراً وشِعراً وجمالاً في محضرها
لتكون غذاء مِخيالِكَ
لتجعل من كهنوتها الواسطة
لتكوينِ رجولتِكَ وبِدئِها
***
ابحث عن سِرّ الكاهنة وتفرّس فيهِ
لا تقتربْ قبل أن تصيرَ كاهِناً
الأرض التي تقِفُ عليها بُركانٌ قد ينفجِر
تكوَّر كالجنين
لتنوَلِدَ كرجُل
ورمِّق عينيْها بكلّ ما فيك
فعندما تلحَظ التماعهما كبريق المياه
تعلمُ أنّك قد وُلِدتَ من جديد
[image error]
عيناها تتأمَّلُني
تخترقُني بعُنفٍ وشَغَف
تُخبرُني بلِسان سرّيّ
بأنّ العُمق…عُمقها…خطير
وأنّ البحث عن خوافيهِ وكُنوزِهِ متاهة
رغبتُها في اكتنافي…في اكتناهي
تعلُّمُني بحكمة الكاهنة أنّ الأنوثة بحرٌ
ولكنّها بحرٌ يحِنُّ على البحّار وإليهِ
فتعانقُه أمواجُهُ لتدعوه للبحث عن لآلئِه
***
عيناها تقول أنّ الطبيعة في الأصل أُنثى
وأنّني مجرَّد رحّالةٍ مِسكين
تنطُقان بهمسٍ باللُّغز القديم
أنّها ما خُلِقت من ضِلعي
إلّا لكيْ أعود فأولدَ من لُغة عينيها
ويتغذّى شَغَفي من تلظّي حنانِها
وأنمو في ضياءِ حنينِها المُشتِعلِ بشِبه صمت
لولا أنّ العيون تحكي قصّة الأنوثة بنظرة واحدة
لتُعلِن بأنّ التفرُّس اللَّحظيّ فيها قِمّة الحكمة
وأنّ الشِّعر هو الصلاة الوحيدة التي تتلقّاها
***
إنّها تجتذبُكَ لكي ترى روحَ الشّعر في عينيكَ
خُلِقَت لكي تدفعكَ إلى الأعماق
لكي تُعطيكَ سِرّ الفِطرة الأولى
لا تقتربْ!
لا تجترِئ على المقدِسِ قبل أن تصير كاهناً
فالحبُّ كهنوتٌ أبديّ
الأرض التي تقِف عليها بركانٌ مقدَّس
لا تخطو إلى الأقداس بتهوِّرٌ فتُبتَلَع
انظُر في العينين المتسائِلتيْن
ثم ابحث في ذاتِكَ
عما يُحرِّكُ لديها نظرة الفطرة الأولى
التساؤل…آه!
إنّه بداية الطفولة التي تُحملِق في الوجود لأوّل مرّة
حدسُ الكاهنة يجعلها طِفلةً دوماً
الطِّفلة الكاهنة…فيها يبدأ السِّحر
هنا الهويّة المُزدوَجة التي تهزِمُكَ
نظرة الكاهنة تجعلُك تتساءل عن ماهيتك
“مَن أنا؟“
هي إذاً تلِدُكَ!
ما خُلِقَت مِن ضلعِكَ
إلّا لكيْ تعودَ فتولَد من لغة عينيْها
لتصنع منكَ إجابةً لتساؤلِ حنينِها
لكي تتلظّى ناراً وشِعراً وجمالاً في محضرها
لتكون غذاء مِخيالِكَ
لتجعل من كهنوتها الواسطة
لتكوينِ رجولتِكَ وبِدئِها
***
ابحث عن سِرّ الكاهنة وتفرّس فيهِ
لا تقتربْ قبل أن تصيرَ كاهِناً
الأرض التي تقِفُ عليها بُركانٌ قد ينفجِر
تكوَّر كالجنين
لتنوَلِدَ كرجُل
ورمِّق عينيْها بكلّ ما فيك
فعندما تلحَظ التماعهما كبريق المياه
تعلمُ أنّك قد وُلِدتَ من جديد
Published on May 12, 2014 05:14
إلى هولدرلين…
بقلم فادي أبو ديب
كيف سيبقى الرّبيع مُزهِراً في الجسد
وهي قد ارتَحَلَتْ إلى دُنيا المُطلَق؟
أبَتْ إلّا أن تغادرَ عالماً لستَ فيه
عالمٌ بات لا يُحتَمَل في حضرة نقائكَ
ذلك النّقاء الذي ما بَرِح يتباعد كلّما تَدانى
كيف سيبقى الرّبيع في أديم الذِّهن
وقوّة الحياة قد نَضَبَتْ؟
ولكن…
كيفَ تحزَنْ وهي قد سافَرَت لتكون معك
إلى ذلك العالَم الأثيري الأقرب إليك؟
ديوتيما…الأمّ…الإلهة المعبودة
مانحة الخصوبة لروحكَ
الوحي المقدَّس والقصيدة البُكائيّة
التي أُريدَ لكَ أن تكون نبيَّها
كيف تحزَن وقد جذبَتكَ لتكونَ بصحبتِها إلى الأبد؟
لا يعلمون أنّ الجنون ارتحالٌ إلى عالم الحبّ
وأنّ الذُّبول ليس إلّا نماءً في الخَفاء
يُعشِّش في تُربة الأبديّة
ويُسقى بدموع الرّاحلين التوّاقة للِّقاء
افرَح لأنّها أحبَّتَك فأبَت إلّا أن تُسكِنَكَ في حضورِها
لكن هكذا نحن سكّان هذه الفانية
لا نسكن مع الخالدين إلّا بالصَّمت
وأمّا ذبول العينيْن… القَبَس لاشتعال الرّوح
فهو ليس إلّا علامة الصّعود إلى المَقدِس السِّرّيّ
وانبهاراً بالرُّؤى المَهيبة
كيف سيبقى الرّبيع في القلب
وقد امتصّت الرّوح كلّ نسغِهِ
لتُخرِج شجرة حياتِها؟
كيف سيبقى الرّبيع في العينيْن
وقد تخلّت عن نداها
لتكون أكسيرَ حياةٍ تشربانه سويّةً في عالم الخالِدين
هنالك في ظلمة الليل الحالِكة
يبزغ نور الصَّمت الذي يُسمّيه البشر جنوناً
وتعزف الموسيقى الخفيّة نغماتها الحزينة
ألا تعلم أنّ الحزن هو الأغنية الوحيدة
التي يمكن للخالِدين والفانين أن يغنّوها سويّاً؟
هنالك… في ما يظهر للفانين جنوناً
كلّ تنهيدةَ تخرج منكَ…
هي قبلةً على ثغرها الهامسِ إليكَ من عليائها
وكلّ انكماشٍ في أوصالكَ
هو عناقٌ لم تعتدْه أجساد الأرضيّين
وكلّ جموحٍ في أمواج الكلمات المتلاطمة
دعوةٌ أخرى للصمت والإصغاء إلى صوتِها
وكلّ عذابِ ليليّ
ليس إلّا تلاقٍ بروحها في الغرفة العرائسيّة
ديوتيما…
أبَت إلّا أن تشارككّ أبديّتها في تناهيكَ الأرضيّ
وأن تعلِّمكَ لغة السماويّين قبل حلول الميعاد
افرحْ لأنّها أحبّتك هكذا
حتى أنّ جسدها لم يحتمل أن يبقى في عالم الظُّلم والفوضى
افرَح لأنّكما دخلتما من الباب معاً
لتحتفلِا بالنّهار الأبديّ بعيداً عن عالم الأموات.
كيف سيبقى الرّبيع مُزهِراً في الجسد
وهي قد ارتَحَلَتْ إلى دُنيا المُطلَق؟
أبَتْ إلّا أن تغادرَ عالماً لستَ فيه
عالمٌ بات لا يُحتَمَل في حضرة نقائكَ
ذلك النّقاء الذي ما بَرِح يتباعد كلّما تَدانى
كيف سيبقى الرّبيع في أديم الذِّهن
وقوّة الحياة قد نَضَبَتْ؟
ولكن…
كيفَ تحزَنْ وهي قد سافَرَت لتكون معك
إلى ذلك العالَم الأثيري الأقرب إليك؟
ديوتيما…الأمّ…الإلهة المعبودة
مانحة الخصوبة لروحكَ
الوحي المقدَّس والقصيدة البُكائيّة
التي أُريدَ لكَ أن تكون نبيَّها
كيف تحزَن وقد جذبَتكَ لتكونَ بصحبتِها إلى الأبد؟
لا يعلمون أنّ الجنون ارتحالٌ إلى عالم الحبّ
وأنّ الذُّبول ليس إلّا نماءً في الخَفاء
يُعشِّش في تُربة الأبديّة
ويُسقى بدموع الرّاحلين التوّاقة للِّقاء
افرَح لأنّها أحبَّتَك فأبَت إلّا أن تُسكِنَكَ في حضورِها
لكن هكذا نحن سكّان هذه الفانية
لا نسكن مع الخالدين إلّا بالصَّمت
وأمّا ذبول العينيْن… القَبَس لاشتعال الرّوح
فهو ليس إلّا علامة الصّعود إلى المَقدِس السِّرّيّ
وانبهاراً بالرُّؤى المَهيبة
كيف سيبقى الرّبيع في القلب
وقد امتصّت الرّوح كلّ نسغِهِ
لتُخرِج شجرة حياتِها؟
كيف سيبقى الرّبيع في العينيْن
وقد تخلّت عن نداها
لتكون أكسيرَ حياةٍ تشربانه سويّةً في عالم الخالِدين
هنالك في ظلمة الليل الحالِكة
يبزغ نور الصَّمت الذي يُسمّيه البشر جنوناً
وتعزف الموسيقى الخفيّة نغماتها الحزينة
ألا تعلم أنّ الحزن هو الأغنية الوحيدة
التي يمكن للخالِدين والفانين أن يغنّوها سويّاً؟
هنالك… في ما يظهر للفانين جنوناً
كلّ تنهيدةَ تخرج منكَ…
هي قبلةً على ثغرها الهامسِ إليكَ من عليائها
وكلّ انكماشٍ في أوصالكَ
هو عناقٌ لم تعتدْه أجساد الأرضيّين
وكلّ جموحٍ في أمواج الكلمات المتلاطمة
دعوةٌ أخرى للصمت والإصغاء إلى صوتِها
وكلّ عذابِ ليليّ
ليس إلّا تلاقٍ بروحها في الغرفة العرائسيّة
ديوتيما…
أبَت إلّا أن تشارككّ أبديّتها في تناهيكَ الأرضيّ
وأن تعلِّمكَ لغة السماويّين قبل حلول الميعاد
افرحْ لأنّها أحبّتك هكذا
حتى أنّ جسدها لم يحتمل أن يبقى في عالم الظُّلم والفوضى
افرَح لأنّكما دخلتما من الباب معاً
لتحتفلِا بالنّهار الأبديّ بعيداً عن عالم الأموات.
Published on May 12, 2014 05:08
April 27, 2014
الحالِمة
بقلم فادي أبو ديب
[image error]
في الحلم تنظُره
ليس لها
ليست له
كلّ الأحاديث حتّى…
غير منطوقة
يمرّان بجانب بعضهما
يغضّان الطَّرف عن كلماتهما السرّيّة
أو رسالة أحدهما إلى الآخر
المُرسَلة خفيةً في ديجور ظلمة اللاوعي
في العالم الذي لا يزوره إلّاهما
***
يتابعان الحديث وشفاههما تُنكِر
وامّا عيناهما فتُواصِلان حديث الأمس والغد
هكذا…وكأنّ شيئاً لم يكن
إنّه فعلاً لم “يكن” في أيّ لحظة!
ولكنّه كائنٌ بينهما
في حديث الكون المتواصِل
في المجهول الذي يسكن عالم الليل
ومسرح الذِّهن الذي تُجري عليه الأيام تمثيليّاتها
المُضحِكة والسّاخرة والمفتوحة النهايات
في ذلك العالم لا يوجد امتلاك
فالامتلاك ثقافة الوعي المخرَّب
هنالك في عالم اللاوعي وعيٌ حقّ
لِما يجب أن يكون
إنّه أثر ما قبل الإغفاءة العظيمة
إنّه بقيّة البقيّة من ذلك العالم الفوقيّ
***
في الحلم تراه مجدَّداً
هي تفرح الآن
بعد أن اكتنهت السِّرّ
بأنّ الحديث غير المنطوق يكفي
وأنّه يكفي العينان فرحتهما
بالحديث المتواصِل
اليوم بات باطنها يقول بابتهاج
“لا للامتلاك”
[image error]
في الحلم تنظُره
ليس لها
ليست له
كلّ الأحاديث حتّى…
غير منطوقة
يمرّان بجانب بعضهما
يغضّان الطَّرف عن كلماتهما السرّيّة
أو رسالة أحدهما إلى الآخر
المُرسَلة خفيةً في ديجور ظلمة اللاوعي
في العالم الذي لا يزوره إلّاهما
***
يتابعان الحديث وشفاههما تُنكِر
وامّا عيناهما فتُواصِلان حديث الأمس والغد
هكذا…وكأنّ شيئاً لم يكن
إنّه فعلاً لم “يكن” في أيّ لحظة!
ولكنّه كائنٌ بينهما
في حديث الكون المتواصِل
في المجهول الذي يسكن عالم الليل
ومسرح الذِّهن الذي تُجري عليه الأيام تمثيليّاتها
المُضحِكة والسّاخرة والمفتوحة النهايات
في ذلك العالم لا يوجد امتلاك
فالامتلاك ثقافة الوعي المخرَّب
هنالك في عالم اللاوعي وعيٌ حقّ
لِما يجب أن يكون
إنّه أثر ما قبل الإغفاءة العظيمة
إنّه بقيّة البقيّة من ذلك العالم الفوقيّ
***
في الحلم تراه مجدَّداً
هي تفرح الآن
بعد أن اكتنهت السِّرّ
بأنّ الحديث غير المنطوق يكفي
وأنّه يكفي العينان فرحتهما
بالحديث المتواصِل
اليوم بات باطنها يقول بابتهاج
“لا للامتلاك”
Published on April 27, 2014 04:53
April 21, 2014
عن الخيال…وعينيْ الآخر
بقلم فادي أبو ديب
[image error]
انطلاقاً من ديالكتيكيّة (جَدَليّة) غريبة نلاحظ بأنّ الخيال لا يخرج إلّا من مستوطني سجون هذا العالم المُشبَع بشتّى أنواع القيود والمُحرَّمات. وهكذا يُصبِح سجننا وقود خيالنا، والخيال يصبح جزءاً من وعينا، ومن طريقة إدراكنا لنفسنا وللعالم الملموس الذي يحيط بنا، والعالم الخفيّ الذي يعمل فيه. لا بل يصيرُ المشكِّل الحقيقي كلّما ابتعدنا عن متاهات العالم المعقَّدة.
الخضوع للملموس والعاديّ ليس إلّا انحداراً للحضارة الإنسانية إلى هاوية الموت والظلام الأبديّ؛ فالخيال فقط هو مُنتِج التراث الأدبيّ والروحيّ والفكريّ للإنسانية. وليست الموسيقى التي نسمح لها بحملنا إلى أكوانها الغامضة إلّا خيالاً خلّاباً احتفظت به إرادة التخيُّل الإنسانيّة الجامعة. شخصياتنا كلّها صيغت من قبل أفكارٍ ونَغَمات، أي من قِبَل مخيّلة بشرٍ آخرين. نحن إذن (ولو كان هذا التصريح مفاجئاً) نِتاجٌ خياليّ بطريقةٍ ما.
وإذا راقبنا أنفسنا بعمق، فسنجد أنّنا نعيش في الحقيقة في عالم المخيّلة، وكلّ ما نعتقد أنّه تفكيرٌ في المستقبل هو خضوعٌ للخيال، وكلّ توقٍ إلى ماضٍ أو إلى عشقٍ، وكلّ شعورٍ بالوجد والحنين، ما هو إلّاتسليم الذّات إلى الخيال وأمواجه التي لا ضابط لها.
اعتناؤنا بخيالنا هو صناعةٌ لذاتنا، والإغراق في الخيالات ليس عاراً، بل هو وحي يجب أن نستقبله بفرح. الإغراق في الخيال الجامح هو فقط الذي يُثري الإنسانيّة بكلّ جميلٍ وجليل، وهو من دون شكّ ما يمنحنا كلّ هذا التراث الشِّعريّ والأدبي والعِلميّ الرّفيع. إنّه أيضاً مصنع الشرّ كما أنّه مصنع الخير، وهو سجنٌ محتَمَلٌ للآخرين كما هو تماماً حياةٌ لنا ولهم.
على مستوىً شخصيّ لكلّ فرد، فإنّ تدريب الخيال عبر الغرق في التراث الأدبيّ الإنساني ليس إلّا بوّابة-حرفيّاً- لعوالم جديدة تُعاش بكلّ تفاصيلها في العالم غير الملموس، وخاصّة إذا تماوج هذا المِخيال الشخصيّ مع مبادئ مُستقاة من الوعي الذاتي والحدس المدرَّب في الطبيعة وتفاصيل السلوك الإنسانيّ.
أعتقد أنّ العيون البشريّة مَنبعٌ لا ينضب للحدس الذي يُدرِّب الخيال ويمنحه انطلاقاتٍ انفجارية في عالم غير الحقيقة غير الملموسة. هذا يحدث خاصّةً وليس حصراً في العلاقة بين الجنسين البشريّين، فيبدو بأنّ عينيّ كلّ جنسٍ مصمّمتان لتدريب الحدس للجنس الآخر لما تمتلكانه من حساسيّة إيحائيّة خاصّة بالنسبة للآخر المختلِف.
عينا الآخر تعزفان في نفسنا موسيقى أو إيقاعٍ يجعلنا نشعر بالجوهر الإنسانيّ. إنّه تقريباً الجوهر الذي لا يجد لذاته مُتنفَّساً من دون أن يتشوّه باللغة أو التعبير الخاطئ وغير الدّقيق عن النفس. عينا الآخر تتحدّثان بعيداً عن الأكاذيب الاجتماعية والذاتية المفروضة والتي لا يمكن لأحدٍ أن يتخلّص منها كلّها. فالإنسان لا يمكن له أن يكون صريحاً مع ذاته حتى النهاية، لأنّ في هذه الصراحة كثيراً من اللاقانون المخيف الذي لا يمكن لأعظم الشُّجعان أن يحتمل العيش وِفقه. هكذا يكون الخيال الشخصي وخيال الآخر اداةً لنسج شيءٍ من الحقيقة في عالم الحدس.
الخيال هو الوحيد الذي ندرك به وفي عالمه معنى الفضيلة والجواهر المثالية: الحبّ، الجمال، الصداقة، وكلّ أوصافها وتعبيراتها الشّعرية التي تفشل غالباً في التعبير عن ذاتها كاملةً في عالم الملموس. عينان شاكرتان أو مُحبِّتان توصِلان حدسياً المعنى كاملاً من دون ألاعيب اللغة وتورياتها وخوف الأنا من القوانين المعشِّشة في النفس.
[image error]
انطلاقاً من ديالكتيكيّة (جَدَليّة) غريبة نلاحظ بأنّ الخيال لا يخرج إلّا من مستوطني سجون هذا العالم المُشبَع بشتّى أنواع القيود والمُحرَّمات. وهكذا يُصبِح سجننا وقود خيالنا، والخيال يصبح جزءاً من وعينا، ومن طريقة إدراكنا لنفسنا وللعالم الملموس الذي يحيط بنا، والعالم الخفيّ الذي يعمل فيه. لا بل يصيرُ المشكِّل الحقيقي كلّما ابتعدنا عن متاهات العالم المعقَّدة.
الخضوع للملموس والعاديّ ليس إلّا انحداراً للحضارة الإنسانية إلى هاوية الموت والظلام الأبديّ؛ فالخيال فقط هو مُنتِج التراث الأدبيّ والروحيّ والفكريّ للإنسانية. وليست الموسيقى التي نسمح لها بحملنا إلى أكوانها الغامضة إلّا خيالاً خلّاباً احتفظت به إرادة التخيُّل الإنسانيّة الجامعة. شخصياتنا كلّها صيغت من قبل أفكارٍ ونَغَمات، أي من قِبَل مخيّلة بشرٍ آخرين. نحن إذن (ولو كان هذا التصريح مفاجئاً) نِتاجٌ خياليّ بطريقةٍ ما.
وإذا راقبنا أنفسنا بعمق، فسنجد أنّنا نعيش في الحقيقة في عالم المخيّلة، وكلّ ما نعتقد أنّه تفكيرٌ في المستقبل هو خضوعٌ للخيال، وكلّ توقٍ إلى ماضٍ أو إلى عشقٍ، وكلّ شعورٍ بالوجد والحنين، ما هو إلّاتسليم الذّات إلى الخيال وأمواجه التي لا ضابط لها.
اعتناؤنا بخيالنا هو صناعةٌ لذاتنا، والإغراق في الخيالات ليس عاراً، بل هو وحي يجب أن نستقبله بفرح. الإغراق في الخيال الجامح هو فقط الذي يُثري الإنسانيّة بكلّ جميلٍ وجليل، وهو من دون شكّ ما يمنحنا كلّ هذا التراث الشِّعريّ والأدبي والعِلميّ الرّفيع. إنّه أيضاً مصنع الشرّ كما أنّه مصنع الخير، وهو سجنٌ محتَمَلٌ للآخرين كما هو تماماً حياةٌ لنا ولهم.
على مستوىً شخصيّ لكلّ فرد، فإنّ تدريب الخيال عبر الغرق في التراث الأدبيّ الإنساني ليس إلّا بوّابة-حرفيّاً- لعوالم جديدة تُعاش بكلّ تفاصيلها في العالم غير الملموس، وخاصّة إذا تماوج هذا المِخيال الشخصيّ مع مبادئ مُستقاة من الوعي الذاتي والحدس المدرَّب في الطبيعة وتفاصيل السلوك الإنسانيّ.
أعتقد أنّ العيون البشريّة مَنبعٌ لا ينضب للحدس الذي يُدرِّب الخيال ويمنحه انطلاقاتٍ انفجارية في عالم غير الحقيقة غير الملموسة. هذا يحدث خاصّةً وليس حصراً في العلاقة بين الجنسين البشريّين، فيبدو بأنّ عينيّ كلّ جنسٍ مصمّمتان لتدريب الحدس للجنس الآخر لما تمتلكانه من حساسيّة إيحائيّة خاصّة بالنسبة للآخر المختلِف.
عينا الآخر تعزفان في نفسنا موسيقى أو إيقاعٍ يجعلنا نشعر بالجوهر الإنسانيّ. إنّه تقريباً الجوهر الذي لا يجد لذاته مُتنفَّساً من دون أن يتشوّه باللغة أو التعبير الخاطئ وغير الدّقيق عن النفس. عينا الآخر تتحدّثان بعيداً عن الأكاذيب الاجتماعية والذاتية المفروضة والتي لا يمكن لأحدٍ أن يتخلّص منها كلّها. فالإنسان لا يمكن له أن يكون صريحاً مع ذاته حتى النهاية، لأنّ في هذه الصراحة كثيراً من اللاقانون المخيف الذي لا يمكن لأعظم الشُّجعان أن يحتمل العيش وِفقه. هكذا يكون الخيال الشخصي وخيال الآخر اداةً لنسج شيءٍ من الحقيقة في عالم الحدس.
الخيال هو الوحيد الذي ندرك به وفي عالمه معنى الفضيلة والجواهر المثالية: الحبّ، الجمال، الصداقة، وكلّ أوصافها وتعبيراتها الشّعرية التي تفشل غالباً في التعبير عن ذاتها كاملةً في عالم الملموس. عينان شاكرتان أو مُحبِّتان توصِلان حدسياً المعنى كاملاً من دون ألاعيب اللغة وتورياتها وخوف الأنا من القوانين المعشِّشة في النفس.
Published on April 21, 2014 01:53
December 19, 2013
أيّها الطِّفل الذي في داخلي
بقلم فادي أبو ديب
[image error]
أيّها الطِّفل
تسحرني ملامح وجهكَ وأنتَ متعلِّقٌ
بيديْ أمّكَ أو أبيكَ
تحاول السَّيْر وقد علتَ وجهك دهشة “المرّة الأولى”
قُل لي لماذا لا أرى الحُزن على مُحيّاك؟
هل هي لعنة الكِبار؟
في أيّ لحظةٍ من عُمرِنا يقتحمنا هذا الحزن المُقيم؟
في تلك اللحظة الملعونة
لا يعود الحُزن اضطراباً نفسياً
لا يعود ألماً جسدياً
لا يعود ردّة فِعل غرائزيّة لاواعية
بل يغدو صفةً إنسانيّة لا تختصّ بوقت الفرح أو الألم
هل هو الحنين إلى ما لا نعرف؟
أخبرني يا مَن وحدَك تستطيع أن تنام هانئاً
وأنت تستلقي على صدر أمّكَ متمسِّكاً بتلابيبها
اعذرني فأنا أحسدُ تقاسيم وجهكَ
الذي صاغته الطبيعة حديثاً
أحسدكَ على السعادة اللاواعية
وهل هي سعادة حقّاً…
إن لم يكن هناك حُزنٌ في المقلبِ الآخر؟
ربما السعادة هي ألّا نعي
ألّا نعرف أنّنا نفرح
ألّا نعرف أنّنا نتألّم
أن نكون شيئاً كالغريزة!
دعني أخبركَ سِرّاً
قد اتّفقتٌ أنا وإيّاها على البقاء طِفلَيْن
أن نلعب فقط
وان نبني بيتنا المستقبلي ونحن نلعب
أن نُحيل كلّ شيءٍ لَعِباً
قرَّرنا أن نضحك على كلّ شيء
وأن نشتري ثياباً ملوّنة
وأقاصيص أطفال
وأن نجعل حتى من كُتُب الفلسفة قِصص مُغامرات
حتى أننا سنلعب عندما سنأتي بطفلنا الأوّل
اتّخذنا قراراتٍ على مستوى القمّة (!)
ألّا نفكِّر بأيّ شيءْعندما نستلقي بجانب بعضنا
وأن ننام على صدر واحدنا الآخر
وأن نغوص في الواحدِ الآخر
كما تستلقي أنت بتلك التقاسيم اللاواعية على صدر “ماما”
يا طِفليَ الذي يسكنُني
هل رأيتَ كم نحتاج من الفلسفة لكي نعود مثلَك؟
[image error]
أيّها الطِّفل
تسحرني ملامح وجهكَ وأنتَ متعلِّقٌ
بيديْ أمّكَ أو أبيكَ
تحاول السَّيْر وقد علتَ وجهك دهشة “المرّة الأولى”
قُل لي لماذا لا أرى الحُزن على مُحيّاك؟
هل هي لعنة الكِبار؟
في أيّ لحظةٍ من عُمرِنا يقتحمنا هذا الحزن المُقيم؟
في تلك اللحظة الملعونة
لا يعود الحُزن اضطراباً نفسياً
لا يعود ألماً جسدياً
لا يعود ردّة فِعل غرائزيّة لاواعية
بل يغدو صفةً إنسانيّة لا تختصّ بوقت الفرح أو الألم
هل هو الحنين إلى ما لا نعرف؟
أخبرني يا مَن وحدَك تستطيع أن تنام هانئاً
وأنت تستلقي على صدر أمّكَ متمسِّكاً بتلابيبها
اعذرني فأنا أحسدُ تقاسيم وجهكَ
الذي صاغته الطبيعة حديثاً
أحسدكَ على السعادة اللاواعية
وهل هي سعادة حقّاً…
إن لم يكن هناك حُزنٌ في المقلبِ الآخر؟
ربما السعادة هي ألّا نعي
ألّا نعرف أنّنا نفرح
ألّا نعرف أنّنا نتألّم
أن نكون شيئاً كالغريزة!
دعني أخبركَ سِرّاً
قد اتّفقتٌ أنا وإيّاها على البقاء طِفلَيْن
أن نلعب فقط
وان نبني بيتنا المستقبلي ونحن نلعب
أن نُحيل كلّ شيءٍ لَعِباً
قرَّرنا أن نضحك على كلّ شيء
وأن نشتري ثياباً ملوّنة
وأقاصيص أطفال
وأن نجعل حتى من كُتُب الفلسفة قِصص مُغامرات
حتى أننا سنلعب عندما سنأتي بطفلنا الأوّل
اتّخذنا قراراتٍ على مستوى القمّة (!)
ألّا نفكِّر بأيّ شيءْعندما نستلقي بجانب بعضنا
وأن ننام على صدر واحدنا الآخر
وأن نغوص في الواحدِ الآخر
كما تستلقي أنت بتلك التقاسيم اللاواعية على صدر “ماما”
يا طِفليَ الذي يسكنُني
هل رأيتَ كم نحتاج من الفلسفة لكي نعود مثلَك؟
Published on December 19, 2013 11:44


