‫قواعد العشق الأربعون‬ (Arabic Edition)

by Elif Shafak

ـــ انظروا إلى دنوّ الأرض ورفعة السماوات، واعلموا بأنّ كلّ الأحوال في العالم تسير على هذا النحو: الفيضان والمجاعة؛ والحرب والسلم. ولا تنسوا أنّ كلّ ما يحدث، لم يخلقه سُدًى، سواء أكان ذلك غضبًا أم رحمة، تسامحًا أم احتيالًا.

شاهدت، وأنا في مجلسي، أنّ لكلّ شيء هدفًا: حَمْلُ أمّي والحربُ التي دارت في رحمها، ووحدةُ شقيقي التي صعّبت العلاج، بل حتى مقتلُ أبي وزوجتِه، وأيّامي الرهيبةُ في الغابة، وكلُّ قسوة رأيتها في شوارع القسطنطينيّة؛ كلّها أسهمت، بطريقتها الخاصّة، في قصّتي. فوراء كلّ مشقّة يكمن مشروع كبير.

لكلّ امرئ اسمٌ. لله أسماء لا تُحصى، ولا نعرف منها سوى تسعة وتسعين اسمًا. فإذا كان لله هذا العددُ الكبير من الأسماء، فكيف يمكن للإنسان، الذي خُلق على هيئته، أن يتجوّل من دون اسم؟

يبدأ بعض الناس حياتهم بهالة متألّقة تألّقًا شديدًا، ولكنّهم يفقدون اللون ويتوارون. أنتِ، على ما يبدو، واحدة من هؤلاء الناس. كانت هالتك، في يوم من الأيّام، أشدَّ بياضًا من الزنبق الأبيض بنقاطه الصفر والورديّة، ولكنّها بهتت بمرور الأيّام حتى أصبحت اليوم بنيّة شاحبة. ألا تشتاقين إلى ألوانك الأوّليّة؟ ألا تحبّين الاتّحاد بجوهرك؟

ـــ إنّها قاعدة من القواعد الأربعين: «إذا أردت أن تغيّري الأسلوب الذي يعاملك به الناس، فعليك أوّلًا أن تغيّري الأسلوب الذي تعاملين به نفسك. فما لم تتعلّمي كيف تحبّين نفسك حبًّا شاملًا ومخلصًا، فليست ثمّة وسيلة يمكن أن يحبّك بها الآخرون. ومع هذا، إذا ما حقّقت تلك المرحلة، فإنّه ينبغي لك أن تتوجّهي بالشكر إلى كلّ شوكة ربّما رماك بها الآخرون. فتلك علامة تدلّ على أنّ الورود سوف تنهال عليك عمّا قريب».

الماضي دوّامة مائيّة، فإذا سمحت له بأن يهيمن على لحظتك الراهنة، فسوف يقضي عليك. الزمان ليس سوى وهم. وأنت في حاجة إلى أن تعيشي في هذه اللحظة الآنيّة. هذا هو لبّ القضيّة.

«لقد خلقنا كلَّنا على صورته، ولكنّنا، على الرّغم من ذلك، نختلف، ولا يشبه أحدنا الآخر. لا يوجد اثنان متشابهان، ولا يوجد قلبان ينبضان على الإيقاع نفسه. ولو أراد الله أن نكون كلّنا متشابهين، لكان له ذلك. لهذا السبب، فإنّ عدم احترام الاختلافات، وفرضَ أفكار المرء على غيره، يرقيان إلى عدم احترام النظام المقدّس الذي أبدعه الله».

ألا تراودكم، أنتم الصوفيّين، أيُّ شكوك في شأنه؟ ابتسم شمس التبريزيّ ابتسامةً تنمّ عن تعب، وقال: ـــ نعم، تراودنا، ولكنّ الشكوك نافعة، وتعني أنّك حيّ وأنّك تبحث.

كما أن الإنسان لا يصبح مؤمنًا بين ليلة وأُخرى. إنّه يعتقد أنّه مؤمن، ثم يحدث شيء ما في حياته فيصبح غير مؤمن. ويتحوّل، بعد ذلك، إلى مؤمن ثانية، ثم غير مؤمن... وهكذا، حتى نصل إلى مرحلة معيّنة نتذبذب فيها. وهذا هو الطريق الوحيد للمضيّ إلى أمام. ونصبح أقرب إلى الحقيقة، عند كلّ خطوة جديدة.

ـــ يستبدّ بي دائمًا حبُّ الاستطلاع بشأن ذكر الخمر في الشعر الصوفيّ. هل، يا ترى، يمدح الصوفيّون الخمرَ الحقيقيَّة أم المجازيَّة؟ سألني شمس التبريزيّ قبل أن يُنزلني من على ظهره أمام بيتي: ـــ ما الفرق يا صديقي بين الأمرين؟ ثمّة قاعدة توضح هذا الأمر: «عندما يذهب حبيب الله الحقيقيّ إلى حانة، فإنّ تلك الحانة تصبح مكان صلاته. ولكنْ، عندما يذهب مدمن خمر إلى المكان نفسه، فإنّه يصبح حانته. إنّ قَلْبَنا، لا مظاهرنا، هو الذي يجعل الأمر مختلفًا في كلّ شيء نقوم به. لا يحكم الصوفيّون على الآخرين من مظهرهم أو من موقعهم. وعندما يتفرّس صوفيّ في أحد الناس، فإنّه يُغمض عينيه، ويفتح بدلًا منهما عينًا ثالثة؛ العينَ التي ترى ملكوت الباطن».

والآن، إذا سار كلّ شيء على ما يرام، فإنّني أعود بعد أربعة أيّام. هل يمكنني أن آمل ذلك؟ نعم. هل يمكنني السيطرة عليه؟ كلّا. كلّ ما يمكنني عمله هو أن آخذ حاسوبي وأحاول العثور على نقطة اتّصال جيّدة للإنترنت، كما أرجو أن أعيش يومًا آخر. أمّا غير ذلك، فهو ليس بيدي، وهذا ما يسمّيه الصوفيّون العنصرَ الخامس: الفراغَ؛ العنصر الإلهيّ الذي يصعب فهمه أو السيطرةُ عليه، والذي لا يمكننا نحن البشر أن نفهمه، وإن كان لزامًا علينا أن نكون واعين له. أنا لا أؤمن بـ «اللاّفعل»، إن كنتِ بهذا تعنين عدم فعل أيّ شيء، وعدَم إظهار أيّ اهتمام عميق بالحياة. ولكنّي أؤمن باحترام العنصر الخامس.

أعتقد أنّ في وسعنا أن نعاهد الله. أعرف أنّني عاهدته. فعندما أصبحت صوفيًّا، قطعت عهدًا على الله بأن أؤدّي دوري على أفضل وجه ممكن، وأن أترك البقيّة له، وليس لأحد سواه. وقبلت بالحقيقة القائلة إنّ ثمّة أشياء خارج حدودي، فلا يمكنني أن أرى إلّا بعض الأجزاء، مثل مقاطع شريط سينمائيّ. أمّا المشروع الأكبر، فهو خارج نطاق حدود فهمي. والآن، أنت تظنّين أنّني رجل متديِّن. ولكنّي لست كذلك. فأنا شخص روحانيّ، وهو شيء مختلف. فالتديُّن والروحانيّات ليسا شيئًا واحدًا، وأعتقد أنّ الفجوة بين الحالتين لم تكن يومًا ما أكبرَ ممّا هي عليه اليوم.

أعرف أنّك تهوين الطبخ. أتدرين أنّ شمس التبريزيّ يقول إنّ العالم قِدْر هائلة في حجمها، وإنّ شيئًا كبير الحجم يُطبَخ في داخلها؟ نحن لا نعرف حتى الآن ما هو ذلك الشيء، فكلّ ما نفعله أو نشعر به أو نفكّر فيه، إنّما هو مكوِّن واحد من مكوِّنات ذلك الخليط. لا بدّ لنا من أن نطرح على أنفسنا سؤالًا: ما الذي نضيفه إلى تلك القِدْر؟ أترانا نضيف النقمة والبغضاء والغضب والعنف؟ أم الحبَّ والانسجام؟ وماذا عنكِ يا عزيزتي إيلّا؟ ما المكوِّنات التي تعتقدين أنّك تضعينها في طبخة البشريّة الجماعيّة؟ كلّما أفكّر

فيك، أعرف أن الإضافة التي أضيفها هي ابتسامة كبيرة».

نفسَه. إنّ الصوفيّين يجادلون في أنّ النفْس هي العدوّ الوحيد الذي ينبغي للمسلم أن يحاربه.

ويظلّون يردّدون، في خطبهم، أنّه ما دام الإسلام يفتقر إلى المرجعيّة، فإنّ لكلّ واحد طريقتَه الخاصّة به في السعي إلى الله.

التقى أحد الفلاسفة درويشًا في يوم من الأيّام، وسرعان ما انسجم الاثنان، ووجد كلّ واحد في الآخر صديقًا له. وتحدثا على مدى أيّام بلا توقّف، يكمّل أحدهما جملةَ الآخر. وعندما افترقا، في نهاية المطاف، قال الفيلسوف عن الحديث: إنّه يرى كلّ ما أعرفه. أمّا الصوفي فقال: إنّه يعرف كلّ ما أراه.

وهكذا، فما دمت أعرف نفسي، فإنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام. وكلّ من عرف نفسه، عرف الواحد الأحد.

«الحياة قرض موقّت، وهذا العالم ليس سوى تقليد تافه للحقيقة. الأطفال وحدهم يُخطئون الدمية فيتصوّرونها شيئًا حقيقيًّا. ومع هذا، فإنّ بني البشر إمّا تخلب ألبابَهم الدميةُ، وإمّا يحطّمونها من دون احترام ويرمون بها جانبًا. وفي هذه الحياة، ابقَ بعيدًا عن كلّ أنواع التطرّف، لأنّها ستحطّم توازنك الداخليّ. الصوفيّون لا يلجأون إلى التطرّف. الصوفيّ يظلّ هادئًا ومعتدلًا دومًا».

في حين قال البسطاميّ: «العظمة لي، ليس في جبّتي سوى الله». أيّهما أعظم في رأيك؟.

إنّ حبّ الله، كما ترى، محيطٌ لا أوّل له ولا آخر، وإنّ البشر يسعون إلى غَرْف أكبر كمِّيّة من مياهه. غير أنّ خلاصة الأمر هي أنّ كمِّيّة الماء التي يمكن لكلّ واحد منّا أن يحصل عليها إنّما تعتمد على حجم أكوابنا. فبعض الناس يملكون براميل، والآخرون دلاءً، في حين لا تملك فئة ثالثة إلّا أوعيةً صغيرة.

كان إناء البسطاميّ صغيرًا نسبيًّا، وأطفأ ظمأه بعد ملء فمه منه، وكان سعيدًا في المرحلة التي هو فيها. المدهش أنّه استدلّ على الألوهيّة في نفسه، ولكنْ، حتى في مثل تلك الحالة، يظلّ هناك فارق بين الله والذات. الوحدة لم تتحقّق. أمّا بخصوص النبي، فقد اختاره الله وكان لديه وعاء أكبر ليملأه. ولهذا خاطبه الله في القرآن سائلًا إيّاه: {ألم نشرح لك صدرك}. وبهذا، فإنّ قلبه كان واسعًا، وكان وعاؤه كبيرًا، وكان دائم الظمأ.

ولهذا، فإنّه ليس ممّا يبعث على الدهشة أن قال إنّه لم يعرفه حقَّ المعرفة على الرّغم من أنّه كان على وجه التوكيد يعرفه أكثر ممّا عرفه بشر غيره.

كان عزيز، المسالم الملتزم صاحب الأفكار الإنسانيّة القويّة، يؤمن بأنّ كلّ الحروب الدينيّة إنّما كانت في جوهرها «مشكلةً لسانيّة». وقال إنّ اللغة تُخفي الحقيقة أكثر ممّا تكشف عنها. وأساء الناس على الدوام نتيجة لذلك، فهمَ أحدهم الآخر، مثلما أساءوا الحكمَ، بعضهم على بعض. ففي عالم تحكمه الترجمات القاصرة غير الأمينة، لم تعد ثمّة فائدة في أن يكون المرء عنيدًا في أيّ موضوع، لأنّ أقوى معتقداتنا نفسها ربّما يكون سببها سوءَ فهم بسيطًا. وعلى العموم، لا ينبغي للمرء أن يكون متزمّتًا في أيّ شيء، لأنّ «الرغبة في الحياة تعني تغيّر وجهات النظر».

كان عزيز وإيلّا يعيشان في منطقتين مختلفتي الزمان، اختلافًا حقيقيًّا ومجازيًّا. فالزمن، في رأيها، يعني المستقبل أساسًا، فكانت تنفق جزءًا لا بأس به من أيّامها وهي منهمكة في إعداد الخطط للسنة المقبلة والشهر المقبل واليوم التالي، بل حتى الدقيقة التالية. وكانت أشياء تافهة مثل التسوّق وإبدال كرسيّ مكسور، تدفعها إلى أن تخطّط كلّ التفاصيل الدقيقة مسبقًا. وكانت عند خروجها من البيت تحمل في حقيبتها عددًا من الجداول المفصَّلة والقوائم الخاصّة بما ستفعله. وكان عزيز، من الجهة الثانية، يرى أنّ الوقت يرتكز على اللحظة الراهنة. وكّل شيء، ما عدا الراهن، إنْ هو إلّا وهمٌ من الأوهام. وكان يؤمن لهذا السبب نفسه، بأنّ الحبّ لا صلة له بـ «خطط الغد» أو «ذكريات الأمس». فالحبّ لا يمكن أن يكون إلّا هنا والآن. وكانت إحدى رسائله الأخيرة تنتهي بعبارة: «إنّني صوفيّ؛ طفلُ اللحظة الراهنة».

باطن الله؛ وجه الله الخفي. افتحْ لي عقلي كي أرى الحقيقة. عندما طرح شمس التبريزيّ عليّ ذلك السؤال الخاصّ بالنبيّ محمّد والبسطاميّ الصوفيّ، شعرت كأنّنا، أنا وهو، الشخصان الوحيدان اللذان بقيا على وجه الأرض، وامتدّت أمامنا المراحلُ السبع في طريق الحقيقة؛ سبعة مقامات، ولا بدّ لكلّ نفس من المرور بها حتى تصل إلى حال التوحّد.

المرحلة الأولى، مرحلة النفس المحرومة، وهي أكثر حالات الوجود العامّة والبدائيّة، بحيث تكون النفس أسيرة المساعي الدنيويّة. إنّ معظم بني البشر عالقون في هذه المرحلة، يكابدون ويتعذّبون خدمةً لأهوائهم الذاتيّة، ولكنّهم يحمّلون الآخرين، في الوقت نفسه، مسؤوليّةَ شقائهم المستمرّ.

وإذا أصبح شخص ما مدركًا وضع الذات الحقير، وذلك بالبدء بالتفكير في نفسه، فإنّه يستطيع الانتقال إلى المرحلة المقبلة التي تمثّل، بشكل أو بآخر، نقيضَ المرحلة السابقة. وبدلًا من أن يوجّه اللوم إلى الآخرين طوال الوقت، فإنّ الإنسان الذي يصل إلى هذه المرحلة يلوم نفسه لومًا يصل في بعض الأحيان إلى طمس الذات....

وفي المرحلة الثالثة، يكون الفرد أكثر نضجًا، وتتطوّر الأنا أو الذات لتصبح نفسها ملهمة. وفي هذه المرحلة وحدها، وليس في أيّ وقت سابق لها، يمكن للفرد أن يعيش حقًّا المعنى الصحيح لكلمة «تسليم»، ويتجوّل في وادي العرفان. إنّ كلّ من يصل إلى هذه المرحلة سوف يمتلك الصبر والمواظبة ...

ومع هذا، فإنّ من يصل إلى المرحلة الثالثة، يشعر بدافع قويّ من أجل البقاء فيها، فيفقد بذلك الإرادة أو الشجاعةَ للمضيّ قُدُمًا. ولهذا، فإنّ المرحلة الثالثة تمثّل فخًّا للفرد الذي يطمح إلى الارتقا...

إنّ الأشخاص الذين يفلحون في التقدّم إلى أبعد من هذه المرحلة، سيصلون إلى وادي الحكمة، ويتعرّفون إلى النفس السامية، بحيث لا تكون الذات كما كانت عليه في الماضي، لأنّها تكون قد تغيّرت وتحوّلت إلى مستوًى أعلى من الوعي. الكرم والعرفان والإحساس الذي لا يتزعزع بالقناعة بغضّ النظر عن م...

وإلى ما وراء هذا المكان يمتدّ وادي الوحدة، والذين يصلون إليه سيكونون مسرورين بكلّ ما يفرضه الله عليهم من أوضاع، ولا تستحقّ القضايا الدنيويّة أيَّ أهمِّيّة في نظرهم ل...

يصبح الفرد مصباحًا للبشريّة، في المرحلة التالية، أيّ مرحلةِ النفس الراضية، ومفعمًا بحيويّة يمنحها لكلّ من يطلبها، يعلّم وينوّر مثل معلّم حقيقيّ. ويمكن لمثل هذا الفرد، في بعض الأحيان، أن يشفي الآخرين. ويكون هدفه الأسمى،...

وأخيرًا، يصل الفرد إلى المرحلة السابعة، وهي مرحلة النفس المطهَّرة، ويصبح إنسانًا كاملًا. ولكنْ، لا يعرف أحد الشيء الكثير عن هذه المرحلة، وحتى إذا عرف عدد قلي...

يمكن تلخيص المراحل في الطريق بكلّ سهولة، ولكنّها صعبة التطبيق. وفضلًا عن العقبات التي تنشأ في الطريق، ثمّة حقيقة تتّضح في عدم وجود أيّ ضمان للتقدّم المتواصل. فالطريق المؤدّي من المرحلة الأولى إلى المرحلة الأخيرة، ليس طريقًا مستقيمًا، في أيّ حال من الأحوال. فثمّة خطر دائم بالنكوص إلى الوراء في اتّجاه المراحل الأولى. وفي بعض الأحيان، الارتداد من مرحلة أعلى إلى المرحلة الأولى. وفي ضوء العقبات الممتدّة في طول الطريق، فإنّه ليس ممّ...

وهكذا، عندما طرح عليّ شمسٌ ذلك السؤالَ، فإنّه لم يكن يبغي مقارنة من ورائه، بل أراد منّي أن أفكّر إلى أيّ مدى أرغب في التقدّم لأطمس شخصيّتي كي أفنى في الله. وثمّة سوال ثانٍ يتضمَّن سؤاله الأوّل، فقد سألني: ـــ وأنت، أيّها الخطيب المفوَّه، في أيّ مرحلة من المراحل السبع أنت الآن؟ وهل تظنّ أنّ لديك العزيمة على المضيّ إلى ما هو أبعد حتى تصل إلى النهاية؟ قل لي: ما حجم كوبك؟

مؤمن مشوَّش! إذا كان الفرد يصوم كلّ رمضان باسم الله ويضحّي في كلّ عيد شاةً أو معزاة تكفيرًا عن ذنوبه، وإذا سعى طوال حياته من أجل الحجّ إلى مكّة، ويصلّي جاثيًا خمسَ مرّات في اليوم من فوق سجّادة الصلاة، ولكن لا مكان للحبّ في قلبه، فما فائدة كلّ هذا؟ الإيمان ليس سوى كلمة، إن كانت لا تحتوي على الحبّ في جوهرها، وكلمةً غامضة، بلا حياة، فلا يستطيع المرء أن يحسّ بها.

أيعتقدون أنّ الله يُقيم بمكّة أو المدينة؟ أو بأحد المساجد في مكان ما؟ كيف يمكنهم أن يتخيّلوا أنّ الله يمكنه أن يكون محدودًا بمكان معيّن؟ مسكين من يظنّ أنّ حدود عقله الفاني هي نفسها حدودُ الله القدير، ومساكين هم الجَهَلةُ الذين يدّعون أنّ في إمكانهم التفاوضَ مع الله وتسديدَ الديون له. أيظنّ مثل هؤلاء الناس أنّ الله بقّال يحاول أن يزن حسناتنا في مقابل سيّئاتنا في ميزانين منفصلين؟ أهو الكاتب الذي يدوّن تفاصيل كلّ خطايانا في دفتر حساباته ليجعلنا نسدّد له يومًا ما؟ أهذا هو رأيهم في الوحدة؟ لا. ليس الله ببقّال ولا بكاتب. إنّ إلهي إلهٌ عظيم؛ إله حيّ. فلماذا أريد إلهًا لا وجود له؟ إنّه حيّ، وصفته الحيُّ. فلماذا أتمرّغ في مخاوف وهموم لا أوّل لها ولا آخر، وأضع نفسي بين الحدود والمحظورات؟ إنّ الله رحيم بلا حدود، وصفته الوَدود، وهو الشَّكور، وهو الجدير بالحمد والثناء، وأنا أحمده وأشكره بكلّ كلماتي وأفعالي على نحو طبيعيّ من دون مشقّة مثلما أتنفّس، واسمه الحميد. فكيف يمكنني أن أُشيع «القيل والقال» وأن أفتري إذا كنت أعلم، في صميم فؤادي، بأنّ الله يسمع كلّ شيء ويراه؟ إنّ اسمه البصير، وهو جميل لا تتصوّره الأحلام ولا الآمال. الجميل والقيّوم والرحمن والرحيم. سوف أتغنّى به وأرقص له في أثناء المجاعة والفيضان والجفاف والعطش حتى تلتوي ركبتاي وينهارَ جسدي ويتوقّفَ فؤادي عن الخفقان. وسأحطّم ذاتي أشتاتًا حتى أصبح ذرّة من العدم لا أكثر، وعابرَ سبيل في الفضاء الخاوي، وذرّةً من ذرّات معماره العظيم. إنّني أحمده على عظمته وعلى كرمه حمدًا كثيرًا بهيجًا لا ينقطع. إنّني أحمده على كلّ الأشياء التي منحني إيّاها وحرمني إيّاها لأنّه هو وحده الذي يعلم بما هو خير لي.

شعرت بموجة جديدة من السعادة والأمل، وأنا أتذكّر قاعدة أخرى في قائمتي: «للبشر مكانةٌ عظيمة بين خَلْق الله. يقول الله: «فنفخنا فيه من روحنا» إنّ كلّ واحد منّا، بلا استثناء، أُعِدّ ليكون مندوبًا من الله على هذه الأرض. اسألوا أنفسكم: كم مرّة تتصرّفون على هذا الأساس، إن كنتم حقًّا تتصرّفون؟ تذكّروا: ال...

ثمّة أمر ما في الدين يجعل الفرد عاجزًا عن التمييز بين الغابة والأشجار. إنّ شموليّة الدين أعظمُ وأعمقُ من جزئيَّاته ومكوّناته الصغيرة. لهذا تجب قراءةُ القواعد الفرديّة في ضوء المجموع الكلّيّ، كما أنّ هذا الكلِّيَّ خافٍ في الجوهر.

وترى المتعصِّبين يلتقطون آيةً معيَّنة أو آيتين توضحان أهمِّيّة الأوامر الإلهيَّة، فيظنّون أنّها تنسجم وأفكارهم المختفية، بدلًا من أن يبحثوا عن جوهر القرآن ويأخذوا به بمجموعه. فيظلّون يذكّرون كلّ فرد بأنّ كلّ بني البشر سوف يُجبَرون في يوم القيامة على السير على جسر الصراط الأرقّ من الشعرة والأمضى من الشَّفرة، وسيسقط الخطاة العاجزون عن العبور في مهاوي جهنّم من تحتهم، حيث يتعذّبون إلى ما لا نهاية. أمّا الذين عاشوا حياة فضيلة، فسوف يعبرون إلى الجهة الأخرى حيث ثوابُهم الثمارُ اللذيذة والمياهُ العذبة والعذارى. باختصار، هذه هي فكرتهم عن الآخرة. إنّهم شديدو الهَوَس بالعقاب والثواب، النار والفاكهة، الملائكة والشياطين، حتى تجدهم في رغبتهم في الوصول إلى مستقبل يبرّر هويّتهم اليوم وقد نسوا الله! ألا يعرفون إحدى القواعد الأربعين؟ «الجحيم هنا والآن، وكذلك السماء. كفَّ عن التفكير في جهنّم أو الحلمِ بالسماء لأنّهما موجودتان في هذه اللحظة الراهنة. نرتقي إلى السماء، في كلّ مرّة نُغرَم فيها، ونهوي إلى نار جهنّم في كلّ مرّة نكره فيها، أو نقاتل أحدًا ما». هذا ما تنصّ عليه القاعدة الخامسة والعشرون.

أهناك ما هو أحسن من جنّة النعيم الذي يهبط على الإنسان في تلك اللحظات النادرة من حياته عندما تفتح أبواب الكون ويشعر بأنّه يعرف كلّ أسرار الأبديّة، وأنّه توحّد توحّدًا تامًّا مع الله؟ اسألوا ذلك الرجل، وسيخبركم: ما الجنّة.

لِمَ هذا القلق الشديد من الآخرة والمستقبل المتخيَّل في حين أنّ اللحظة الراهنة هي الوقت الوحيد الذي يمكننا أن نعيش فيه عيشة تامّة مصادقة في وجود الله وغيابه عن حياتنا. وهكذا، فإنّ الصوفيّين لا تحفّزهم مخاوف العقاب في جهنّم ولا الرغبةُ في الثواب في السماء، فتراهم يعشقون الله لأنّهم، بكلّ بساطة، يحبّونه حبًّا صافيًا وسهلًا لا تشوبه شائبة ولا يمكن اختراقه.

الحبّ هو السبب. الحبّ هو الهدف. وعندما تحبّ الله حبًّا جمًّا؛ عندما تحبّ كلّ مخلوق من مخلوقاته بسببه وتشكره على ذلك، فإنّ التصنيفات الخارجيّة الغريبة تذوب في الهواء الرقيق. ومن هذه النقطة لا يمكن أن تكون هناك بعد الآن «الأنا»، وكلّ م...

«لا أنا بالمسيحيّ ولا باليهوديّ ولا بالمسلم، لا بالهندوسيّ أو البوذيّ أو الصوفيّ أو الصينيّ، ولا من أيّ دين أو نظام ثقافيّ. لست شرقيًّا ولا غربيًّا... مكاني اللامكان، علامة العلامات».

نعم، الروميّ على حقّ. فهو ليس بالشرقيّ ولا بالغربيّ، بل ينتمي إلى مملكة الحبّ. إنه ينتمي إلى المحبوب.

سمعت، قبل أيّام، رواية تُفيد بأنّ شمس التبريزيّ أخبر طائفة من الناس في السوق، بأنّ عليًّا، خليفة النبيّ ورفيقَه، كان يحارب أحد الكفّار في ميادين المعركة. وكاد عليّ يغمد سيفه في قلب ذلك الرجل عندما رفع الكافر رأسه بغتة وبصق عليه، فما كان من عليّ إلّا أن أنزل سيفه وتنهّد تنهيدة عميقة ومضى في سبيله. فصُعق الكافر من شدّة ذهوله، وركض في اتّجاه عليّ وسأله عن السبب الذي جعله يتركه ويمضي في طريقه، فقال عليّ: ـــ لأنّني كنت شديد الغضب منك. فسأل الكافر: ـــ ولماذا لم تقتلني، إذًا؟ لا أفهم. فشرح له عليّ: ـــ عندما بصقتَ عليّ، غضبتُ غضبًا شديدًا، فقد استنفرت ذاتي فتاقت إلى الانتقام. فلو قتلتك لَسِرْتُ في أهواء ذاتي، وتلك لعمري غلطة كبيرة.

فيّاضة حياتُك، مفعَمةٌ وكاملة، أو هكذا يتراءى لك، إلى أن يأتي أحدهم ويجعلَك تدرك ما الذي ينقصك طوال هذا الوقت. وكما هو شأن المرآة التي تعكس ما هو غائب أكثر ممّا تعكس ما هو حاضر، فإنّه سيريك الفراغ في نفسك؛ الفراغَ الذي رفضت أن تراه. يمكن لذلك الفرد أن يكون عاشقًا أو صديقًا أو معلّمًا روحيًّا. قد يكون أحيانًا، طفلًا يحتاج إلى عناية. المهمّ هو أن تجد تلك الروح التي تكمل روحك. لقد أُعطي الأنبياءُ جميعًا النصيحةَ نفسَها: فتِّشْ عن الشخص الذي سيكون مرآتَك! أمّا أنا، فمرآتي شمس التبريزيّ. فأنا حتى مجيئه وإرغامه إيّاي على النظر في أعماق صدوع روحي، لم أواجه الحقيقة الجوهريّة عن نفسي: فأنا، على الرّغم من أنّني ناجح ومرفَّه من الخارج، فإنّني وحيد، لم تتحقّق رغباتي من الباطن. هذا الأمر أشبه بمَن ينفق سنواتٍ متواصلةً في تأليف معجم شخصيّ. ففيه تضع تعريفاتك لكلّ مفهوم يهمّك، مثل «الحقيقة» و«السعادة» و«الجَمال». وترجع إلى هذا المعجم في كلّ منعطف رئيس من منعطفات حياتك، وقلّما يراودك الإحساس بضرورة الشكّ في طروحاته. ثم يأتي إليك في يوم ما أحدُ الغرباء ويخطف معجمك الثمين ويرمي به بعيدًا، ويقول لك: ـــ تتطلّب كلّ تعريفاتك تعريفًا جديدًا، وقد آن الأوان كي تنسى كلّ ما تعرفه. وأنت، لسبب من الأسباب يجهله عقلك، وإن كان واضحًا لقلبك، توافقه بكلّ سرور بدلًا من أن تعترض على هذا الشخص، أو تخاصمه. هذا ما فعله شمس بي. فقد علّمتني صداقتنا الشيء الكثير، ولكنّ الأهمّ من هذا، علّمني أن أطرح من عقلي كلَّ ما أعرفه.

تذكّرني الحيرة، التي أنا فيها، بحكاية ليلى وهارون الرشيد؛ الخليفةِ العبّاسيِّ المشهور. فعندما طرق سمعَه أنّ شاعرًا بدويًّا اسمه قيس، أُغرم غرامًا يائسًا بليلى، وأنّه جُنّ بسببها ولهذا سُمّي «مجنونًا»، استبدّ الفضول بالخليفة العبّاسيّ لمعرفة تلك المرأة التي تسبّبت بمثل هذا الشقاء. وفكّر، في نفسه، في أنّ ليلى لا بدّ من أن تكون امرأة مميَّزة جدًّا؛ امرأةً تتفوّق على غيرها من النساء. ولعلّها ساحرة لا تضاهيها امرأة أخرى في جمالها وسحرها. فتحمّس وازداد فضولًا ورغبة، وجرّب كلّ حيلة من أجل العثور على وسيلة لرؤية ليلى بأمّ عينيه. وأخيرًا، وفي يوم ما، جاءوا بليلى إلى قصر الخليفة. وخاب ظنّ هارون الرشيد، عندما أزاحت الخمار عن وجهها. لم تكن قبيحة أو مُقعَدة أو عجوزًا، ولم تكن جذّابة أكثر ممّا يجب، بل كانت امرأة عاديّة، لها حاجاتها ومتطلّباتها وعيوبُها مثل أيّ بشر. امرأة بسيطة كغيرها من النساء اللواتي لا حصر لهنّ. لم يُخفِ الخليفة خيبة أمله: ـــ أأنتِ المرأة التي جُنّ بسببها ذلك المجنون؟ لماذا؟ يبدو عليك أنّك امرأة اعتياديّة. ما الذي يميّزك؟ افترّ ثغر ليلى عن ابتسامة وأجابت: ـــ نعم، أنا ليلى، ولكنّك لست بمجنون ليلى. المطلوب منك أن تراني بعينَيْ مجنون، وإلّا فلن تتمكّن من حلّ هذا اللغز الذي يسمّونه الحبّ.

هل هناك من وسيلة لفهم معنى الحبّ من دون أن يصبح المرء عاشقًا أوّلًا؟ الحبّ لا يمكن تفسيره، بل يمكن عيشه فقط. الحبّ لا يمكن تفسيره، لكنّه يفسر كلّ شيء.