“راح الإنسان فى هذه البقاع البارة - مصر والعراق - يلتمس طريقه ويُنمى خبراته مكتسبا مهارات جديدة فى استثمار هذه الأراضى الخيرّة. مهمة ظاهرها هين يسير بينما يخفى الواقع صعوبات كأداء لا تلين. ففى الحين الذى كان يحاول فيه الإنسان استنباط تكنيكه الزراعى وتحسين عدته وأدوات عمله كان عليه أن يهيمن على المياه وأن يتفادى منها الطغيان والنقصان، وأن يردأ عنه خطر المستنقعات وهجوم الصحراء عن طريق إقامة شبكة من أقنية الصرف والترع اللازمة للسقى ليحقق من هذا كله سيطرته الكاملة على الأرض واستثمار خيراتها الطائلة، على منهجية وأصول.

فأمام مهمة بهذا الشمول وبمثل هذه الجسامة كان لابد لجهود الفرد من أن تُصاب بالعجز ويبوء سعيه ومحاولاته بالفشل، فيقصر عن تحقيق أى شئ نافع له ولغيره من بنى جنسه لو لم يتكتل مع غيره وينتظم من جماعات لها كيانها السياسى والاجتماعى ولها القدرة والسلطات الكافية لتنسيق الدروس وتحقيق المشروعات الموضوعة واستثمارها على وجه يعود بالنفع على المجتمع. وبالفعل فقد كان بحاجة ماسة إلى زعماء وقادة يتمتعون بالسلطة والاحترام اللازمين.

فضرورة القيام بمثل هذه المهمة السلمية والنفع الذى تعود به على الجميع ليسا من الحقائق التى تبرز للعين بروز واجب الدفاع عن الوطن من اعتداءات المعتدين. ومن جهة أخرى فإن الحرب وضع طارئ وحالة حادثة تمر وتنقضى، بينما إعداد الأرض للزراعة عملية يجب معاودتها كل سنة وإتيانها من جديد عاما بعد عام بعد إدخال التحسينات عليها. فلكى يستطيع القادة إصدار الأوامر فى هذا المجال وانتزاع الطاعة، يجب أن يتمتعوا بسلطة قوية تنطلق من مجموعة من التعاليم والعقائد الدينية التى تحتم على الإنسان الطاعة التامة والخضوع الكامل والتسليم المطلق، إن لم يكن تفانى الفرد المطلق وانسكابه فى مجهود مشترك نظيم.”