(?)
Quotes are added by the Goodreads community and are not verified by Goodreads. (Learn more)
Jacques-Henri Bernardin de Saint-Pierre

“أقضي حياتي في تلك الجنة الصغيرة على ضفة ذلك النهر الصغير، وبين يدي ذلك الخضم العظيم، متمتعًا بما شئت من جمال الدنيا وبهجتها، ورغد العيش ونعيمه، ومناظر الطبيعة ومشاهدها، فالسماء فوقي تتلألأ بنجومها وكواكبها، والبحر أمامي يعج بأمواجه وأثباجه، والأرض بين يدي تختال في أثوابها وأبرادها، والأصوات المنبعثة من البحر الزاخر والجدول المتسلسل، والشلال المتدفق والريح العاصفة، والأشجار المترنحة، والطيور الصادحة كلها فرقٌ موسيقية مختلفة الآلات والنغمات، تسمعني ما لم أسمعه يومًا من أيام حياتي في أكبر معهد غنائي، من أكبر فرقة موسيقية. فإذا جلست أمام كوخي على تلك الصخرة العالية التي اعتدت أن أجلس عليها رأيت النخل الباسق مصطفًّا بعضه وراء بعض كأنه السطور في الكتاب، ورأيت رءوسه العالية المتشابكة كأنها غابةٌ ممتدة بين السماء والأرض، ورأيت الجدول المتسلسل وهو يجري في خلال الخمائل الملتفة جريان القمر الساري في أعماق السحب المتكاثفة فلا يرى منه الرائي إلا بوارق خاطفة تلمع من حين إلى حين، وألقي نظري تارةً على الروض الجميل الذي غرسته بيدي فأرى صنوف أشجاره وألوان أزهاره، وأنواع كرومه وأعنابه، فأراه في سكون الريح وهدوئها معبدًا قد لبس الجلال والوقار، وانتثرت في جنباته أشخاص الراكعين والساجدين، وفي هبوبها وانبعاثها، مرقصًا تترنح فيه القدود، وتعتنق القامات، وتتقابل الحركات والسكنات. ثم أنظر إلى السيل المتدفق من أعالي الجبال فأرى تلك المعركة الهائلة التي تجري بينه وبين الصخور الناتئة في طريقه، يهاجمها فتدفعه، ويثب عليها فتمزقه، فتتطاير أجزاؤه في جو السماء كأنها شظايا ألواح البلور، فيشتد غيظه وحنقه وإرغاؤه وإزباده، ويحاول أن يثأر لنفسه منها، فلا ينال آخرًا أكثر مما نال أولًا، وهي جامدةٌ في مكانها لا تحرك ساكنًا ولا تمد يدًا، فلا يجد له بدًّا من الفرار من وجهها، شأن الطيش والنزق بين يدي الرزانة والحلم، فينحدر عنها إلى السهل متغلغلًا في أعماق الخمائل والأدغال، كأنما يتوارى حياءً وخجلًا، ثم لا يلبث أن يستحيل بعد ذلك إلى مرآةٍ صافية تتراءى فيها صور النخيل والأشجار، وظلال القمم والهضاب، كأنما قد خطها رسامٌ ماهر بريشةٍ رقيقةٍ في صحيفةٍ ناصعةٍ، وأعظم ما أعجب له من تلك المناظر منظر الطيور الغريبة حين تفد في أواخر فصل الصيف أسرابًا أسرابًا من أقاصي البلاد مجتازة ذلك الخضم العظيم إلى حيث تتلمس رزقها الذي أعوزها في أرضها، فتقع على ذوائب الأشجار، وضفاف الأنهار، وتحلق فوق الجداول والغدر شاديةً مترنمة، مرفوفة بأجنحتها الجميلة ذات الألوان اللامعة المتلألئة، وكأنما قد خلعت من نفسها على الجزيرة بُردًا مُفَوَّفًا ترفُّ حواشيه وأهدابه، وترجف متونه وأثناؤه، وتموج خيوطه بعضها في بعض، فأجد من الأنس بها والغبطة بعشرتها ما يملأ قلبي بهجةً وحبورًا، إلا أنها لا تمكث أكثر من شهرٍ أو شهرين ثم تعود أدراجها، فأوجد من الوحشة لفراقها ما يجد العشير لفراق عشيره.”

Jacques-Henri Bernardin de Saint-Pierre, ‫الفضيلة: بول وفرجيني
Read more quotes from Jacques-Henri Bernardin de Saint-Pierre


Share this quote:
Share on Twitter

Friends Who Liked This Quote

To see what your friends thought of this quote, please sign up!

0 likes
All Members Who Liked This Quote

None yet!


This Quote Is From


Browse By Tag